آخر تحديث: ١٥ أغسطس ٢٠٢٢م
أعظم وجوه إعجاز التشريع الإسلامي، أنه يقوم على حِفظ مصالح العباد في دينهم ودنياهم، فالشريعة لم تأت بالأحكام والقواعد إلا لحِفظ هذه المصالح المتمثلة في الكليات الخمس: الدين، النفس، العقل، العِرض، المال، وهي الضروريات التي تَستلزمها حياة الإنسان، وبدونها يتعرَّض الإنسان للضرر والفناء، فهي ضرورية لحفظ النوع الإنساني، وهي بحسب أهمية الحق المعتدى عليه: الدين، النفس، العقل، النسل أو العرض، المال.
والمعتبر في الشريعة ليس حفظ هذه الضرورات من النقصان والتضييع فحسب، بل حفظها بتنميتها وتزكيتها، فالحفظ في الشريعة من ناحيتين: ناحية سلبية من جهة الحفاظ على المصلحة من النقص والتضييع، وناحية إيجابية من جهة التنمية والتزكية.
فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يُفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة، وهذه الأصول الخمسة حفظها واقع في رُتبة الضرورات لأنها أقوى المراتب في المصالح [1].
أما التقنينات الوضعية فلا تحفظ أيًا من هذه الكليات:
ففيما يتعلق بحفظ الدين: فطلب الجهاد محظور في جُل النظم الوضعية، والمُسلم في معظم التقنينات حرٌ في تغيير ديانته دون أية عواقب، إذ الدين ليس هو أساس النظام الاجتماعي في نظم الدول التي تُطبق هذه التقنينات.
وأما حفظ النفس: فالسجن عقوبة الضارب أو الجارح أو حتى القاتل في كثير من الأحيان، ولا تعرف التقنينات الوضعية القصاص إلا فيما يتعلق بعقوبة الإعدام مع ما يعتريها من أوجه نقص تجعلها لا تُؤدي وظيفة القصاص في الردع وتحقيق العدل.
وكذا لا تأخذ التقنينات الوضعية بالدية بل تستعيض عنه بالتعويض المدني وهو يختلف عن الدية اختلافًا كبيرًا، وله شروط تجعله لا يُؤدي بحال من الأحوال وظيفة الدية أو بعضًا من وظيفتها في الردع وتهدئة نفس المجني عليه أو ورثته كما سيأتي.
وفيما يتعلق بحفظ العقل: فالتقنينات الوضعية تُحل التجارة في الخمور وشربها، وتُسبغ الحماية القانونية على أماكن تعاطيها، وهي أهم ملوثات العقل والفكر، بل إن بعض النظم القانونية تبالغ في إسباغ الحماية القانونية على أماكن تعاطي الخمور ولعب الميسر المُرخص لها، فلا تُجيز حمل الأسلحة في المحال العامة التي يسمح فيها بتقديم الخمور المرخص لها.
فتجريم شُرب الخمر وإدراجه ضمن جرائم الحدود التي هي أعلى مراتب الجنايات، دون غيره مما يترتب عليه إفساد الجسم والإضرار به: أن علة التجريم ليست متعلقة بإفساد الجسم ذاته، إنما متعلقة بإفساد العقل، وإفساد العقل يجعل ضررها مُتعدي للغير، لأن السكران يلحق بالمجنون في التأثير، بل احتمال إفساده أشد، لأنه يجمع إلى جانب ذهاب العقل الجُرأة، والمجنون ليس كذلك في جميع الأحوال، فاقتضى الأمر التسوية بينهما في المنع عن الناس، ولما كان ذلك غير ممكن بطبيعة الحال، لزم توقيع عقوبة على شارب الخمر زجرًا له، ولأن احتمال مفسدته متعلقة بنفس الغير وماله، استوت طبيعة عقابه بطبيعة عقاب المُعتدي على النفس والمال التي تستوجب الحد أو القصاص، غير أنه لا سبيل لتقرير ذات العقوبة لعدم اتحاد القصد الجنائي، فاكتُفي في عقوبته بالجلد ردعًا له وإصلاحًا لشأنه، إذ الضرب سبيل من سُبل الردع والتأديب بلا أدنى خلاف، ومنعًا من مخالطته المُفسدين بالحبس، أو الاستهانة بالعقوبة بالتغريم.
