الفزع الحاصل تجاه قضية تعدد الزوجات يرجع إلى الفردية الغالبة التي سيطرت على المجتمع لدرجة أن يعتبر الزنا أقل بغضًا من تعدد الزوجات!
الإسلام يرفض تمامًا الإقصاء الاجتماعي، ولا يدع أي فرصة للحد منه ولزيادة التماسك الاجتماعي والروابط الاجتماعية والعلاقات الاجتماعية والمسئوليات الاجتماعية؛ إلا دعا إليها وسمح أو أمر بها، فضلًا عن رفض تكتيل الثروة ورءوس الأموال في أيدي أفراد محدودة.. وقد كان للصحابي الواحد من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم بسبب تعدد زوجاتهم عشرات الأولاد، بل زاد عدد أبناء أنس بن مالك رضي الله عنه عن المائة ولد، والرجل مفطور على حب النسل والذرية لذلك كان “البنون” زينة الحياة الدنيا!
فعلاقة المعاشرة الزوجية أطول التجارب التي تغرس في الإنسان الحس والطبع الاجتماعي اللذين تحدث عنهما الفلاسفة والمفكرون بقولهم: “الإنسان مدني بطبعه”، لذلك عَظمت الشريعة من الزواج حتى فُضل على الانقطاع للعبادة!
ما المنطق من حرمان الرجل في حقه بالزواج من أخرى، أو الأخرى من الزواج بالرجل؛ دون الانفصال عن الأولى والإضرار بها وبذريتها؟!
الأوهام والاحتمالات لا يصح في أي منظومة عقلية (فضلًا عن الشرعية) أن تحظر حرية أو تحجر على حق توافرت فيه الأهلية اللازمة، لاسيما إذا كنا بصدد حرية تكوين أسرة وحق الأبوة والأمومة، وهي أهم الحريات وآكد الحقوق.
أقل ما يمكن أن يُقال عن تعدد الزوجات لو كان معدوم الفائدة – وهو ليس كذلك قطعًا – أنه يدور شرعًا في فلك اختبار السمع والطاعة ، فهو تابع بشكل كلي للاستجابة لأحكام الدين، والإمعان في تعظيم الخالق بالإمعان في الخضوع له، وهذه في حد ذاتها مصلحة تُعلَّل بها الأحكام، وهو سر قول النبي صلى الله عليه وسلم: “حُفَّتْ الجنة بالمكاره” أي الشديد على النفس الذي لا تميل إليه بسهولة، إذ هو جوهر فكرة “العبودية” و “التسليم”.
أذكر تلك الفتاة الثلاثينية التي عرضت نفسها للزواج على مواقع التواصل الاجتماعي، وتعليقات الناس حولها كانت بين مشفق عليها (وأغلبهم رجال) وبين موبخ لها متعجب منها أو مستجرئ (وأغلبهم نساء، ولا عجب في زمن طفحت فيه النسوية وسيطرت على الأفكار؛ بعلم أو بدون علم، بقصد أو بدون قصد)!
وأيًا ما كان..
* تصرف الفتاة والنقاشات الدائرة حوله لمس جرحًا اجتماعيًا غائرًا من جروح مجتمعاتنا المعاصرة “العنوسة”، التي ترتكز على أزمة التعدد عند النساء، ثم البطالة والظروف المادية الطاحنة، ونوعًا ما تعنت البعض في المهور ومتطلبات الزواج!
المشكلة الأكبر أن حق البنت في طلب الزواج، ليس دورها أصلًا، بعيدًا عن مشروعية استخدامها له واستيعابنا تصرفها، بل المفترض أنه حق اجتماعي مكفول لها، تقوم به:
(١) الدولة أو مؤسسة ما من مؤسساتها: طبعًا ليس الدولة الحديثة أبدًا، لاسيما في بلادنا الاستبدادية والمتخلفة، لأنها لا تستوعب مثل تلك الحقوق الاجتماعية الصرفة شديدة الحساسية، باختصار “ليس لديها Sensor لتَلمس هذه الحقوق والوفاء بها”.
(٢) المجتمع: وكان هو المعول عليه دائمًا أبدًا في أداء هذه الحقوق، بغير وعي في الغالب، أو بوعي أحيانًا قليلة جدًا، سواء من خلال الأهل أو الأقارب أو المعارف، أو من خلال وظائف اجتماعية مندثرة مثل وظيفة “الخاطبة” أو قبول فكرة “التعدد”!
وهذا في الحقيقة جوهر المشكلة حاليًا، والتي ربما تنذر بكارثة، يمكن يكون لها امتداداتها في مشكلات كالإلحاد والانتحار والشذوذ الجنسي فضلًا عن الانحراف والانحلال.
المجتمع فَقد البوصلة تمامًا، وفَقد كل قدرة على أداء أبسط الوظائف الاجتماعية التي كانت أقل ما يمكن أن يُقال: تستوعب الأزمات النفسية عند الناس، لا أقول تحل المشكلات من جذورها لكن على الأقل توفي بمتطلبات الناس النفسية، ولا تضطرهم للوقوع في محظور / مكروه نفسي يكون له تأثيرات وانعكاسات على المستوى الفردي أعظم، وربما يكون سبب مشكلات أكبر من الحل الذي لجأت له البنت، لأن المجتمع حين كان يقوم بهذه الوظيفة بديلًا عنها، ويتصالح مع الأفكار التي تسهل الزواج وتيسره (مثل: التعدد، خفض المهور.. الخ) كان يقدم معها حماية يمكن أن نسميها “فلترة” تعصم هذه البنت من الانكسار، فضلًا عن الوقاية من تربص الضباع وطمع الطامعين!
المجتمع هو البديل الوحيد للدولة الذي يمكن البناء عليه في حماية الناس وضمان حد أدنى (أقل ما يمكن تصوره) من الحياة الكريمة، في ظل دول منهارة تمامًا في أداء الوظائف الاجتماعية وفاقدة كل قدرة على آدائها، لكن حين ينهار هذا المجتمع فما مصير الناس، وما مصير مئات الآلاف من هذه البنت؟!
إذا كنا نريد أن ننجو فرديًّا أو جماعيًا؛ لا بديل عن أن يستعيد المجتمع قدراته ووظائفه الاجتماعية التي اندثرت.