من المعاني الملفتة للانتباه في أخلاق السلف؛ “التَأثم“، أي التحرج والخوف من الوقوع في الإثم، فتجدهم يتركون أفعالًا ويسكتون عن أمور خوفًا من أن يقعوا في الإثم، كانوا يسمون ذلك “الورع“، فربما تركوا الحلال خشية الوقوع في الحرام، صيانةً لدينهم لذلك كانوا يقولون: “ملاك الدين الورع”..
فالمساحة التي تعرف في الفقه بـ “المكروه” التي باتت تساوي “المباح” عند الناس في عصر الحداثة؛ كانت معتبرة جدًا عندهم، وأقرب للحرام منها للحلال، فالأصل عندهم كان تركها، وربط فعلها بالضرورة!
وفي الحديث أن الصحابة كانوا “يتأثمون” أن يتجروا في موسم الحج، رغم عدم وجود نهي، حتى نزلت “ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلًا من ربكم” لترفع عنهم الحرج”! وفي حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه عن تحريم النار على من شهد لا إله إلا الله صادقًا من قلبه.. في نهاية الحديث قال الراوي “أخبر بها معاذ عند موته تأثمًا” أي تحرجًا من الوقوع في إثم كتمان العلم! وفي سيرة مالك بن أنس أنه كان “يتأثم” أن يُحدث الناس بحديث النبي صلى الله عليه وسلم على غير طهارة! وثمة عشرات ومئات الأمثلة حول هذا المعنى.
في اعتقادي إحدى إشكاليات الفتوى والتفقه في الدين في عصرنا؛ الفصل بين الفقه والتزكية، فصرنا نتعامل مع الشرع بنزعة حداثية عجيبة؛ بوصفه محض علم من العلوم التقعيدية على نحو النموذج المعرفي الغربي، فمعاني الورع والتأثم وخوارم المروءة ونحوها من الأبعاد الإيمانية الوجدانية؛ كلها نُزعت تمامًا من سياقات الحلال والحرام، وصار أي استحضار لها في الفقه أو الفتوى لا يعني سوى الجهل والدروشة!
فالتزكية جزء أساسي من بنية العلم في الشريعة، فالله عز وجل بعث في الناس مزكِّيًا قبل أن يكون معلمًا للكتاب والحكمة، قال تعالى: “كما أرسلنا فيكُم رسولًا منكُم يتلوا عليكم آياتِنا ويُزكِّيكُم ويُعلمُكُم الكتاب والحكمة ويُعلمُكُم ما لم تكونوا تعلمون“.
من أجمل تأملات السعدي في قول الله تعالى: “لا يسمعون فيها لغوًا ولا تأثيمًا”؛ أن أهل الجنة لا يسمعون فيها باطلًا ولا ما يتأثمون بسماعه، فحتى ما كان يُؤذيهم من السماعات التي ليست باطلًا؛ لا تصل إليهم.. فكأن الجزاء كان من جنس العمل؛ لما صانوا أنفسهم في الدنيا صانهم الله يوم القيامة.