وبشأن حفظ العرض أو النسل: فالزنا غير مُجرم إلا في حالات قليلة جدًا وهو مباح في أكثر صوره وحالاته، لاسيَّما إذا كان برضاء الطرفين غير المُحصنين، فليس كل وطء محرم زنا، بل الزنا في معظم التقنينات الوضعية ما كان حاصلًا من الزوجين فقط، وهذه هي الحالة الوحيدة للزنا بالتراضي التي يُعاقب عليها القانون لا باعتبارها كبيرة من الكبائر التي نهى الله تعالى عنها، وإنما باعتبارها تشكل اعتداءً على الرابطة الزوجية.
فالقانون المصري – على سبيل المثال – تُعاقب نصوصه الزوجة على جريرة الزنا إذا ارتكبت جريمتها في أي مكان بثبوت ذلك عليها بأي دليل أو حتى قرينة تُدينها من وجهة نظر القاضي، في حين لا يصح إثبات تلك التهمة على شريكها الذي ارتكب معها ذات الجريمة في نفس الوقت إلا إذ قُبض عليه حين تلبسه بالفعل أو اعترف به أو وجدت بينه وبين الزوجة أوراق مكتوبة تفيد بالعلاقة بينهما أو إذا وجد في المكان المُخصص لها [2]، أما الزوج فيمتنع عقابه قانونًا ما دام لم يرتكب جريمة الزنا في مسكن الزوجية [3] ولو تلبس بالجريمة أو أقر بارتكابها خارج منزل الزوجية، فضلًا عن أن عقوبته بأي حال لا تتجاوز نصف عقوبة الزوجة الزانية، فأي أساس عقلي أو منطقي يُمكن للقانون أن يسند إليه هذه التفرقة الفجة بين الزوجة والشريك والزوج؟!
وفي الوقت الذي تُشير فيه دراسات علم الاجتماع والأنثربولوجيا الاجتماعية أن كل المجتمعات البشرية تقريبًا تتسامح في الانحرف الجنسي من الرجال [4]، فالشريعة الإسلامية لا تُفرق بين الزوجة وشريكها والزوج وشريكته، فما دامت تصون مصلحة جميعهم ومصلحة المجتمع كُلية واحدة هي حفظ العرض، وما دام جميعهم يُملَى عليه واجب واحد هو واجب الزوجية، فجميعهم يستحقون العقاب بثبوت الجريمة في حق أي منهم إما بإقراره أو بشهادة أربعة شهود تتواطأ شهادتهم على مشاهدة فعل الزنا بلا عقد ولا شبهة ولا إكراه، فأي شرعة إذن ساوت ثم صانت واحتاطت؟!
والمعتمد في القانون الجنائي أنه لا يُجرم كافة أفعال المساس بالأعراض، وإنما يُجرم ما مثل منها اعتداءً على الحرية الجنسية للفرد كما يقول شُراح القانون الجنائي، ولذا فهو يُجرم اغتصاب الإناث وهتك العرض بالقوة أو التهديد أو صغيرة السن بغير القوة أو التهديد، وأما ما وقع من غير الزوجين إذا كانا بالغين فغير معاقب عليه ما دام بالتراضي ولم يكن الرضا معيبًا بكون المفعول بها لم تبلغ ثمانية عشر عامًا كاملةً، بل يكفُل القانون ممارسة الحرية الجنسية في الحدود التي رسمها القانون، والجريمة في جميع الأحوال إذا ما ثبتت وتمت أركانها جنحة معاقب عليها بالحبس، والزوج هو صاحب الحق الوحيد في تحريك الدعوى قِبل زوجته، وله في أي وقت إسقاط التُهمة عنها، فإن عفا بعد بلوغ الأمر للسلطة ولو بعد صدور الحكم سقطت عنها العقوبة.
