وقت القراءة 31 دقيقة واحدة
222 عدد المشاهدات

آخر تحديث: ١٥ أغسطس ٢٠٢٢م

لا يُمكن أن نتكلم عن قضية تطبيق الشريعة الإسلامية أن نُغفل الكلام عن موضوع مهم يرتبط بها ارتباطًا وثيقًا مؤثرًا وهو معوقات تطبيق الشريعة [1]، إذ لا سبيل للوصول للحق من دون تذليل العقبات التي تعترضه، وفي ضوء ما سيتم إزالته من عقبات، ومن خلال ما سيتم تقديمه من تهيئة، ستُحسم قضية (تطبيق الشريعة) بسرعة وستؤتي ثمارها بين الناس.

وليس معنى ما تقدم تعليق تحكيم الشريعة لحين تذليل هذه العقبات، فتذليل هذه العقبات يستغرق زمنًا بالتأكيد، بل معناه أن كلا الأمرين – تطبيق الشريعة، وإزالة معوقات تطبيقها – لابُد وأن يسيرا في ذات الاتجاه في ذات الوقت، كما حدث بشأن تحكيم القوانين الوضعية في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، حين عمد المستعمر إلى تفعيل هذه القوانين مع بذل كل الجهد في إزالة عقبات التغريب والعلمنة، رغم أن الشعوب الإسلامية لم تكن لتتقبل ذلك في هذا التوقيت طواعيةً واختيارا، لكن المستعمر لم يُمَكِّن القوانين الوضعية فحسب، بل صاحب ذلك تنفيذ مخططات ممنهجة لمسخ المناهج الدراسية شيئًا فشيئًا، ولم يكن هذا في المدارس النظامية فقط، بل كذلك في المدارس والمعاهد الدينية، حتى مناهج الأزهر لم تسلم من هذا المسخ [2]، وكذلك شرعوا في تأسيس مدارس الحقوق وكلياتها وفق مناهجهم وتكوين جيل يحمل على عاتقه مهمة إنفاذ القوانين وتطويرها والدفاع عنها؛ إما عمدًا أو جهلًا، وليس ذلك فحسب بل أخذوا يُنعِمون بالمنح الدراسية في جامعاتهم على أفذاذ شباب الأمة الإسلامية في مدارسها وكلياتها، كما حدث مع محمد توفيق رفعت، وعلي عبد الرازق، وعبد الرزاق السنهوري، وطه حسين، وعلي عبد القادر، ومنصور فهمي، ومحمد كامل مرسي، وغيرهم [3] ليعودوا في كثير من الأحيان أكثر علمنةً وعداوةً للفِكر الإسلامي وقيمه، وتمكينًا لحركة التغريب في بلاد المسلمين، ففرنسا وانجلترا حصدت ما زرعته وما بذلته من مجهود في سبيل تغيير التوجه العام للشعوب الإسلامية، وتهيئة المناخ نحو رفض تطبيق الشريعة إذا ما أُذن لها أن تعود، وكل ما علينا إذًا هو إعادة تهيئة هذا المناخ نحو تقبل الشريعة كقانون يُتحاكم إليه وبه بإزالة المعوقات والعقبات حيال ذلك.

ويمكننا تقسيم هذه المعوقات إلى قسمين:

الأول: معوقات نفسية وفكرية تتعلق بالإيمان والعقيدة والعوامل النفسية وطرق التفكير.

الثاني: معوقات مادية وواقعية فرضتها حوادث تاريخية أو ظروف حالية.

(١) المعوقات النفسية والفكرية:

أولًا: الجهل بحقيقة الشريعة وقدرتها على مواكبة متطلبات العصر الحديث:

من أهم معوقات تطبيق الشريعة الإسلامية جهل الناس بحقيقة الشريعة وقدرتها على مواكبة متطلبات العصر الحديث، إذ يظنون أنها عاجزة عن الوفاء بهذه المتطلبات والنوازل، وأن مصادر التشريع قد خلت من معالجة المسائل العصرية المستحدثة.

وهذه الظنون مبناها على الجهل بحقيقة الشريعة وبمصادر التشريع الإسلامي، وقد تولدت نتيجة تقصير المفكرين والدعاة عن بيان محاسن التشريع ووجوه إعجازه وأصوله وأحكامه ومصادره، فتطبيق الشريعة يبدأ من بيان محاسنها وإيجابياتها وفضائلها وما فيها من منافع دنيوية ووفاء بمصالحهم قبل إثابتهم / عقابهم على تحكيمها / تنحيتها؛ بإبراز علو كعبها على غيرها من الشرائع والتقنينات، وتقديم صورة واضحة عن الإسلام وأحكامه وقدرته على التعامل مع قضايا المسلمين وغير المسلمين بإنصاف وعدل، وفي الجملة بيان أن الشريعة صالحة لكل زمان ومكان، لكثرة علومها، وتعدد مصادرها، وسعة أحكامها وتنوع قواعدها ما بين كلية وجزئية يمكن تنزيل المسائل والفروع عليها ­ مهما كانت عصرية أو مستحدثة ­ على نحو يضبط حياة الناس ومعاملاتهم ويحل مشكلاتهم الاجتماعية ومنازعاتهم.

بل إن قدرتها على ملاحقة المستجدات القانونية لهو مما يفتح آفاقًا أخرى في الحركة العلمية كما حصل من قبل في الحضارة الإسلامية، لأنها تدفع وتحث على الاجتهاد والبحث والاستنباط، فالنص الديني مُحفز بطبيعته للعقول، لأنه يحض على الاستنباط والقياس واكتشاف العلل، فالاستفادة منه تكون بقدر ما يُمكن استخراجه منه من مفاهيم وقيم وأحكام عن طريق هذه الأدوات وغيرها، فهذه كلها آليات عقلية توطن منهجية خاصة في تحصيل المعرفة وتعلم العلوم.

أو بالعبارة البليغة للقاضي محمد سليمان عنّارة نائب المحكمة الشرعية العليا (- : 1936م): “فإن ينبوع التشريع ظل فوّارًا بالنهضة العلمية الهائلة التي دعت حضارتنا الأولى إليها فأنتجت المنتجات التي يفتخر بها الأخلاف عن الأسلاف” [4]، ولا أدل على ذلك من تأثير أنظمة المواريث والفيء والغنائم في العقل العربي جعلته يُنتج ما أنتجه في العلوم الرياضية على نحو لم يكن من قبل معهودًا عند العرب ولم يسبق إليه أحد، حتى قيل إن هذه الأنظمة مثلت خلفيات أنثروبولوجية واجتماعية لإنتاج علم الجبر، فإنتاج الحضارة الإسلامية في العلوم المختلفة هو الذي أفضى تاريخيًا ومنطقيًا للعلم الحديث.

فإذا أضفنا إلى ذلك أن جزءًا أساسيًا من المجالات القانونية عصي على التطور، فمحدثاته في أضيق الحدود، مثل الزواج والطلاق والنفقات والميراث والعلاقات الدولية والجرائم الخطيرة (الحدود)، فكل هذه بطبيعتها محدودة من جهة تطورها، وهو سر تفصيل القرآن والسُّنة في أحكامها.

وإن من الجهل بحقيقة الشريعة وقدرتها على المواكبة؛ الوهم بالعجز عن تقنينها بوصفها منثورة في بطون أمهات الكتب، وأنها كثيرة متشعبة تستعصي على الجمع والتقنين، ولا سبيل لتطبيق الشريعة من دون تشكيل اللجان وعقد المؤتمرات والندوات ووضع الأبحاث والدراسات والمشروعات لتقنين أحكام الفقه في المجالات القانونية المختلفة، وهو ما يستغرق وقت طويل رُبما يصل لعدة سنوات.