بل إن الفاحشة بصفة عامة غير مجرمة في النظم الوضعية إلا إذا كانت في علانية فيما يُعرف بـ “الفعل الفاضح“، أو وقوع الفجور من المرأة على سبيل الاعتياد مع أي أحد بدون تمييز وبمقابل مادي فيما يُعرف بـ “الدعارة“.
وقديمًا كانت توجد قوانين تنظم الدعارة والفجور فقد صدرت في مصر في 15 يوليو 1896م لائحة لبيوت العاهرات والمستبدلة باللائحة الصادرة بتاريخ 16 نوفمبر 1905م، والتي نصت في مادتها الأولى على أن: (يُعتبر بيتًا للعاهرات كل محل تجتمع فيه امرأتان أو أكثر من المتعاطيات عادة فعل الفحشاء، ولو كانت كل منهن ساكنة في حجرة منفردة منه أو كان اجتماعهن فيه وقتيًا)، ونصت في مادتها الخامسة على أن: (يجب على كل من يُريد فتح بيت للعاهرات أن يُخطر المحافظة أو المديرية بذلك بالكتابة قبل فتحه بخمسة عشر يومًا على الأقل، ومتى كان للبيت أكثر من مدير واحد يجب على كل منهم أن يوقع على الإخطار ويكون مسئولًا كذلك في حالة وقوع مخالفة)، ونصت في الفقرة الأولى من مادتها الخامسة عشر على أن: (كل مومسة تكون موجودة في بيت للعاهرات يجب أن تتقدم لإجراء الكشف الطبي عليها مرة في كل أسبوع بمعرفة الطبيب المنوط بمكتب الكشف، وإن لم يوجد فبمعرفة طبيب مصرح له بذلك من طرف مصلحة الصحة).. إلى آخر ما نصت عليه اللائحة من تقنين لوضع بيوت الدعارة وحماية العاهرات والمومسات [5].
والقوانين الوضعية لا تُميز في جريمة القذف بين القول الصحيح والقول الباطل في التجريم، فليس لمن قذف إنسانًا بشيء أن يثبت صحة ما قذفه به، وعليه العقوبة ولو كان الظاهر أن ما قاله صدق لا ريب فيه، بخلاف الشريعة التي لا تقوم فيها جريمة القذف إلا إذا كان القذف باطلًا، وكل من رمى غيره بواقعة أو صفة محرمة وجب عليه أن يثبت صحة ما قذفه به، فإن عجز عن إثبات ما رماه به أو امتنع وجبت عليه العقوبة حدًا أو تعزيرًا [6]، طالما لم يكن له حق فيما ادعاه، فالقانون الوضعي يحمي الصادق والكاذب والشريعة لا تحمي إلا الصادق المستحق للحماية.
والعلانية بإحدى الطرق المنصوص عليها قانونًا شرطٌ في قيام جريمة القذف في القانون، أما في التشريع الإسلامي فالقذف محرم لذاته لا للملابسات المحيطة به، وعليه فالقاذف يُعاقب على جريمته سواء وقع القذف منه في محل عام أو خاص، فيما بينه وبين المجني عليه أو على مرأى أو مسمع من الناس، فقيمة الإنسان أمام نفسه كقيمته أمام غيره، وحرصه على كرامته وعزته في نفسه كحرصه عليهما أمام الناس.
ولم يكتف المشرع الوضعي بهذا، بل استثنى فئات خاصة أباح في حقهم القذف إذا تعلق بما يمس الجوانب المهنية ومتطلباتها، وهو من جنس الخوض في الأعراض، كالموظفين العموميين والمكلفين بخدمة عامة ونواب المجالس البرلمانية والمرشحين لها، والخصوم ووكلائهم فيما يصدر منهم في المحاكمات، وذلك بعلة أن أعمالهم عُرضة للانتقاد وأن إباحة النيل منهم يدعوهم للصدق والإحسان في عملهم، وهذه العلة غير معتبرة في الشرع، ولهذا لا يوجد أية استثناءات في تحريم القذف، لأن أساس تجريمه هو منع الافتراء والكذب والإفك.
وكذلك فجُل النظم الوضعية تستبدل الغرامة المالية بعقوبة الجريمة الحدية الشرعية المقدرة في قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [سورة النور: الآية 4].
بل من إمعان الشرع في منع الفاحشة وإشاعتها حثه الناس على أن يتعافوا الجرائم فيما بينهم، إمعانًا في الستر على المُذنبين، وفتح باب التوبة لهم، ومنع إشاعة القبائح والمُنكرات في المُجتمع لقطع الاستهانة بها والجُرأة عليها، وذلك كله قبل بلوغ أمرها إلى السُّلطة، فإن بلغتها وتيقنت من ارتكابها فقد وجبت العقوبة ولا شفاعة فيها ولا تهاون، إذ مُقتضى الإيمان والتصديق إيثار مرضاة الله على مرضاة الناس، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تَعَافَوُا الْحُدُودَ فِيمَا بَيْنَكُمْ، فَمَا بَلَغَنِى مِنْ حَدٍّ فَقَدْ وَجَبَ» [7].
أما فيما يتعلق بحفظ المال: فجُل التقنينات الوضعية تستبدل عقوبة الحبس بعقوبة الجريمة الحدية الشرعية المقدرة في قول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [سورة المائدة: الآية 38].
والأمر في تقدير مُدة الحبس متروك للقضاة بحسب ظروف كل واقعة وملابساتها وهو ما يسبب تفاوتًا كبيرًا في العقوبات بين الجناة حتى ولو ارتكبوا ذات الجُرم، بل لنفس الجاني إذا ما تكررت منه الجريمة، وهو ما يُثير الريب والشبه ويوقع الأحكام في التناقض ويسلب العقوبة أهم خصائصها وهي المساواة وأنها مجردة، لذلك فقد أثبتت الدراسات الحديثة في علم الإجرام والعقاب أن عقوبة الحبس تحمل السارق وتشجع غيره على احتراف السرقة كمهنة تُدر عليه من الربح ما يربو بكثير على الضرر المتحقق لديه من العقوبة.
وكذلك فإن أكثر التقنينات الوضعية تُبيح القمار والميسر، وتُقر التعامل بالربا، بل إن التقنينات المدنية توجب الحكم بالفوائد الربوية فيما يُعرف بـ “الفائدة القانونية“، فإحدى أهم حِكم وعِلل حظر أكل المال بالباطل في الشريعة، ومن جنسه؛ الربا؛ تحفيز النشاط العيني الحقيقي بضمان حركة السلع والخدمات النافعة الفعلية، وحمايتها من التعطيل كُليًا أو جزئيًا، وتقوية عناصر الإنتاج وضمان مساهمتها وتعاونها لتحقيق تنمية واقعية شاملة، والتاريخ الاقتصادي يُثبت أن الربا من أقوى أسباب ركود الأسواق وتعطيل قوى العمل، فإن من ضرورة السماح بالتربح من النقد المُجرد اعتمادًا على هامش الزمن أن يُؤدي إلى تعطيل حركة السلع والخدمات، إنتاجًا وتجارةً، وهذه نتيجة تنافي مقاصد الشريعة في الأموال، وهي رواجها بالعدل وربطها بالمنافع والأعمال لأن الأصل هو تسخير المال لخدمة الإنسان وسد حاجاته، فكل معاوضة مالية أُخذ فيها المال دون ما يعادلُه أو يكافئُه من جهة المُثمن، فإنها معاوضة باطلة.