وهذه الدعوى لا يُراد بها إلا تضييع الوقت وتمييع قضية تطبيق الشريعة، فمشروعات تقنين الشريعة مُعَدَّة بالفعل في عدة مجالات قانونية ووفق مختلف المذاهب، سواء التي أعدها مجمع البحوث الإسلامي، أو لجان مجلس الشعب المصري، أو لجان محكمة النقض المصرية، أو حتى لجان جامعة الدول العربية، وإذا كان من نقص في مجال ما من المجالات القانونية، فليس ثمَّة ما يمنع تفعيل المشروعات المُعَدَّة بالفعل لحين الانتهاء من مشروعات أخرى وتنقيح القوانين الوضعية المعمول بها، كما يتم الآن الأخذ بأحكام الشريعة في كثير من مسائل الأحوال الشخصية دون غيرها من المجالات القانونية.

ومن الخطأ الذي وقع في فترة حكم د. محمد مرسي لمصر الإفراط في البحث في التقنين من قِبل بعض الجهات التي عُهد إليها بالنظر في قضية تطبيق الشريعة، وقُدر أن أنضم للجنة الشريعة بالهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح في أول ٢٠١٣م لطبيعة عملي وقتها كقاضٍ واهتماماتي في الكتابة حول موضوع تقنين الشريعة وتحكيمها، وكانت اللجنة تضم عددًا قليلاً من المتخصصين، ويرأس اجتماعاتها بالنيابة د. محمد يسري إبراهيم، وكان أول ما سمعت في اجتماعات اللجنة وكُرِّر لاحقًا أن د. مرسي كان مما يُهِمَّه كثيرًا موضوع تطبيق الشريعة، وأنه طلب من بعض أهل العلم في الهيئة أن يوضع تصورٌ لتطبيق الشريعة ومقترحات لقوانين شرعية في مصر، وبالفعل تم تقسيم العمل بدراسة تجارب الحكم الإسلامي، وبدأنا بعض الأبحاث لكن للأسف لم تتم لضيق الوقت.

كما حدثني أحد المستشارين الكبار بوزارة العدل في حكومة د. مرسي ممن أثق بهم تمامًا ولم يُعد يعمل في القضاء الآن؛ أن مرسي في ضوء حل مجلس النواب في يونيو ٢٠١٢م فوَّض قضاة في وزارة العدل ليتولوا اقتراح القوانين التي يرونها لإصلاح المنظومتين القضائية والقانونية في مصر وتفعيل ما أمكن من الشريعة، وأنه ترك لهم المجال تمامًا فيما يرونه دون أية مصادرات مسبقة أو تدخلات طالما كان يُحقق هدف الإصلاح، لكن للأسف لم يستطيعوا إنجاز شيء يُذكر لأسباب مختلفة متعلقة بالصراعات في الدولة، وليس من بينها؛ ممانعة أو تسويف د. مرسي ومُمثليه.

ففيما أعتقد أن الإرادة السياسية كانت حاضرة، لكن بلا تخطيط جيد، د. مرسي ومستشاريه لم يكن لديهم تصور جزئي أو واضح عن تطبيق الشريعة المأمول، وهذا لا ينفي وجود إرادة كلية عامة بالرغبة في تطبيقها، لكن من أين نبدأ؟! وكيف نبدأ؟! فعهد لبعض المختصين أو من رُؤي أنهم مختصين لوضع هذا التصور واقتراحه، دون أية مصادرات، وبالطبع كانت ستوجد العديد من النقاشات التفصيلية التي ربما تُعطل التفعيل الحقيقي للشريعة حين توضع هذه التصورات التفصيلية، لكن هذا لم يُختبر، ولا يمكن لأحد أن يُجيب عنه، لذلك لم يكن من الحصافة صرف الوقت والطاقة في إعادة البحث والدراسة لموضوع قُتل بحثًا في ظل هذه المعطيات.

فصرف الوقت في إعداد قوانين أو ترتيبها أو دراسة تجارب ما إهدار للزمن وللطاقات، وقد وقع فيه قبل ذلك مجلس د. صوفي أبو طالب في بداية الثمانينات عندما استغرقوا زمنًا في إعداد مشروعات القوانين التي أعدوها وكان يمكن الخروج ببعض المشروعات السابق إعدادها في السبيعينات لحين تطويرها بعد ذلك.

ثانيًا: الهزيمة النفسية:

من معوقات تطبيق الشريعة ضعف الإيمان عند كثير من المسلمين، والشعور بالهزيمة النفسية، وهذا الضعف يتمثل في جانبين:

الأول: عدم الثقة في موعود الله تعالى بنصره للمسلمين إذا ما تمسكوا بدينهم وعادوا لشريعتهم، وعدم الإيمان بقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [سورة النور: الآية 55].

الثاني: عدم الثقة في أحكام الشريعة وقدرتها على مواكبة التطور وتنظيم أحوال المجتمعات وما طرأ عليها والوفاء بحاجات الناس وحل مشاكلهم ومنازعاتهم.

ولضعف الإيمان المتقدم أسباب متعددة، بعضها نفسي عقائدي يتعلق ببُعد المسلمين عن دينهم وعقيدتهم الصحيحة، والشعور بضعف مركزهم أمام الغرب، وتأثرهم بالعلمنة وفكرة فصل الدين عن الدولة، والاعتقاد بأن الدين مصدر التخلف، وبعضها يتعلق بأسباب تاريخية وواقعية جراء الهزائم والخيبات المتوالية التي تعرض لها المسلمون في القرن الأخير من تاريخهم، وانقسامهم وتشتتهم، وتخلفهم اقتصاديًا وعسكريًا مع تقدم أعدائهم، وتزايد نفوذ العلمنة في أجهزة الإعلام ومؤسسات الدولة.

كل هذه الأسباب أدت إلى ضعف إيمان كثير من المسلمين وتغلغل الهزيمة النفسية في أعماقهم حتى ظنوا أنه لا سبيل لهم للخروج من هذه الكبوة، والنهوض من هذه الغفلة، لمسايرة ركب التقدم والحضارة، إلا بتتبع الغرب وفصل الدين عن الدولة.

وهو نتيجة غياب التعبئة النفسية لقيمة الخصائص الثقافية للمسلمين، وما تحققه لهم من ذاتية ثقافية وتميزهم عن باقي الشعوب وبينهم، إذ لا يُمكن أن يتحقق استقلال شعب من الشعوب أو أمة من الأمم إلا بتحقق ذاتيتها وتلمس خصائصها المميزة لها عن غيرها والمنبثقة من عادتها وأعرافها وثقافتها مصدريًا وشكلًا وموضوعًا.

فلا يُمكن الكلام عن حضور مجتمع علمي على سبيل المثال؛ دون الكلام عن الخصائص الثقافية، فالمجتمع يكون موجودًا عندما توجد تقاليد وطنية تُميزه، وإذا انعدمت هذه التقاليد في القوانين التي تحكمه والمبادئ التي يتحاكم لها وتنظم مصالحه؛ لا يبقى سوى كمية من التابعين وتَجمع من الغرباء ذوي تكوين غير متساوٍ إلا في التنافر وعدم التجانُس، أما إذا وجدت التقاليد القانونية كما العلمية والسياسية والاقتصادية وسائر الأشكال الاجتماعية، فإنها تظهر في أسماء العلماء وفي عناوين المؤلفات وفي المواضيع التي طوروها والتجديدات النظرية والتقنية التي قاموا بها [5].

ثالثًا: انعدام الثقة في النُخبة الإسلامية:

فانعدام الثقة في الإسلاميين من المفكرين والسياسيين والقانونيين المنوط بهم وضع الشريعة الإسلامية في موضعها الصحيح في النظام السياسي والقانوني للدولة أدى إلى فقد الناس الثقة في التشريع الإسلامي، لاسيَّما الجوانب التي تتعلق بعلاقة المسلمين مع غيرهم، وقد حدث هذا نتيجة أمرين:

الأول: تعليق كثير من الناس الحكم على التشريع الإسلامي بحكمهم على الدعاة ونخبة المفكرين والسياسيين والقانونيين الإسلاميين.

الثاني: الممارسات الخاطئة لبعض هؤلاء السياسيين والقانونيين، وهو ما ينعكس بالضرورة على دعوتهم وسياساتهم ومناهجهم.

ولِئن كانت ثمَّة بعض الممارسات الخاطئة لهؤلاء الداعمين لقضية تطبيق الشريعة؛ فهذا لا يُضير الشريعة ولا يعيبها، وإنما العيب في الأفراد وممارساتهم الخاطئة، وعليه فيجب التفرقة في الحكم بين المنهج والداعي للمنهج.

رابعًا: التعصب المذهبي والفكري بين المسلمين:

فالتعصب المذهبي والفكري لدى بعض المسلمين جعلهم يتشددون في المسائل الخلافية، ويُثَربون على مخالفيهم، ويوصدون باب الاجتهاد، فنجم عن هذا إساءة الظن بالشرع، والرضا بالقوانين الوضعية بديلًا عن الشريعة.

فمن الثابت تاريخيًا أن القوانين الأوربية نقلت إلى مصر في عهد الخديوي إسماعيل، وأنه كان يود أن يضع لمصر مجموعات تشريعية مأخوذة من الشريعة ومذاهب الفقه الإسلامي المختلفة وقد طلب من علماء الأزهر أن يضعوا هذه المجاميع، ولكنهم رفضوا إجابة طلبه، حيث منعهم التعصب المذهبي من أن يتعاونوا على إظهار الشريعة في أكمل صورها، فضحوا بالشريعة جميعها، واحتفظ كلٌ بمذهبه، والتعصب له، وأضاعوا على العالم الإسلامي فرصة طالما بكوا على ضياعها [6].

والذي زاد الطين بلَّة جمود المتفقهة المفتين والمعلمين والواعظين على نصوص كتب متبوعيهم المتأخرين، بدون تبصر وإعمال روية، ورجوع إلى أصول الشريعة وأقوال السلف، وجهلهم بمقتضى الزمان والعمران، ونفورهم من كل جديد بدون أن يزنوه بميزان الشريعة، ومناوأتهم المجددين بدون إصغاء إلى براهينهم، ومكافحتهم العلوم العقلية والكونية، وتحذير الناس من دراستها، وتحجيرهم على غيرهم الاستهداء من الكتاب والسُّنة لزعمهم أن ذلك كله مخالف للدين، لجهلهم بحقيقة الدين، إذ الشريعة تسير مع العلم جنبًا إلى جنب، واسعة تسع قواعدها العامة كل جديد من مقتضيات الزمان والعمران، وأغرب من هذا أن هؤلاء الجامدين من أُسَرَاء التقليد لا يتأثمون من مداهنة الحكام والتجسس لهم، وغشيان ولائمهم التي يتخللها من المنكرات ما تقطع الشريعة بتحريمه، وتوقيعه المقررات المُستمدة من القوانين الوضعية، أو الأوضاع الإدارية، أو الاستحسان الكيفي، حرصًا على رواتبهم التي يتقاضونها من خزينة الحكومة، أو تعزيزًا لجاههم ومكانتهم، ويتورعون من الاجتهاد في نازلةٍ نزلت بالمسلمين لأنها غير منصوص عليها بصريح العبارة في كتب المتأخرين من متبوعيهم، فنجم عن تورعهم هذا هجر الشريعة والاستعاضة عنها بالقوانين وتشتت شمل المسلمين، إذ ضربت الفوضى أطنابها، وألقى كل واحد حبله على غاربه، وخُيِّلَ إلى الجاهلين بالشريعة أنها عقبة كؤود في سبيل الرقي والتجدد والسعادة، كما رسخ في أذهان الكثير من أبنائها أنها غير وافية بمقتضيات هذا الزمان، لعدم وقوفهم على قواعدها العامة الواسعة الشاملة، لأن هؤلاء الجامدين حالوا بتكاثف جمودهم، وتبلدهم بينها وبين من يريد اقتباس أنوارها والاستضاءة بأشعتها، واقتطاف ثمرها واستنشاق أريج نورها [7].

فالنظر إلى الفقه الإسلامي – بجميع مذاهبه – يجب أن يكون على أنه وحدة واحدة متكاملة، ومساحة واسعة من العلم المقبول؛ الذي يصلح كمصدر مباشر للقوانين، ومن خلال هذه القاعدة الأولية، التي يلزم اعتبارها مسلمة ينطلق المفكرون والفلاسفة والقضاة والقانونيون في استخلاص الأفكار والمبادئ فيما يمكن اعتباره “مرحلة تنقيب واستخراج”، ثم صياغة النظريات القانونية وتأصيل الأحكام فيما يمكن اعتباره “مرحلة تكرير وتصنيع”، لاسيما في شأن “العادات” التي أقرتها المذاهب واتفقت على احترامها، ثم الأقل اتفاقًا عليها، حتى ينفرد باحترامها مذهب أو عالم معتبر، لاستعداد المجتمع لقبولها وعدم نفورها منها.

خامسًا: التأثر بفكرة مناهضة التشريع لحقوق الإنسان:

لا ريب أن اتهام نظام العقوبات الإسلامي وتشريعات الحدود بالقسوة وانتهاكها لحقوق الإنسان؛ هي أكثر شبهة يُروج لها في الأوساط الشعبية وتلوكها العلمنة لوصف أحكام الشريعة بـ “الوحشية والقسوة”، فضلًا عن آراء مفكري المسلمين المتأثرين بهذه الدعوات الذين يشعرون بضعف مركزهم أمام العلمانيين والغرب، فيتهمون هذه الأحكام بـ “عدم الملائمة” إذ لا تسمح بها المدنية الحديثة!

وهذا نابع من عدم الفهم الصحيح لحقيقة نظام العقوبات في التشريع الإسلامي، والجهل بحكمتها وتعدد أغراضها وتنوعها لتحقيق الزجر والردع والتأديب للمُجرمين والمُفسدين بحسب نوع الجُرم المرتكب، فما كانت مفسدته عظيمة كانت عقوبته عظيمة، وما كانت مفسدته يسيرة فعقوبته يسيرة، وما كانت مفسدته مختلف فيها بحسب اختلاف الزمان والمكان فتقدير عقوبته متروكة لولي الأمر، وقد تولى الله عز وجل بحكمته وعلمه ورحمته تقدير عقوبات بعض هذه الجرائم نوعًا وقدرًا لما فيها من المفسدة الثابتة التي لا تتبدل مهما اختلف الزمان والمكان، رفعًا منه عز وجل للحرج وإزالةً للاختلاف.

فالقانون الجنائي الإسلامي يأخذ بمبدأ “تفريد العقاب” فيُفرق في العقوبة من حيث النوع والقدر بحسب جسامة الجُرم المرتكب وخطورة المجرم، وهو ما يكفُل للعقوبة تحقيق أغراضها العامة (الردع العام) والخاصة (الزجر والتقويم).

وفي أغلب التقنينات الوضعية عقوبة السجن أو الحبس هي العقوبة الأصلية العامة التي تُظل معظم المجرمين، وهي في حد ذاتها لم تحقق الردع العام أو الخاص في أرقى دول العالم وأشدها تحضرًا، بل معدل ارتكاب الجريمة في هذه الدول في ازدياد مستمر حسب ما تُثبته الإحصائيات الرسمية فيها، بخلاف الشريعة الإسلامية التي تُطبق إلى جانب السجن أو الحبس عقوبات أُخرى أكثر ردعًا كالرجم للزاني المُحصن، والقطع في حدي السرقة والحرابة، والجلد في حدود الزنا والقذف وشُرب الخمر.

إذ لما كانت المفسدة في هذه الجرائم عظيمة ثابتة لا تتبدل مهما اختلف الزمان والمكان، استلزم ذلك أن تكون العقوبات عليها مؤلمة لتحقق الزجر والردع والتأديب للمفسدين، فنفوس معتادي الإجرام ­ وهم النوع الأخطر من الجناة ­ لا ترتدع إلا بعقوبة قاسية مؤلمة، وفلاسفة القانون يقولون بأن الجزاء الجنائي يكون واجبًا لمواجهة الضرورة الاجتماعية، والجزاءات تختلف باختلاف وزن الضرورة الاجتماعية التي دعت إليها وعلى نحو يتناسب مع بشاعة الفعل المؤثم، وفي الأثر المشهور: “إن الله ليَزَع بالسُّلطان ما لا يَزَع بالقرآن” [8]، أي يردع ويكف ويمنع بقوة السُّلطة ما لا تقومه الدعوة.

وإن تفاوت مراتب الجنايات، يستلزم تفاوت مراتب العقوبات، فمن المعلوم أن الناس لو وُكِلوا إلى عقولهم في معرفة ذلك، وترتيب كل عقوبة على ما يناسبها من الجناية جنسًا ووصفًا وقدرًا لذهبت بهم الآراء كل مذهب، وتشعبت بهم الطرق كل مَشْعَب، ولعظم الاختلاف واشتد الخطب، فكفاهم أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين مؤنة ذلك، وأزال عنهم كُلْفته، وتولى بحكمته وعلمه ورحمته تقديره نوعًا وقدرًا، ورتب على كل جناية ما يُناسبها من العقوبة، ويليق بها من النكال [9].

فالعقوبات الشرعية متعددة متنوعة بحسب الغرض المُبتغى من ورائها، فقد يُناسب الحبس جريمة ما لا يناسبها غيره، وقد يُحقق الجلد الردع الخاص لجاني لا يردعه غيره، وقد يكون الرجم هو السبيل الوحيد لتحقيق الردع العام في جريمة ما، فكل عقوبة لها اعتبارات خاصة بها لمنع الجاني من مقارفة الجريمة التي وضعت لأجلها، فلا تفيد في منع جريمة غيرها، فعقوبة القذف لا تصلح في منع جريمة الزنا، وعقوبة الزنا لا تُجد في الردع عن جريمة السرقة، وعقوبة السرقة لا تصلح في منع جريمة القتل، وهكذا، بل إن الجريمة الواحدة قد تتعدد عقوباتها بحسب ظروف ارتكابها وملابساتها كما في الحرابة.

فلما كانت المفسدة في الجرائم متنوعة بحسب الحق المعتدى عليه من كليات الدين الخمسة: الدين، والنفس، والعقل، والنسل أو العرض، والمال، فقد استلزم ذلك أيضًا أن تكون العقوبة متنوعة ومناسبة لكل جُرم، لأن التناسب بين الأثر والمؤثر يفرض أنّ تكون شدّة العقاب تابعة لشدّة الجُرم، وهذا ينبثق من قاعدة افتراضية يقوم عليها النظام الإسلامي هي أن تطبيق العقوبات هو “الملاذ الأخير“؛ فالأصل هو عدم استخدام العنف تجاه المجتمع، وهو ما يفسر لماذا لم يوجد نظام “السجون” عند تأسيس الدولة الإسلامية وفي أول عهودها وأهمها؛ فوجوده الفقهي وترتيبه في الموضوعات الفقهية ليس في مرتبة متقدمة ولا شبه متقدمة بحال من الأحوال بخلاف كونه جزءًا من نظام الدولة الحديثة والدولة المدنية، ذلك أن العقوبات في الشريعة عارض وليست أصل، فلا تستأهل أكثر من وسائل عارضة كأي ضرورة مثل: “الجلد” و “الرجم”؛ ندُر تطبيقها [10].

(٢) المعوقات المادية والواقعية:

أولًا: الاستعمار السياسي والاقتصادي:

المقصود بالاستعمار السياسي؛ تحكم الدول الغربية العظمى في النظم السياسية للبلاد الإسلامية بُغية السيطرة على القرارات السيادية والسياسية فيها في مجالات الأمن الداخلي والنظام القانوني والتشريعي والسياسة الخارجية، أما الاستعمار الاقتصادي فيُقصد به تحكم الأنظمة الغربية في مصادر ثروات البلاد الإسلامية ومواردها الطبيعية، واحتكارالمواد الخام، والسيطرة على أسواق المال والذهب بها، على نحو يحرم هذه البلاد من استغلال مواردها الطبيعية والمواد الخام بها ويجعلها في عداد الدول الاستهلاكية التي تعتمد في اقتصادها على غيرها من الدول إما لما تصدِّره لها من سلع ومنتجات، أو لما تمنحه لها من قروض وما تقدمه من مساعدات مالية أو عينية.

وقد لجأ المستعمر الجديد لإحلال هذا النوع من الاستعمار محل الاستعمار العسكري في آثاره ونتائجه، بعد أن تكبد خسائر فادحة في الأموال والأرواح في حروبه واستعماره العسكري للبلاد الإسلامية وغيرها، بحيث تُحكِم سيطرتها السياسية والاقتصادية على هذه البلاد وتَحُول بينها وبين تقرير مصيرها بإرادتها الحرة بطريقة لا تثير ثورات الشعوب أو استنكار الرأي العام العالمي.

وكان للأنظمة الغربية وسائل عدة في تحقيق هذا الاستعمار، أهمها: دعم النظم السياسية التسلطية المتجبرة، عقدالاتفاقيات غير المتكافئة، منح القروض والمساعدات المالية المشروطة، تقديم المنح العينية كالآلات والمصنوعات والمركبات والمعدات الحربية دون قطع غيارها، تقديم التسهيلات اللازمة لتصدير منتجاتها لغيرها من البلاد، وضع العراقيل والعقبات لاستيراد منتجات هذه البلاد، إعارة الخبراء والمتخصصين وتقديم المساعدات الفنية المشروطة، المساهمة في تنفيذ المشروعات الاقتصادية الطويلة المدى، الحصول على القواعد العسكرية البرية والبحرية والجوية، إنشاء البنوك الربوية، السيطرة على أسواق المال (البورصات) وأسواق الذهب، إثارة الاضطرابات الداخلية والانقلابات العسكرية والانقسامات الطائفية والحزبية، وغير ذلك.

إن التحرر من هذا الاستعمار هو حجر الزاوية لإقامة النظام الإسلامي ولأي إصلاح في البلاد العربية، وهو العنصر الأكثر تأثيرًا في قضية تطبيق الشريعة وتفعيلها.

ثانيًا: استبداد الحُكام:

فأكثر الحُكام في البلاد الإسلامية رفضوا فكرة تطبيق الشريعة الإسلامية، إما لأنهم انتهجوا سياسة فصل الدين عن الدولة، وإما أنهم خافوا من أن يُؤدي تطبيق الشريعة إلى تأخرهم وتخلفهم، أو جر النزاعات الداخلية وغضب الأنظمة الغربية، أو إثارة الفتن الطائفية والرأي العام الغربي قِبلهم، فهم بين علمانية محضة واستبداد متجذر وتخوفات مُتوهَّمة.

وفي أحسن الأحوال فإن من أقر بأن الشريعة واجبة التطبيق، رأى أنه لا يمكن تطبيقها لضعف الدول الإسلامية، وسيطرة الدول الأجنبية عليها، وأن ذلك سيجلب غضب هذه الدول واتخاذها إجراءات سياسية واقتصادية وربما عسكرية قٍبل الدول الإسلامية إذا ما طبقت الشريعة.

وخشية إغضاب الدول الغربية أو القوى العظمى ما هي إلا عقبة من عقبات تطبيق الشريعة المُتوهَّمة، فثمة تجارب متعددة لتطبيق الشريعة جزئيًا، والقوى الغربية منهكة ليست كسابق عهدها إبان الاستعمار، فلا تملك الإرادة السياسية الكافية للتدخل عسكريًا لقمع تطبيق الشريعة، نعم تدخلت من قبل لقمع تجارب وصفت بالإسلامية لكن ليس لمحض تطبيق الشريعة، بل إن مصالح هذه الدول الاقتصادية والسياسية تحملها على الحفاظ على علاقاتها مع الدول الإسلامية.

بالإضافة إلى ذلك، فإن عجز الدول الغربية عن السيطرة على مشاكلها السياسية والاجتماعية المتعلقة بالمسلمين الذين يزيد يومًا بعد يوم، بعد زيادة أعداد المسلمين فيها، حتى اضطرت في بعض الأحوال للسماح للمسلمين فيها بتنظيم أمورهم عبر ما يُعرف بـ “المحاكم الخاصة“، فأظهرت دراسة أجراها دينيس ماكيون – المختص في الشئون الإسلامية ­ أن عدد مراكز التحكيم الإسلامية التي تفصل في الشئون الأسرية للمُسلمين على مستوى بريطانيا بلغت ٨٥ مركزًا، وهو ما أثار عدد من متعصبي الباحثين والمفكرين النصارى، منهم رومن ويليامز قسيس كنتربري، واللورد نيكولاس فيليبس اللذين انتقدا هذا الوضع واعتبروا أن تزايد مراكز التحكيم الإسلامية يُشكل خطرًا على الوضع القضائي في انجلترا، وافتئاتًا على اختصاص المحاكم البريطانية، وكشف أحد الباحثين القانونيين المناهضين لقضية تطبيق الشريعة الألمان وهو جواتشيم واجنر في كتابه (القضاة العاملون خارج القانون) إلى انتشار ظاهرة النظام القضائي الإسلامي (مراكز التحكيم الأهلية) في ألمانيا والتي باتت تزاحم المحاكم الألمانية الوطنية على حد تعبيره، وفي مقال في مجلة شبيجل أعرب واجنر عن قلقه من تحاكم المسلمين لأحكام الشريعة الإسلامية، وطالب النيابة العمومية بمراقبة المحكمين الشرعيين ومحاكمتهم بشأن عرقلتهم تطبيق القانون الألماني، ومراكز التحكيم الشرعي تنتشر في الولايات المتحدة في طولها وعرضها، مما يسبب جدلًا واسعًا على المستوى القانوني، وبالفعل تقدمت عدد من الولايات الأمريكية في تمرير مشروعات قوانين تحظر إقامة مراكز تحكيم إسلامية وتمنع تطبيق أحكام الشريعة، باءت بعض هذه المشروعات بالفشل.

وأيًا ما كان الأمر، وعلى فرض أن تطبيق الشريعة يجلب غضب القوى الأجنبية، وهي ليست واحدة وليست مجتمعة، فما زال لدى الدول الإسلامية من الوسائل السياسية والاقتصادية والعسكرية على امتلاك حرية القرار والتحرر من التبعية الاجتماعية والعلمية والاقتصادية إذا ما امتلكت شعوبها العزيمة الصادقة والإرادة الحرة.

ثالثًا: أُمية المناهج الدراسية الدينية: 

فلا شك أن المناهج التعليمية النظامية في كثير من البلاد الإسلامية أدت إلى مسخ هوية الطلبة والدارسين الإسلامية والعربية، بل وتعطيل مُكنَّاتهم، وقتل مواهبهم، وإعلاء شأن اللاعبين والتافهين، واعتبار كل متمسك بدينه متخلفًا رجعيًّا، فسُميِّت الأشياء بغير أسمائها، ووُصِفَت بعكس أوصافها، حتى أنكر الصالحون أنفسُهم، وانكسرتْ قلوبهم، وماتتْ هممهم نحو الإصلاح.

وإذا كان تطبيق الشريعة قد بات أمرًا ملحًا، فتطوير المناهج التعليمية وتحديث الجوانب الدينية فيها ­ لاسيَّما بإبراز محاسن الشريعة وأوجه الإعجاز فيها في جميع المجالات ­ هو أمرٌ لازمٌ لتهيئة المناخ نحو تطبيق الشريعة، وذلك لسببين:

أولًا: إعادة تهيئة المجتمع وتوجيهه نحو تقبل الشريعة كقانون يُتحاكم إليه وبه، بل نحو مطالبته بتطبيقها، وتمسكه باستمرارها إذا ما أُذن لها أن تُطبَّق.

ثانيًا: إعداد جيل يستطيع النهوض بمهمة تطبيق الشريعة إذا ما تم تعليمه وتثقيفه وإعداده على نحو يملك معه مقومات الاجتهاد ليعود بهذه الأمة إلى عصر الاجتهاد الفقهي الذي نحن في أشد الحاجة إليه في العصر الحاضر لمواجهة النوازل والمستحدثات.

وهذا التطوير والتحديث يجب أن يكون شاملًا لجميع المراحل التعليمية وفق ما تتطلبه كل مرحلة وتستلزمه، ويجب أن تولي الكليات الحقوقية ومراكز الدراسات القضائية تدريس الشريعة الإسلامية باهتمام فائق وعناية كبيرة بالقدر الذي يتناسب مع كونها المصدر الرئيسي للتشريع.

رابعًا: تخلف المسلمين في العلوم التطبيقية:

فأُمية المسلمين المتفشية في الحقيقة لا تتعلق بالجوانب الدينية فحسب، بل إنها في مجالات العلوم التطبيقية والصناعية والتقنيات الحديثة أعظم وأكبر، وهو ما جعل الأمة الإسلامية في شأن هذه العلوم في ذيل أمم الأرض حتى نعتت البلاد الإسلامية بالمتخلفة والنامية والمتأخرة ودول العالم الثالث إلى غير ذلك.

وقد دفع تخلُّف هذه البلاد عن الدول غير الإسلامية كثيرًا من الناس إلى عزوِ ذلك إلى جمود تفكيرهم وشريعتهم التي يعتنقونها، وهو ربطٌ خاطئ بلا ريب، فماذا حققنا بالبُعد عن الشريعة وتنحيتها لأكثر من مائة عام؟! وماذا استفدنا من تتبع الأوربيين وتقليدهم والأخذ بقوانينهم؟!

إن تخلف المسلمين وإن كان قد بات حقيقةً لا جدال فيها، لكن سببه الحقيقي هو بُعد المسلمين عن دينهم وعدم تمسكهم بشريعتهم، ومحاولتهم تقليد الغربيين، رغم اختلاف مقومات الفريقين ومبادئهما وقيمهما، وهو ما ينعكس بالضرورة على أساليب الحياة والمعيشة ويجعلها متباينة بالضرورة، فلا هم لحقوا بحضارة المسلمين الضائعة ولا هم لحقوا بركب تقدم الغرب.

قطعًا نحن بحاجة كبيرة لتخصصات العلوم التطبيقية، لكن من تضييع الجهود والأعمار انصراف غالب الطلبة النابهين في الحفظ والفهم لدراسة الطب والصيدلة والهندسة، لتخرج الأعداد الكبيرة منهم بعد ذلك للعمل في مجالات لا تعلق لها بالتخصصات التي درسوها، كالسياسة أو الاقتصاد أو الدعوة أو تدريس العلوم الشرعية أو غير ذلك مما هو مُنْبت الصلة عما درسوه، وقد كان في إمكانهم استثمار سنوات دراستهم الجامعية – التي أهدروها – والجهد الذي بذلوه فيها، في تعميق فِكرهم وتوسيع علمهم في مجالات عملهم أو دعوتهم التي انصرفوا إليها.

كما أنه ليس من الحكمة كذلك توجيه أكثر إنتاج هذه دراسة العلوم التطبيقية للعيادات والمستشفيات الخاصة والصيدليات الخاصة ومقاولات العقارات وشركات البرمجة، حيث يلتحق بها أكثر الملتحقين تبعًا لمجموعهم في الثانوية، فهم في الحقيقة أتباع المجموع، ولذلك لا يصمدون – في الغالب – بعد التحاقهم بهذه الكليات أمام طول سنوات الدراسة ولا يُحققون شيئًا يُذكر بعد التحاقهم بسوق العمل، فيُفضلون الهجرة للغرب، أو الوقوع أسرى في شباك المادية والرأسمالية الوظيفية، والفرض أن يكونوا تابعين لاحتياجات الأُمة الفعلية، إذ ينبغي أن تكون هذه دراسة العلوم التطبيقية مصدرًا رئيسيًا للعلماء والمُخترعين والمُكتشفين، كما هو الحال في البلاد الغربية، وهذا هو المقصد الرئيس والأهم لهذه العلوم، رغم إدراكنا الكامل لصعوبة ذلك في البلاد العربية – ولا أقول الإسلامية لأن بعض البلاد الإسلامية استطاعت نوعًا ما التحرر من هذه الصعوبة – لسببين:

الأول: متعلق بدراسة العلوم التطبيقية التي تقدمها الدول العربية، ومعلوم ضعف الإنفاق والمخصصات المالية على هذه العلوم، ونقص الكوادر المُؤهلة في طبقة المُعلمين لاسيما مع هروب العقليات الفذة للعالم الغربي، ومن قَبل تضييق الخناق على هذه العقليات لأسباب كثيرة أهمها استبداد الطبقة الحاكمة وضيق أُفقها وسوء تخطيطها المستقبلي وتبعيتها سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا للغرب، فضلًا عن المنهجية القديمة والتقليدية في التدريس والمقررات والاختبارات واستراتيجيات المتابعة والتقدير، ناهينا عن المحسوبية والوساطة والعُقد النفسية التي تقتل أي أمل لدى الطلبة وذويهم في التغيير.

الثاني: متعلق بالطالب العربي، الذي تنصرف همته – في الغالب – لتحسين واقعه الشخصي، ويتأخر نضوجه الفِكري فيما يتعلق بتحديد رغباته، وضعف ثقته بنفسه، وتشتت ذهنه في النشاطات المختلفة خلال السنوات الجامعية، وعدم درايته – في الغالب – بمشكلات الأُمة الحقيقية ومُتطلباتها الرئيسية نتيجة عدم التحرر الفِكري، فضلًا عن ضعف الإرادة والهمة والصبر والثبات على المُثابرة والجدية، ومن ثمَّ القدرة على إحداث فارق.

وإذا ما عُدنا للشريعة ودورها في النهوض الحضاري وفي العلوم التطبيقية والصناعة؛ فلنا أن نعلم أن الفكرة المركزية في الاقتصاد من المنظور الإسلامي؛ هي العمل، وليس المال أو الربح كما الرأسمالية، فالشريعة بطبيعتها محفزة للطاقات البشرية، وتعطيل النشاط الاقتصادي والتجاري لا يمكن أبدًا أن يكون أثرًا أو نتيجة لتطبيق الشريعة، بل إن تطبيقها لهو أكبر ضامن لإطلاق يد المسلمين في هذا النشاط، والفكرة المركزية في الاجتماع من المنظور الإسلامي؛ هي العطاء، حثت الشريعة على العطاء بعدد هائل من الأدوات، كالهبة والوصية والصلح والوقف والإبراء وغير ذلك.

وقيمة “العمل” كمفهوم اقتصادي لا يُمكن أن تُفهم في الفلسفة الإسلامية بعيدًا عن قيمة “العطاء” كمفهوم اجتماعي وما يرتبط بها من أحكام ومعايير سلوكية، لأن شعور الفرد بقيمة ما يقدمه من أعمق النوازع النفسية الدافعة للعمل، ومنه يُفهمكيف حفزت الشريعة نشاط الإنسان ووجهته وجهته الصحيحة في “عمران” الأرض و “تماسك” المجتمع [11].

خامسًا: العلمنة الإعلامية:

العلمانية هي أشد الأخطار الداخلية التي تواجه المسلمين في الوقت الحالي، وخطورتها لا تتعلق بشبههم التي يبثونها بقدر ما تتعلق بسيطرتهم على الأجهزة الإعلامية، وارتدائهم ثوب العلم والثقافة من خلال ما يتمتعون به من وظائف مرموقة مؤثرة في المجتمع، ومن خلال هاتين الوسيلتين استطاعوا محاربة الشريعة وبث شبههم التي هي من الضعف بمكان يمكن معه دحضها بسهولة وبلا تكلف [12]، لكن الذي حال دون ذلك هو سيطرة العلمنة الإعلامية، بحيث لا يمكن لأبواقها الرد ودحض الشبه إلا بصعوبة بالغة، فلا سبيل إذًا للوصول لتطبيق الشريعة وتهيئة المناخ العام لتقبلها إلا بإيجاد وسائل بديلة مضادة لدفع ضغط العلمنة ودحض شبهها وهو ما يمكن أن توفره – نوعًا ما – تقينات وسائل التواصل الاجتماعي رغم كل ما فيها من تبعية غربية تكنولوجيًا ورغم خضوعها للمعايير الغربية.

والحق أن كثير من المُسلمين مُحبون للدين بالفطرة، مُنقادون بغريزتهم لما علموه وألفوه من أحكامه، لكنهم ولبساطة ثقافتهم ­ التي لا تُؤهلهم لِئن يتمكنوا من فهم ما يُعرض عليهم ويستقلوا بالحكم على الأمور حكمًا صحيحًا ­ متأثرون بفكر غيرهم، متبعون لتوجهات من يدعوهم، فإذا ما مُكِّن للعلماء والفقهاء ورجال الدين من أن يوجهوهم توجيهًا صحيحًا، فإن الأمة ­ التي تمثلها هذه الغالبية العظمى ­ ستعود إلى دينها وشرع ربها.

وهؤلاء يجهلون الشريعة الإسلامية جهلًا تامًا إلا معلومات سطحية عن العبادات، وأكثرهم يؤدون العبادات تأدية آلية، بتقليد ذويهم ونخبهم الدينية، ويندر أن تجد فيهم من يعتمد في تدينه على الدراسة والبحث الشخصي، ويدخل في هذه الطائفة أغلب المسلمين، وتتأثر هذه الطائفة تأثرًا كبيرًا بتوجيهات المثقفين، سواء كانت ثقافتهم أوربية أو إسلامية، ولكنها تنقاد فيما تُدرك أنه يتصل بالإسلام إلى توجيهات المثقفين ثقافة إسلامية، لأنهم أقدر من غيرهم على فهم هذه المسائل، أما ما تعجز عن إدراك صلته بالإسلام فهي تخضع فيه لتوجيهات المثقفين ثقافة أوربية، ومن السهل أن يُسيطر علماء الإسلام على هذه الطائفة سيطرة تامة، يوجهونها توجيهًا صحيحًا، إذا أفهموا أفرادها أن كل شيء من أمور الحياة الدنيا يتصل بالإسلام، وإن إيمانهم لن يتم إلا إذا عولجت الأمور الدنيوية جميعًا على أساس من الشرع الحنيف [13].

سادسًا: تعدد الأحزاب السياسية وتشعب توجهاتها:

الحزب السياسي ما هو إلا وسيلة يتخذها القائمون عليه ذريعةً لانتزاع السُّلطة بُغية تنفيذ السياسات التي أنشئوه من أجلها، وخطورة قضية الأحزاب السياسية تظهر في حال تعددها وضعفها، فتعدد الأحزاب الضعيفة يعني بالضرورة تعدد السياسات والبرامج وتشعب توجهاتها، وهو ما يستتبع في الغالب الأعم الاختلاف والتناحر والتمزق، فإنه لا تكاد توجد قضية واحدة تتفق عليها عدة أحزاب، وإذا وجدت هذه القضية فمن المؤكد أن هذه الأحزاب لن تتفق على تفصيلاتها والجوانب المتعلقة بمعالجتها في الواقع العملي، وقد انعكس هذا على قضية تطبيق الشريعة، إذ عملت كثير من الأحزاب السياسية على اتخاذ هذه القضية مطيةً لجمع المؤيدين وتحقيق أهدافها السياسية بالوصول إلى سُدة الحكم تارةً برفضها وتارةً بوضع خطط منهجية لقبولها تُؤدي في النهاية حتمًا لعدم تطبيق الشريعة.

بل إن معظم تجارب الأحزاب السياسية الإسلامية استخدمت قضية تطبيق الشريعة كدعاية سياسية لا كدعوة دينية لأنهم يطرحونها دون وضع تصور عام للتطبيق، ودون التطرق إلى كيفيه ذلك، ودون فتح حوار بين الاتجاهات المختلفة حول سبل تطبيقها، ودون القيام بأى اجتهادات دينية أو فكرية مُهيئة لقبولها، فتهيئة الأجواء لدى الشعوب هي أكبر ضمانة لتطبيق الشريعة، وهذا لا يتحقق بممارسات الأحزاب السياسية، بل استخدام الأحزاب لقضية تطبيق الشريعة يُزيد من صعوبة تهيئة الأجواء، لأن ممارسات الأحزاب تعتمد على وضع مشروع الشريعة كَنِدّ لمشروعات باقي الأحزاب سواء المشروعات العلمانية أو غيرها دون الالتفات إلى قضايا أخرى، وهو ما يخلق خصومة بين مشروع الشريعة الذي تُنادي به الأحزاب الإسلامية وبين قطاع كبير من المسلمين أنفسهم.

سابعًا: غياب الخطاب الإعلامي الشرعي الصحيح:

عدم وجود رؤية إعلامية شرعية إستراتيجية شاملة، والطريقة الخاطئة التي يُمارسها بعض الدعاة في الدعوة إلى تطبيق أحكام الشرع من أهم معوقات تطبيق الشريعة، حيث يختزل بعض الدعاة قضية تطبيق الشريعة ­ عند عرضها ­ في جانب العقوبات وإقامة الحدود، دون التعرض لغير ذلك من المسائل المدنية ومسائل الأحوال الشخصية والأمور التكافلية الاجتماعية والنظم السياسية والقضائية، فإن الشريعة تمثل منهجًا شاملًا متكاملًا لحياة الأفراد ونظم الدولة في كل جوانبها وفي كل صورها وأشكالها.

هذا فضلًا عن أن البعض حين يعرض لقضية العقوبات الشرعية وإقامة الحدود يقتصر على الدعوة لتطبيقها بأسلوب سطحي دون بيان حكمتها ومحامدها، والخوض في دواعيها وأسبابها وأغراضها وأهميتها في حياة الأفراد، وغير ذلك من جوانب تفصيلية تتعلق بها مما ينبغي إبرازه وبيانه مع أصل القضية.

كما أن تركيز الدعاة في طرحهم لقضية تطبيق الشريعة والدعوة إليها ينصب في مجمله على العوام، وهم مُنقادون بطبيعتهم لغيرهم ممن بيدهم زمام أمور الفِكر، ولو وجهوا جهدهم للمُثقفين ومن بيدهم مقاليد الأمور، فأعدُّوا لهم الدراسات، وعقدوا معهم المناظرات، وأشركوهم في الندوات والمؤتمرات، لأتى ذلك بالخير العظيم.

ويسلك هذا الجيل الجديد في دعوته للإسلام وإقامة شرائعه وشعائره طرقًا قد تُجدي في إقناع الأميين وتعليمهم، ولكنها لا تجدي في إقناع المثقفين ثقافة أوربية، وهم المسيطرون على الحياة العامة وبيدهم الحكم والسلطان في بلاد الإسلام، وكان من الأولى أن يبذل علماء الإسلام جهدًا في إقناع هذا الفريق وتعليمه ما يجهل من أحكام الإسلام، فلو عرف هؤلاء الإسلام على حقيقته لكانوا خير السفراء والدعاة للإسلام [14].

وإن الذي يجمع في تجربته بين التجربتين العلمية (الفقهية) والعملية (القانونية أو القضائية) المتخصصتين – وهم قلة بلا شك – فإن إثماره على مستوى الإنتاج الفكري أو على مستوى التطبيق العملي أو على مستوى التفاعل الاجتماعي يكون أعظم وأكبر من غيره، ورغم أهمية ذلك فالذي أشهد عليه من تجربتي في العمل القضائي أن هؤلاء يكاد يغيب تمامًا كل جهد في دعوتهم واستقطابهم، فالمفاصلة معهم ليست حلًا عمليًا دائمًا، ومنه نلمس جانبًا من حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في استطاب أصحاب النفوذ من أهل مكة والمدينة في صف الدعوة الإسلامية، والحرص على تحييدهم على الأقل، وكيف وظفت الشريعة بعض أدواتها ومواردها في هذا الشأن.

إن تراثنا الفقهي العلمي أغنى وأضخم من تراث أي أُمة أخرى، لكن تقصيرنا في دراسته وإظهاره وتنظيمه وصياغته وفق طرق التدريس والتعلم الحديثة، والإفادة منه بعد ذلك في مدارسنا ومعاهدنا وكلياتنا ­ لاسيَّما الحقوقية منها ­ قد تجاوز كل حد، حتى بات تخلفنا التعليمي حقيقة ثابتة لا مراء فيها.

ولنتأمل فقهاء القانون الفرنسي، فعلى قرب عهده، إلا أنهم أصدروا معاجم لفقه قانونهم حافلة بكل معنى من معانيه وكل غرض من أغراضه، مؤيدة بنصوص القوانين المعمول بها، ومقارنة بأمثالها في مختلف البلاد اللاتينية الأُخرى، ومشفوعة بأحكام المحاكم العُليا في فرنسا وبلجيكا وسويسرا وغيرها، ومرتبة موادها على حروف المعجم، فيستطيع القاضي أو المحامى أو طالب الحقوق أن يراجع كل معنى يريده في دقائق ليجد نصوص القانون وآراء علمائه في تفسيرها وأحكام المحاكم وحيثياتها في تطبيقها [15]، وبالمثل فعل الإنجليز، وكذلك الأمريكان وهم أقرب عهدًا من الفرنسيين والإنجليز.

أما فقهنا السابق على فقه القانون الفرنسي والإنجليزي والأمريكي بأكثر من ألف سنة، والذي ملأ علماؤنا وأئمتنا خزائن الأرض بأجود المؤلفات في تأصيله وتفريعه، وفي شرحه وبيان حكمته، وقد حكم به مئات الألوف من قضاتنا في أوروبا ­ الأندلس وغيرها ­ وفي آسيا وإفريقيا بأحكام أصابت كبد العدل المجرد عن كل غاية وهوى، وأفتى بدقائق وقائعه ومختلف مذاهبه ألوف الألوف من أعلام الفتيا في جميع أمصار الإسلام من عصر الصحابة إلى الآن، فإنه ­ ويا للأسف ­ لا يزال مبعثرًا في المخطوط والمطبوع من كتبه التي لم يتمرس بمراجعتها ولم يأنس بالإفادة منها حتى طلبة كلية الشريعة بالأزهر، فما بالك بطلبة كليات الحقوق في الجامعات المدنية، بل إن أنفس كتب الفقه وأثمنها لا تزال مخطوطة وموزعة في آفاق الشرق والغرب، والمطبوع منها أصبحت طبعاته نادرة وفي حكم المخطوطة، وحتى غير النادر منها كيف يتوصل طلبة العلم إلى مراجعتها بوقت سريع وهي لم تنظم تنظيمًا مقارنًا يقوم عليه فقهاء ضليعون أمناء على هذه الشريعة ويعتبرون عملهم هذا عبادة كما كان فقهاؤنا الأقدمون يتعبدون بهذا الضرب من ضروب القربة إلى الله عز وجل [16].

ــــــــــ

* نُشر أصل هذه الدراسة في في مجلة (البيان) في العدد ٢٩٢ بتاريخ ٢٣ أكتوبر ٢٠١١م، قبل أن يتم إعادة تناولها بتوسع في كتاب (الشريعة والتحديث: مباحث وحقائق تاريخية واجتماعية في قضية تطبيق الشريعة وتقنينها) في الفصل السادس: تطبيق الشريعة وإشكاليات العودة.

[1] أهم الكتب المؤلفة في هذا الباب هي كتب (معوقات تطبيق الشريعة الإسلامية) كلها تحمل نفس العنوان لكل من: محمد أبي الفتح البيانوني، ومناع القطان، وعمر سليمان الأشقر.

وللدكتور عصام العبد زهد والدكتور جمال الهوبي بحث مشترك بعنوان (تحكيم الشريعة ومعوقات التطبيق) مقدم إلى مؤتمر “الإسلام والتحديات المعاصرة” المنعقد بكلية أصول الدين في الجامعة الإسلامية في إبريل 2007م، ومنشور بمجلة البحوث الإسلامية، العدد 77.

[2] بل كانت الحرب حيال الأزهر أشد ضراوةً وخطرًا، يقول مناع القطان نقلًا عن اللورد الإنجليزي لويد الذي كان مندوبًا ساميًا في مصر وساهم في إفساد التعليم فيها: “إن التعليم الوطني عندما قدم الإنجليز إلى مصر كان في قبضة الجامعة الأزهرية الشديدة التمسك بالدين، والتي كانت أساليبها الجافة القديمة تقف حاجزًا في طريق أي إصلاح تعليمي، وكان الطلبة الذين يتخرجون من هذه الجامعة يحملون معهم قدرًا عظيمًا من غرور التعصب الديني، ولا يصيبون إلا قدرًا ضئيلًا جدًا من مرونة التفكير والتقدير، فلو أمكن تطوير الأزهر عن طريق حركة تنبعث من داخله هو لكانت هذه خطوة جليلة الخطر، فليس من اليسير أن نتصور أي تقدم طالما ظلَّ الأزهر متمسكًا بأساليبه الجامدة، ولكن إذا بدا أن مثل هذا الأمل غير متيسر تحقيقه، فحينئذ يصبح الأمل محصورًا في إصلاح التعليم اللاديني (المدني) الذي يُنافس الأزهر، حتى يُتاح له الانتشار والنجاح، وعند ذلك سوف يجد الأزهر نفسه أمام أحد أمرين: فإما يتطورَّ، وإما أن يموت ويختفي”.

مناع القطان: معوقات تطبيق الشريعة، مكتبة وهبة (القاهرة)، الطبعة الأولى 1991م، ص 72: 73.

[3] انظر بتوسع: “الاستعمار وإرثه”، في الفصل الأول: الفصل الأول: إقصاء الشريعة وتمكين القوانين، من كتابنا (الشريعة والتحديث: مباحث وحقائق تاريخية واجتماعية في قضية تطبيق الشريعة وتقنينها).

[4] محمد سليمان عنّارة: بأي شَرعٍ نُحْكَم؟!، مجلة الجمعية المصرية للاقتصاد والإحصاء والتشريع (القاهرة)، العدد 163، إبريل 1936م، ص 290: 365.

[5] رشدي راشد: دراسات في تاريخ العلوم العربية وفلسفتها، مركز دراسات الوحدة العربية (بيروت)، الطبعة الأولى 2011، ص 434.

[6] عبد القادر عودة: الإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه، الاتحاد الإسلامي العالمي للمنظمات الطلابية (الكويت)، الطبعة الخامسة 1405هـ / 1985م، ص 27.

[7] عمر سليمان الأشقر: معوقات تطبيق الشريعة الإسلامية، دار النفائس (عمان)، الطبعة الأولى 1412هـ، ص 71: 72.

[8] أخرجه ابن عبد البر في التمهيد (1/118)، وابن شبه في تاريخ المدينة (3/988) كلاهما من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه موقوفًا عليه، بإسنادٍ مُنقطع من طريق مالك بن أنس ويحيى بن سعيد عن عثمان رضي الله عنه، وكلاهما لم يدركه.

وأخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (4/329) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه موقوفًا عليه، بإسنادٍ ضعيف جدًا من طريق الهيثم بن عدي الطائي، وهو متروك، كذبه ابن معين وأبو داود وغيرهما.

ومعنى الأثر أن الذين ينتهون عن محارم الله تعالى مخافة السُّلطان أكثر من الذين ينتهون عنها لأمر الله، لأن خوف أكثر الناس من عاجل العقوبة أشد من خوفهم من آجلها، ولذا اشترط في الحاكم أن يكون حازمًا قويًا، وقد جاء أبو ذر رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب الإمارة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه مُسلم في صحيحه (1825/الإمارة): «يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ ضَعِيفٌ وَإِنَّهَا أَمَانَةُ»، هذا مع ما لأبي ذر رضي الله عنه من الفضل العظيم في الدين والتقوى، ومع ذلك فقد ولى من هو أنزل منه مرتبة بلا ريب، لكنهم كانوا أجدر بأمر الحُكم والقيادة وأقوى في سياسة الناس والقيام بوظائف الولاية.

[9] ابن قيم الجوزية: إعلام الموقعين عن رب العالمين، تحقيق: محمد عبد السلام إبراهيم، دار الكتب العلمية (بيروت)، الطبعة الأولى 1411هـ / 1991م، ج 2، ص 73.

[10] للمزيد حول هذا الموضوع انظر كتابنا: (الشريعة المعجزة)، مركز أركان للدراسات والأبحاث والنشر (القاهرة)، الطبعة الأولى ١٣٤٣هـ / ٢٠٢١م.

[11] ناقشتُ هذه الأفكار بشكل موسع في كتاب: (الاقتصاد في الإسلام: من المفهوم إلى الإجراء)، يصدر قريبًا عن مركز أركان للدراسات والأبحاث والنشر (القاهرة).

[12] من أهم الكتب التي عنت بدفع الشبه المثارة حول تطبيق الشريعة: تحكيم الشريعة ودعاوى الخصوم للدكتور صلاح الصاوي، معوقات تطبيق الشريعة الإسلامية للدكتور عمر سليمان الأشقر، الإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه للأستاذ عبد القادر عودة، أسباب الحكم بغير ما أنزل الله للدكتور صالح السدلان.

[13] عبد القادر عودة: الإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه، مرجع سابق، الاتحاد الإسلامي العالمي للمنظمات الطلابية (الكويت)، الطبعة الخامسة 1405هـ / 1985م، ص 38: 39.

[14] عبد القادر عودة: الإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه، مرجع سابق، ص 65.

[15] مُحب الدين الخطيب: الأمانة الثانية، مجلة الأزهر، المجلد الرابع والعشرون، الجزء الثامن، غرة شعبان 1372هـ / الخامس عشر من إبريل 1953م، ص 906.

[16] مُحب الدين الخطيب: الأمانة الثانية، مرجع سابق، ص ٩٠٧: 911.

Share via
Copy link