فإذا أضفنا إلى ذلك التأثيرات الاجتماعية، إذ يُفضي الربا إلى انقطاع المعروف والإحسان بين الناس، وتكدس فائض المال بأيدي فئة قليلة من المرابين وأصحاب رءوس الأموال الكبيرة الذين لا يضرهم التجارة في المال اعتمادًا على هامش الزمن، بما يورث العداوة والبغضاء والطبقية بين أفراد المجتمع الواحد، فضلًا عن غيره، فتحدث الأزمات الاجتماعية وتنفصم عرى الروابط العصبية القائمة على التعاضد والتكافل والتراحم، وهي أوثق روابط الاجتماع الإنساني والتماسك الاجتماعي واستمراره بكفاءة وفاعلية.
وهو سر وضع القرآن الكريم البيع في سياق المقارنة مع الربا حين قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [سورة البقرة: الآية 275]، لأن البيع جزء من الطبيعة الإنسانية، ووجه الحِكمة في السماح به والحث عليه ظاهر وهو حفظ المال ورواجه بقدر الإمكان بين أيدي أكثر الناس بوجه حق، والذي يُميز الرؤية الإسلامية للبيع أنها تضمن تحقيق الحِكمة الأساسية من مشروعية البيع بحق، إذ تُبطل كل معاملة تُؤدي للحصول على المال بطرق غير مشروعة، وتُيسر كل معاملة تضمن دوران المال بين أيدي آحاد الناس بألا يكون قارًا في أيدي قليلة وهو مقتضى قول الله تعالى: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [سورة الحشر: آية 7].
ولذلك في العقود المدنية نهت الشريعة عن المُحاقَلَة والمُخاضَرَة والمُلامَسَة والمُنابَذَة والمُزابَنَة والمُعاوَمَة والثُّنيا وبيع السِّنِين، وكلها بيوع كانت شائعة عند العرب ترتبط بجهالة تعيين الالتزام، أو بوصفه، أو بإيجاده، أو القُدرة عليه، أو بحدوده وقدره، أو سلامته وبقائه، فحُرمت لأجل ما فيها من الغرر والجهالة، لما فيهما من أكلٍ لأموال الناس بالباطل ولأنهما يُؤديان إلى النزاع والشحناء، وبمفهوم المخالفة إذا أمكن ضبط تلك العناصر في الالتزام ولو لم يكن موجودًا وقت العقد بالوصف الذي لا يُفضي إلى التنازع خرج عن حدود الغرر أو الجهالة المنهي عنهما، وكذلك نهت عن الاحتكار والبيع قبل القبض لأن فيهما منع رواج المبيع في الأسواق وتعسير الحصول عليه، والأصل التيسير، وهكذا، فالرؤية الإسلامية لا تُؤكد فقط على مشروعية البيع، بل تُحيطه بسياج من العدل في غاية الإحكام، بحيث تتحقق الحِكمة من البيع حقًّا لا كما وقع العالم الحديث في براثن استغلال الرأسمالية التي أفقرت أكثر الناس لصالح قلة قليلة من أصحاب رءوس الأموال.
هذه هي الكليات الخمس بين الشريعة والقانون، وهذا هو إعجاز الشريعة الإسلامية في رعاية حقوق الجماعة وحفظ أمنها ونظامها وتماسكها وقوتها.
وإعجاز الشريعة ليس في حفظ هذه الضروريات الخمس فحسب، بل الإعجاز أعظم في دقة ترتيبها بحسب المصلحة التي يحميها كل مقصد، ودفع التعارض فيما بينها، فلا يجوز الإخلال بحكم إلا إذا كانت مراعاته تُؤدي إلى الإخلال بحكم أكثر ضرورة، فالجهاد واجب لحفظ الدين، لأن حفظ الدين أهم من حفظ النفس، وشُرب الخمر يُباح لمن كان مضطرًا لشربها، لأن حفظ النفس أهم من حفظ العقل، وللإنسان أن يقي نفسه من الهلاك بإتلاف مال غيره إذا كان إتلاف المال ضرورة لحفظ النفس، لأن حفظ النفس أهم من حفظ المال.
————
* أصل الدراسة نُشر في موقع “الألوكة” الإلكتروني بتاريخ ٣٠ أغسطس ٢٠١٢م، قبل أن يتم توسيعها وإعادة تناولها ونشرها في كتاب (الشريعة المعجزة) ضمن الفصل الثالث: في فلسفة النظام العقابي.
[1] أبو حامد الغزالي: المُستصفى في علم الأصول، تحقيق: محمد سليمان الأشقر، مؤسسة الرسالة (بيروت)، الطبعة الأولى 1417هـ / 1997م، ج ١ ص ٤١٧.
[2] حيث تنص المادة 274 من قانون العقوبات على أن: (المرأة المتزوجة التي ثبت زناها يُحكم عليها بالحبس مدة لا تزيد على سنتين، لكن لزوجها أن يوقف تنفيذ هذا الحكم برضائه معاشرتها له كما كانت)، وتنص المادة 276 من قانون العقوبات: (الأدلة التي تُقبل وتكون حُجة على المتهم بالزنا هي: القبض عليه حين تلبسه بالفعل، أو اعترافه، أو وجود مكاتيب أو أوراق أخرى مكتوبة منه، أو وجوده في منزل مسلم في المحل المخصص للحريم).
وفي شأن ذلك قضت محكمة النقض في الطعن رقم 697 لسنة 11 ق بجلسة 19 مايو 1941م بأن: (المادة 276 من قانون العقوبات لم تقصد بالمتهم بالزنا سوى الرجل الذي يرتكب الزنا مع المرأة المتزوجة، فهو وحده الذي رأى الشارع أن يخصه بالأدلة المُعينة المذكورة، بحيث لا تجوز إدانته إلا بناء على دليل أو أكثر منها، أما المرأة فإثبات الزنا عليها يصح بطرق الإثبات كافة وفقًا للقواعد العامة).
[3] حيث تنص المادة 277 من قانون العقوبات على أن: (كل زوج زنى في منزل الزوجية وثبت عليه هذا الأمر بدعوى الزوجة يُجازى بالحبس مدة لا تزيد على ستة شهور).
[4] محمود الذوادي: قضايا النشوز والشقاق والطلاق في ضوء القرآن الكريم، مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية، مجلس النشر العلمي، جامعة الكويت، الكويت، العدد السابع والثلاثين، السنة الثالثة عشر، ١٩٩٩، ص ١٨٨.
[5] الغريب في الأمر أن هذه اللائحة ظلت سارية حتى عام 1951م حين أُلغيت بموجب المادة الرابعة عشرة من القانون رقم 68 لسنة 1951م بشأن مكافحة الدعارة.
[6] فأما ما يُحَد فيه القاذف فهو رمى المُحصن بالزنا أو نفى نسبه، وأما ما فيه التعزير فهو الرمى بغير الزنا، ويلحق به السب والشتم ففيهما تعزير أيضًا، فمن سب إنسانًا أو شتمه فعليه عقوبة كمن اتهم غيره بما يوجب عقابه، غير أن الشاتم أو الساب ليس له الحق فى إثبات صحة ما قال، لأن ما قاله ظاهر البهتان ولا يمكن إثباته بطبيعة الحال.
[7] حسن بشواهده: أخرجه أبو داود في سننه (4376/كتاب الحدود)، والنسائي في سننه (4885/كتاب قطع السارق)، وعبد الرزاق في مصنفه (10/229)، والحاكم في المُستدرك (4/424)، والبيهقي في سننه الكبرى (8/٣٣١)، وغيرهم جميعهم من حديث ابن جُريج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وابن جُريج هو عبد الملك بن عبد العزيز، ولم يسمع من عمرو بن شعيب كما روي عن البخاري والبيهقي والعلائي وغيرهم.
غير أن للحديث شواهد منها ما أخرجه البخاري في صحيحه (6781/كتاب الحدود) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتي النبي صلى الله عليه وسلم بسكران، فأمر بضربه فمنا من يضربه بيده ومنا من يضربه بنعله ومنا من يضربه بثوبه، فلما انصرف قال رجل: ما له أخزاه الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا تَكُونُوا عَوْنَ الشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ».