هذه بعض أقوال المفكرين الغربيين وفقهاء القانون وهم أهل الاختصاص والخبرة في قيمة التشريع الإسلامي وحاجة البشرية المُلحة إلى تفعيله في التقنينات المعاصرة، وليس المقصود منها تقييم الشريعة أو إثبات جدارتها وفق الرؤية الغربية، بل شهاداتهم من هذه الزاوية هي والعدم سواء، إنما المقصود بيان علو كعب الشريعة كنظام يحكم السلوك من جهة الثبات والمرونة والمناسبة مقارنةً بالقانون من خلال الأذهان المتشبعة بمركزية القانون إذا تجردت وأنصفت، والحق الذي لا مرية فيه أنه مهما حاول الباحثون إبراز محاسن الشريعة ووجوه إعجازها فلن يوفوها حقها ولن يستوعبوا إلا قدرًا يسيرًا ضئيلًا من إيجابياتها ومحاسنها.
فحين نذكر هذه الشهادات، لا نعدها ذات اعتبار في بيان فضل الشريعة وتقييمها، لأن القول بشيء من ذلك معناه بالضرورة؛ اعتبار طعنهم فيها وخطأهم عليها من جهة مقابلة، إنما الذي نعنيه بذكرها بيان قيمتها في أذهانهم وفي تقديرهم القانوني رغم اختلاف بنية مجتمعاتهم عن بنية المجتمع الإسلامي، وهذا هو المغزى الأساسي من عرضها، والحق ما شهدت به الأعداء!
آخر تحديث: ١٥ أغسطس ٢٠٢٢م
انتبه كثير من الفلاسفة الغربيين وفقهاء القانون لمقومات الشريعة الإسلامية ووجوه تميزها، فلم يتمالكوا التصريح في مؤلفاتهم ومؤتمراتهم بعلو كعبها في المجال التشريعي أو القانوني إن ساغ التعبير مؤكدين استقلالها وتفردها وتطورها وأنها السبيل لخلاص البشرية البائس من ويلات القانون الوضعي وتبعاته المُجحفة.
على أننا حين نذكر هذه الشهادات، لا نعدها ذات اعتبار في بيان فضل الشريعة وتقييمها، لأن القول بشيء من ذلك معناه بالضرورة؛ اعتبار طعنهم فيها وخطأهم عليها من جهة مقابلة، إنما الذي نعنيه بذكرها بيان قيمتها في أذهانهم وفي تقديرهم القانوني رغم اختلاف بنية مجتمعاتهم عن بنية المجتمع الإسلامي، وهذا هو المغزى الأساسي من عرضها، والحق ما شهدت به الأعداء!
يقول الإنجليزي نويل ج. كولسون Noel J. Coulson (١٩٢٨: ١٩٨٦م) أستاذ القانون بجامعة لندن عن الخصائص الأساسية المميزة للشريعة كنظام قانوني متطور والتي جعلتها مُفارقة للنظم والقوانين الوضعية: “ويصح النظر إلى الشريعة على أنها نظام قانوني متطور، وتتميز عند مقارنتها بالقوانين المعتمدة على العقل الإنساني بخاصيتين أساسيتين:
أولها: أنها نظام ثابت لا يتبدل، ومن ثمَّ فإن معاييرها ثابتةٌ ثبوتًا مطلقًا وليس لأي سُلطة قانونية حق تغييرها.
ثانيها: أنها تُمثل السمت الموحد لجميع الشعوب الإسلامية، على حين أن الاختلاف سيكون هو النتيجة الحتمية لقوانين من العقل الإنساني المتأثر بالظروف المحلية الخاصة والمعبر عن احتياجات مُجتمع معين” [1].
ويقول كريستوفر ويرامانتري C. G. Weeramantry (١٩٢٦: ٢٠١٧م) نائب رئيس محكمة العدل الدولية السابق وأستاذ القانون بجامعة موناش في كتابه (شهادة حق: التشريع الإسلامي من منظور دولي): “مع أن نظام التشريع الإسلامي يُعد من أكفأ الأنظمة المتطورة في العالم، إلا أن طُلاب القانون في الغرب لا يعرفون عنه إلا قليلًا جدًا” [2].
بل أثبت ويرامانتري في كتابه المُشار إليه تحت عنوان (التأثير الإسلامي على التشريع الأوروبي وفلسفة التشريع المنزل والعقل الإنساني) أن أشهر أساتذة الفكر الغربي وفلاسفة القانون أمثال: إديلارد أف باث، برتراند راسل، هوبز، بوكوك، جون لوك، جان جاك روسو، مونتسكيو، ديفيد دي سانتيللانا، وغيرهم قد تأثروا بفكر وفلسفة التشريع الإسلامي، وقال في نهاية كلامه عن ذلك: “ومن المؤكد أنه من الجور وعدم العدل أن يكون للأوروبيين تراث فلسفي عظيم بمعزل عما حوله خاصةً في فترة تكوينه، بينما يقف على حودهم تراث ثقافي متطور كان من أهم الثقافات المثيرة التي رآها العالم” [3].
ويقول ويرامانتري عن حيوية وشمولية التشريع الإسلامي وضرورته الإنسانية: “إن التشريع الإسلامي يُمثل كتابًا موجودًا مستوعبًا لكل نشاط الإنسان من المهد إلى اللحد.. فهذا الامتداد يُغطي كل سلسلة الحياة، والمقياس المستخدم لتطوير الحياة هو تمام العدالة، والقياس الموضوع لإحراز كل الوجوه المختلفة للحياة تجده مشمولًا في التشريع الإلهي، لأنه تشريع وضع للعديد من ملايين البشر ليزودهم بالدستور الأعلى للسلوك على مدى قرون طويلة، فلا رجل قانون أينما كان يتحمل تجاهل مبادئ التشريع الإسلامي لأنه جزء حيوي للتراث التشريعي العالمي، ولا رجل سياسة مهتم يُمكنه الادعاء بأنه يفهم المشهد العالمي دون معرفة الحد الأدنى من هذا التشريع الإسلامي” [4].
ويقول الفيلسوف الألماني جوزيف شاخت Schacht Joseph (١٩٠٢: ١٩٦٩م) أستاذ الدراسات الشرقية بجامعة إكسفورد عن تميز التشريع الإسلامي بوصفه قانونًا حاكمًا مستقلًا عن الواجبات الدينية: “ويحق لنا استعمال لفظ قانون إسلامي على المادة القانونية التي كانت بُحكم اندماجها في مجموعة الواجبات الدينية في الإسلام قد عُدلت على كل حال من الناحية المادية أو الشكلية تعديلًا كبيرًا، وأصبحت هذه الموضوعات القانونية هي القانون الإسلامي، ليس فقط بحكم الاعتبارات الدينية والخُلقية التي أُضيفت عليها، بل أيضًا بما جرى عليها من عمل دقيق في الترتيب والتنظيم، بحيث غدت جزءًا من الواجبات الدينية على المسلمين… ورغم أن التشريع الإسلامي قانون ديني، فإنه من حيث الجوهر لا يُعارض العقل بأي وجهٍ من الوجوه، فهو لم ينشأ من عملية وحي متواصل فوق العقل، وإنما نشأ التشريع الإسلامي من منهج عقلاني في فهم النصوص وتفسيرها، ومن هنا اكتسب مظهرًا عقليًا مدرسيًا Scholastic” [5].
ورغم استقلاله وعقلانيته، فيُشير شاخت إلى مدى تشبعه بالاعتبارات الدينية والمبادئ الأخلاقية فيقول: “والتشريع الإسلامي ذو منهج منظم وهو يُؤلف مذهبًا متماسكًا ونظمه المتعددة مترابطة مع بعضها.. ثم إن أحكام الشريعة كلها مشبعة بالاعتبارات الدينية والأخلاقية، وكون العديد من العقود التي هي موضع نظر التشريع الإسلامي تتشابه في تكوينها إلى حد بعيد، إنما يرجع بدرجة كبيرة إلى أن تلك العقود يسودها الاهتمام ذاته بمراعاة نفس المبادئ الأخلاقية والدينية” [6].
وفي توصيف دقيق لسُّلطة التشريع الإسلامي حيال الفرد والدولة وظاهرته الفريدة في التفاعل مع المجتمع يقول شاخت: “إن التشريع الإسلامي يُقدِّم مثالاً لظاهرة فريدة يقوم فيها العلم القانوني لا الدولة بدور المُشرع، وتكون فيها لمؤلفات العلماء قوة القانون، وكان هذا يعتمد على توافر شرطين، هما:
(1) أن العلم القانوني كان هو الضامن لاستقرار ذاته واستمراره.
(2) أن سُلطة الدولة حلت محلها سُلطة أخرى هي سُلطة الفقه والفقهاء، وكانت هذه السُّلطة من العلو بحيث فرضت نفسها على الحاكم والمحكوم.
وقد تحقق الشرط الأول بفضل مبدأ الإجماع الذي له السُّلطة العُليا بين أصول الفقه الإسلامي، وحقق الشرط الثاني القول بأن أساس الشريعة الإسلامية هو حُكم الله” [7].
ويقول الإيطالي إنريكو إنساباتو Enrico Ansabato (١٨٧٨: ١٩٦٣م) في كتابه (الإسلام وسياسة الخلفاء): “إذا كان الإسلام في شكله ثابتًا لا يتغير، فإنه مع ذلك يُساير مُقتضى الظروف ويستطيع أن يتطور معها دون أن يتضاءل مهما مرت عليه الأزمان، لذلك فهو محتفظ بحيويته ومرونته، ولا يجوز قط أن يُهدم هذا الصرح العظيم من العلوم، ولا أن يُغفل شأنه، أو تمسه يد بسوء، إنه أوجد للعالم أرسخ الشرائع ثباتًا، وإنها لشريعة تفوق الشرائع الأوروبية في كثير من التفاصيل” [8].
وقد نصح بيولا كازيلي Piola Caselli- أحد أشهر القانونيين الإيطاليين كان مستشارًا ملكيًا لوزارة العدل ورئيسًا للجنة قضايا الحكومة زمنًا طويلًا – القانونيين المصريين إبان وضع القانون المدني بأن يستمدوه من الشريعة الإسلامية، باعتبارها “أكثر من غيرها اتفاقًا مع روح البلد القانونية” بحسب تعبيره [9].
ويقول الإنجليزي روم لاندو Romauld Landau (١٨٩٩: ١٩٧٤م) أستاذ الدراسات الشرقية في الأكاديمية الأمريكية للدراسات الآسيوية وغيرها من الجامعات الأمريكية: “الواقع أن مجموعة الشرائع التي نشأت من طريق النظام والتنظيم اللذين أحدثهما الإسلام ليس لها ما يقابلها في القوانين الغربية التي انبثقت عن أنماط من السلوك متعارف عليها، ذلك بأن القانون في الإسلام أُسس مُنذ البدء تأسيسًا مباشرًا على الوحي الإلهي الذي تلقاه محمد، ومن هنا لم يكن في حاجة إلى الاقتران بموافقة الجماعة، وبسبب من طبيعته الإلهية وبالتالي المعصومة عن الخطأ سن القرآن شرائع منزهةً عن الضلال، مفروضًا في المُؤمنين أن يعملوا بموجبها، لا كواجب اجتماعي كما هي الحال في الغرب ولكن كجزء من الإيمان بالله” [10].
ويقول الأمريكي روبرت د. كرين Robert D. Crane أستاذ القانون الدولي والمقارن ورئيس جمعية هارفارد للقانون الدولي ومستشار الرئيس الأمريكي نيكسون للشئون الخارجية ونائب مدير مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض سابقًا وأحد أكبر الخبراء السياسيين في أمريكا في كتابه (نموذج للسياسة الإسلامية): “إن الإسلام يُحقق الحرية والعدل معًا وهما ما ينقص العالم وما تريده كل الشعوب”.
ويقول في كتابه (الاستراتيجية الكاملة للعدل) مقارنًا بين أثر التشريع الإسلامي والنُظم الغربية في تحقيق العدالة وحفظ وحماية حقوق الإنسان: “إن العدل وحقوق الإنسان في الغرب تضيع، إنها مجرد شعارات زائفه وتمثيليه هزلية، وذلك لأن المبدأ الحاكم في الغرب هو النسبية والمصلحة التي تتضارب، وبذلك يتم الكيل بمكيالين، ففي داخل المُجتمعات الغربية حقوق لطبقة الأثرياء بينما لا عدل ولا حقوق للفقراء المسحوقين.. أما الإسلام فهو وحده الذي يحقق بالفعل حقوق الإنسان والعدل، لأنه عدل مطلق وواحد وذلك لأنه أمر إلهي والله مطلق”.
ويقول المُستشرق النمساوي ألفرد فون كريمر Alfred von Kremer (١٨٨٩: ١٩٢٨م) القنصل السابق للنمسا في مصر وبيروت في فضل الفقه الإسلامي وخصائصه من الناحية القانونية: “إن الفقه الإسلامي هو أعظم عمل قانوني في تاريخ العالم، يفوق القانون الروماني وقانون حمورابي نظرًا لما فيه من حكمة إلهية وبناء منطقي هائل، ولكن الفقه لم يسجل الشريعة في مواد قانونية مُحددة حتى لا يُصيبها الجمود وتحتاج إلى تغيير وإنما أبقى على مبادئ وأحكام عامة، ولذلك فهي صالحة لكل البشر في كل زمان ومكان”.
ويقول: “إن الإسلام ليس مجرد رسالة أخلاقية وقيم روحية في الفراغ وإنما لابد من تفعيلها وتحقيقها في المُجتمع والدولة لأن وجود العقيدة في عقل وقلب المسلم بدون وجود دولة معناه الوقوع في الفوضوية، وبدون تحقق الإسلام في سلوك الأفراد داخل المُجتمع تصبح الحياة غابة وإن الاتحاد بين ما هو روحي وما هو مادي أي بين الدين والحياة هو أساس الإسلام وإن فصل الدين عن الدنيا وعن السياسة والدولة هو قضاء على الإسلام وعلى الدنيا وعلى الدولة”.
ويقول الكاتب الإنجليزي بوسورث سميث Bosworth Smith في كتابه (حياة محمد): “من حسن الحظ في التاريخ دون غيره أن محمدًا أسس في وقت واحد ثلاثة أشياء من عظائم الأمور وجليل الأعمال، فإنه مؤسس لأمة وإمبراطورية وديانة، مع أنه أمي وقلما كان يقدر أن يقرأ أو يكتب، ومع ذلك أتى بكتاب هو آية في البلاغة ودستور للشرائع وللصلاة وللدين في آن واحد” [11].
ويقول فيليب حتى (1886: 1978م) الأستاذ بجامعتي هارفارد وبرينستون الأمريكيتين: “الإسلام منهج حياة، وهو بهذا النظر يتألف من ثلاثة جوانب أساسية: الجانب الديني، والجانب السياسي، والجانب الثقافي، هذه الجوانب الثلاثة تتشابك وتتفاعل، وربما انقلب بعضها إلى بعض مرةً من غير أن نلحظ ذلك” [12].
ويقول: “إن نسخ شريعة محمد للشرائع التي سبقته سببه أن شريعته آخر الشرائع وأتمها في الاستجابة إلى حاجات البشر التي كانت قد تزايدت مع الزمن ومع نُضْج البشر الروحي، ولقد كان من أسباب ذلك أيضًا أن اليهود والنصارى كما جاء في القرآن قد بدلوا الوحي الذي نَزَلَ عليهم في شريعتهم، إن الله قد قال على لسان محمد كلمته الفَصْل إلى الإنسانية، وليس بالإمكان أن يكون بعد ذلك كلمةٌ أُخرى أكثرُ فصلًا أو أحسن دلالة” [13].
ويقول الفيلسوف والسياسي الأيرلندي إدموند بيرك Edmund Burke: “القانون المحمدي قانون ضابط للجميع من الملك إلى أقل رعاياه، وهو قانون نسج بأحكم نظام قضائي وأعظم تشريع” [14].
ويقول الفرنسي إدوارد لامبير Edward Lambert أستاذ القانون المدني وعميد كلية الحقوق بجامعة ليون وناظر مدرسة الحقوق الخديوية [15] مخاطبًا تلاميذه من دارسي القانون العرب: “إن لديكم كنزًا لا نظير له عندنا، هو فقهكم الإسلامي.. إن القانون المقارن الذي تدرسونه في القانون الغربي له مكان مرموق عندكم، والمؤلفات العربية حافلة بأدق النقد العلمي الحقوقي، وبأمثلة بديعة من النقاش المنطقي والتحليل الناقد الذي لا يزيد قارئه علمًا بموضوع البحث فحسب، بل يُربي فيه ذوقًا حقوقيًا يندر أن يحصل على مثله في كلياتنا الحقوقية” [16].
ويقول الفيلسوف الفرنسي جول لابوم Jules La Beaume (١٨٠٦: ١٨٧٦م) : “ينبغي على أهل الأرض على اختلاف ألوانهم ولغاتهم أن ينظروا بعين الإنصاف إلى ماضي العالم ويطالعوا صحيفة العلوم والمعارف قبل الإسلام، ويتعرفوا بأن العلم والمعرفة لم تنتقل إلى أهل الأرض إلا عبر المسلمين الذين استوحوا هذه العلوم والمعارف من القرآن كأنه بحر من المعارف تتفرع منه الأنهار، القرآن لا يزال حيًا وكل فرد قادر على أن يستقي منه حسب إدراكه واستعداده”.
ويقول المُفكر الفرنسي ألفونس إيتان دينيه A. Étienne Dinet (1861: 1929م) في كتابه (محمد رسول الله) عن صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان مهما بلغت درجة التحضر والرُقي: “لقد أكَّد الإسلام من الساعة الأولى لظهوره أنه دينٌ صالحٌ لكل زمان ومكان، إذ هو دين الفطرة، والفطرة لا تختلف في إنسان عن آخر، وهو لهذا صالح لكل درجة من درجة الحضارة”.
بل إن التشريع الإسلامي لا تبرز خصائصه العلمية إلا حيث يرتقي الإنسان في المدنية وترتفع درجة تحضره، ولنا في تراث المسلمين الفقهي الغزير وفي نشوء عشرات المدارس الفقهية في التاريخ الإسلامي حين اتسعت رقعة العالم الإسلامي خير شاهد ودليل على ذلك، حيث كانت الدولة الإسلامية منارة العلم في كافة المجالات الطبيعية والنظرية والأدبية وقطع علماء التاريخ في الشرق والغرب بفضلها على سائر الأمم، وفي هذا المقام يقول الإنجليزي هاملتون ألكسندر جب Hamilton A. Gibb (١٨٩٥: ١٩٧١م) : “ومظهر بارز يُميز التشريع الإسلامي، وهو أن مهمة التعريف والتصنيف استغرقت خلال القرون الثلاثة الأولى الطاقات الفكرية لدى الأمة الإسلامية، إلى حد لا نظير له، ومثل هذا التركيز الفكري الحاد تمخض عن منازعات حول التفصيلات، وأحيانًا حول القضايا، فكانت تلك المنازعات مريرة طويلة الأمد مثلما أنها كانت محتومة، وفي غمار ذلك كله كان القرآن يُحقق أثرًا مسددًا للخطى داعيًا إلى الاعتدال، فإذا ورد النص الصريح على أمر لم يستطع أحد أن يتشبث بحصة رأيه الذاتي، كلهم خاضع لتلك القوة العُليا، وقد جعلهم الولاء المشترك لتلك القوة على وعي بأمتهم، حتى الخلافات المذهبية الناجمة عن الخلافات السياسية والكلامية لا تستطيع أن تزعزع الوحدة الأساسية في الوجهات والأساليب التشريعية.. تلك الوحدة المؤسسة على القرآن في أهم ما يهم المسلمين هي التي أدت بأغلبية المسلمين أولًا إلى التساهل الفذ والتسامح في الخلافات حول الفروع، وأخيرًا إلى أن يُدرك المسلمون أنه إذا كانت الأمة موحدة في القضايا الكبرى، فوجود الخلافات في ما عداها رحمة وتوسعة على الناس، وعليهم أن يتقبلوها بالشكر لأنها بركة من الله، وعلى الضد من ذلك كان إنكار الأمة بالوعي هو الذي أدى بالشيعة إلى معارضة عقيمة..
ولا نستطيع أن نُقدر أثر هذه الحيوية التشريعية في الفكر الإسلامي الديني حق قدره، فحين تم إنشاء علم الشريعة ومبناها لم يضعا فحسب إطارًا صلبًا حول المُثل العُليا الإسلامية في الواجبات الأخلاقية والعلاقات الإنسانية مع عنصر طفيف من المرونة يسرته المذاهب الفقهية بل إن الشريعة نفسها حددت القانون الأساسي الذي تسير عليه الجماعة الإسلامية تحديدًا جامعًا مانعًا.
فالشريعة لدى المسلم تعني ما يعنيه القانون الأساسي أو الدستور لدى سكان الولايات المتحدة وتزيد عليه، إذ أنها وضعت أصولًا وقواعد لكل النظم والمؤسسات والمُجتمعات الإسلامية، وظلت تلك الأصول من عهدئذٍ ملاذ الحضارة الإسلامية خلال التقلبات العديدة المُفزعة التي تمت في القرون الأخيرة، وقد عبرت الشريعة عن جماعة إسلامية موحدة، بل هي التي خلقتها، على الرغم من التمزق والصراع السياسي، وما تزال على الرغم من نقدات المجددين والمصلحين المسلمين؛ التجسد الوحيد لوحدة المعتقد بين المسلمين، ولولاها لكانت تلك الوحدة شكلية خالصة.. وإن الإبقاء على الشريعة يرتبط به بقاء الإسلام أو زواله من حيث هو نظام مؤثل” [17].
وتقول د. لورانا جليري Lorna Gallery: “والإسلام دين ودولة بكل ما في الكلمة من معنى، ففضلًا عن أنه قد أظهر الله للناس، فقد أنشأ أيضًا حقوقًا وواجبات، وأقر ضرورة تنفيذها بالسُّلطة الزمنية، وليس الخليفة لدى المسلمين زعيمًا دينيًا معصومًا من الخطأ، وعليه لكي يكون قادرًا على تحقيق العدالة أن يلم بما يكفي من الشريعة للتمييز بين الحق والباطل، وشأنه شأن باقي المسلمين في فهمه للكتاب المقدس، ولا طاعة له عليهم إلا طالما بقى في الحدود السليمة، فإن تخطاها حق لرعاياه تنبيهه إلى واجبه وتحذيره” [18].
ويصف ستانوود كب Stanwood Cobb (١٨٨١: ١٩٨٢م) أستاذ التاريخ بجامعة هارفارد والأكاديمية البحرية الأمريكية؛ أثر قواعد العدالة التي جاء بها الإسلام واستطاع فقهاء المسلمون وقضاتهم أن يوجدوا استنادًا إليها أعظم نظام قضائي بصورة واقعية عملية لا نظرية بحتة: “ووضعت قواعد العدالة وأُديرت مرافقها، عدالة عملية بسيطة في أول الأمر، ثم ما لبثت أن ارتقت في ظل الشريعة الإسلامية، وكان في إمكان أدنى المواطنين الوصول إلى القاضي ولو كان الخليفة هو الذي يُمارس القضاء، وأعان على الاستقرار الاقتصادي نظام جديد للضرائب أكثر عدالةً من النظام الذي كان قائمًا في حكم الرومان” [19].
ولا يفوتنا في هذا المقام أن نُشير إلى قولة المؤرخ الإنجليزي إدوارد جيبون Edward Gibbon (١٧٣٧: ١٧٩٤م): “القرآن مُسَّلم به من حدود الأوقيانوس الأطلانطي إلى نهر لجانس بأنه الدستور الأساسي، ليس لأصول الدين فقط، بل للأحكام الجنائية والمدنية وللشرائع التي عليها مدار حياة نظام النوع الإنساني وترتيب شئونه، إن الشريعة المحمدية تشمل الناس جميعًا في أحكامها من أعظم ملك إلى أقل صعلوك، فهي شريعة حيكت بأحكم وأعلم منوال شرعي لا يوجد مثله قط في العالمين” [20].
بل حتى المؤرخون والمُستشرقون وفلاسفة القانون والفكر الغربي المتعصبون لم يستطيعوا أن يمنعوا أنفسهم من الاعتراف بعدالة الشريعة الإسلامية وخصائصها المميزة وعلو كعبها على سائر الشرائع والنظم القانونية، على سبيل المثال يقول برنارد لويس Bernard Lewis (١٩١٦: ٢٠١٨م) الأستاذ بجامعتي برنستون وكورنل الأمريكيتين أحد أشهر فلاسفة الغرب المتعصبين ضد الإسلام: “كثيرًا ما يُقال عن أن الإسلام دين المساواة، وهو قول صادق إلى حد بعيد، فإذا قارنّا بين الإسلام عند نزوله بالمُجتمعات التي كانت قائمة من حوله، سواء في الشرق الأوسط حيث الإقطاع الفارسي الذي انقسم النّاس فيه إلى طبقات بعضها فوق بعض، وحيث نظام الطوائف الاجتماعية في الهند، أو في الغرب حيث نظام الأرستقراطيات ذات الامتيازات في الدولة البيزنطيّة وأوروبا اللاتينيّة آنذاك وجدنا أنّ الوصفه الإسلامية قد أتت حقًا برسالة مساواة، والإسلام لا يقتصر على الامتناع عن مساندة نظم التّفرقة الاجتماعيّة بل ينص صراحة بحسم على رفضها، فإنّ أفعال الرسول وأقواله، وما حفظه لنا التراث من سير الأوائل من حُكام المسلمين والتي أصبحت سوابق يُقاس بها وعليها تؤكد تأكيدًا غلابًا على مناهضة المزايا الراجعة للنسب أو للمولد أو للمكانة الاجتماعية أو للثروة أو حتى التمييز العرقي، وتصر على أن الفضل والشرف لا تحددهما إلا التقوى والجدارة في الإسلام” [21].
هذه شهادة حق من مؤرخ يهودي، والحق ما نطقت به الأعداء، ويقول السويسري الألماني آدم مِتْز Adam Metz (١٨٦٩: ١٩١٧م) أستاذ القانون والتاريخ واللغات الشرقية بجامعة بازل بسويسرا؛ في شأن سياسة الدولة التشريعية المالية ومدى عدالتها: “وكانت سيطرة العملة وجعل قيمة الأشياء متوقفة على قيمتها النقدية سببًا في زوال كثير من الضرائب الرمزية الشكلية التي تُفرض لمجرد تقرير الحق في الضريبة، وهذه الضريبة التي جعلت دفاتر الضرائب في العصور الوسطى الأوروبية كثيرة الأبواب” [22].
ويقول: “ونرى من الثبت الذي يحوي أسماء المُصادَرين [23] أنهم كانوا عمالًا من عمال الدولة أو جهابذة كانوا يعاملونها، وليس فيما انتهى إلينا من حكايات تتعلق بالمصادرات مثل واحد لأخذ الحكومة أموال العمال الخاصة ظلمًا وجورًا من غير طريقة قانونية” [24].
ويقول أيضًا: “كان في الدولة الإسلامية ما يضمن لكل ديانة من ديانات أهل الذمة كيانها الخاص”، ثم أورد في هذا الشأن كتابًا أصدره الخليفة المُقتدر عام 311هـ في المواريث أمر فيه أن “تُردَّ تركة من مات من أهل الذمة ولم يُخلف وارثًا على أهل ملته”، ثم قال: “على حين أن تركة المُسلم كانت تُرد إلى بيت المال”، ثم أورد منشورًا آخر صدر في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري أمر فيه خليفة المسلمين إلى جانب صيانة أهل الذمة وحراستهم والذبِّ عن حريمهم ورفع الظلم عنهم ونحو ذلك بالتخلية بينهم وبين مورِّثيهم، وترك مداخلتهم ومشاركتهم فيها [25].
ويقول أيضًا: “وكان أهل الذمة بحكم ما يتمتعون به من تسامح المسلمين معهم ومن حمايتهم لهم يدفعون الجزية، كل منهم بحسب مقدرته.. على أن غالبية دافعي الجزية كانوا يدفعون الحد الأدنى”، ويقول: “وكانت هذه الجزية أشبه بضريبة الدفاع الوطني، فكان لا يدفعها إلا الرجل القادر على حمل السلاح، ولا يدفعها ذوو العاهات، ولا المُترهبون وأهل الصوامع إلا إذا كان لهم يسار” [26]، ويستمر في التعليق على أحكام الجزية قائلًا: “وقد أمرت الشريعة الإسلامية بعدم القسوة في تحصيلها، فقد نهى الإسلام عن اتباع الأساليب القديمة القاسية من تعذيب، أو تكليف أصحابها ما لا يُطيقون” [27].
وعن السياسة القضائية في معاملة أهل الذمة فيقول: “ولما كان الشرع الإسلامي خاصًا بالمسلمين فقد خلَّت الدولة الإسلامية بين أهل الملل الأُخرى وبين محاكمهم الخاصة بهم، والذي نعلمه من أمر هذه المحاكم أنها كانت محاكم كنسية، وكان رؤساء المحاكم الروحيون يقومون فيها مقام كبار القضاة أيضًا، وقد كتبوا كثيرًا من كتب القانون، ولم تقتصر أحكامهم على مسائل الزواج، بل كانت تشمل إلى جانب ذلك مسائل الميراث وأكثر المنازعات التي تخص المسيحيين وحدهم مما لا شأن للدولة به، على أنه كان يجوز للذمي أن يلجأ إلى المحاكم الإسلامية ولم تكن الكنائس بطبيعة الحال تنظر إلى ذلك بعين الرضا، ولذلك ألف الجاثليق تيموتيوس Timotheus حوالي عام 200هـ / 800م كتابًا في الأحكام القضائية المسيحية لكي يقطع كل عذر يتعلل به النصارى الذين يلجأون إلى غير محاكمهم بدعوى نقصان القوانين المسيحية” [28].
ويقول عن عدالة التشريع الاجتماعي الإسلامي: “ولم يكن في التشريع الإسلامي ما يغلق دون أهل الذمة أي باب من أبواب الأعمال، وكانت قدمهم راسخة في الصنائع التي تدرُّ الأرباح الوافرة، فكانوا صيارفةً وتجارًا وأصحاب ضياع وأطباء، بل إن أهل الذمة نظموا أنفسهم، بحيث كان معظم الصيارفة الجهابذة في الشام مثلًا يهودًا، على حين كان أكثر الأطباء والكتبة نصارى، وكان رئيس النصارى ببغداد هو طبيب الخليفة، وكان رؤساء اليهود وجهابذتهم عنده” [29].
وبالمثل تكلم عنها أستاذ القانون الإيطالي ديفيد دي سانتيللانا David De Santillana (١٨٤٥: ١٩٣١م)، فيقول واصفًا كيف ربطت الشريعة بين القانون والعقيدة والأخلاق في قضية العدالة: “هذا القانون أو الشريعة التي توزع العدالة بالقسطاس على الجميع بلا تفضيل، تستند إلى الإيمان القويم أساسًا، فعلى المسلمين أن يفوا بالعهود التي يقطعونها على أنفسهم، وليس لهم أن ينتفعوا بأموال الآخرين ما لم يُجزهُم.. هذه التعاليم وكثير غيرها مما يُعزى إلى الرسول هي من ضمن القواعد العامة للشريعة الإسلامية، وهذا التفسير للإيمان القويم إنما هو تفسير خُلقي أدبي بصورة جوهرية، حتى إنه ليرتفع إلى فكرة المُطلق ومبدأ الدولية، ومن المدهش أن يكون ذلك أقرب لفهمنا من التفسير الإقطاعي للإيمان، الذي يرى الإيمان منبثقًا من الولاء والخضوع الشخصي، ولذلك فإن شريعة الإسلام تُفسح أوسع المجال لتحكيم الإرادة البشرية، وتُعلق أعظم الأهمية على القصد القانوني لا على نص القانون الحرفي، إن إرادة البشر كافية مهما كانت لخلق رابطة قانونية، ولكن قلما كان بطلان أو صحة أي مبدأ قانوني مرهونًا بأمر شكلي أو بنص حرفي في الشريعة، يتجلى ذلك بمقارنته بما لا يُحصى من القواعد الشكلية في قوانين الجرمان” [30].
وقبل وبعد هذا أفاض سانتيللانا في استقلال الشريعة وميزاتها، حتى قال: “تلك هي الميزات التي تسم الشريعة الإسلامية في كبد حقيقتها، قد نجرؤ على وضعها في أرفع مكان، وتقليدها أجل مديح علماء القانون، وهو الخليق بها” [31].
وعلى المستوى العلمي والأكاديمي المنظم فقد انتهى الباحثون في المؤتمر الدولي للقانون المقارن المُنعقد في لاهاي عام 1932م إلى أن: “الشريعة الإسلامية مصدر من مصادر القانون المقارن.. وبهذا تكون مصادر القانون المقارن أربعة: القوانين الفرنسية، والقوانين الألمانية، والقوانين الإنجليزية، والشريعة الإسلامية” [32].
وفي ذات العام تنبه فقهاء القانون في فرنسا إلى أن محمد بن الحسن الشيباني (ت ١٨٩هـ / ٨٠٥م) الفقيه الحنفي المُلقب بصاحب أبي حنيفة؛ هو أول من كتب في العلاقات الدولية وأن القانون الدولي المعاصر إنما هو محض تأصيل لما كتبه هذا العلامة الكبير، وأن جروتيوس الفقيه القانوني الهولندي الذي تعتبره أوروبا مؤسس القانون الدولي إنما استقى كتباتاته أخذًا من كتاب (السير الكبير) للإمام محمد بن الحسن الشيباني، فقاموا ولأجل ذلك بإنشاء جمعية الشيباني للقانون الدولي.
ثم ما لبث أن حذا حذوهم فقهاء القانون الدولي الألمان بعد أن تأكدت هذه الحقيقة العلمية فأسسوا بدورهم جمعية أُخرى في غوتنجن بألمانيا تحمل ذات الاسم (جمعية الشيباني للقانون الدولي) والتي انتُخب لها قانوني مصري هو د. عبد الحميد بدوي [33]، وجاء في رسالة تعريف الجمعية: “عرف الباحثون الأوروبيون اسم الفقيه المُسلم الإمام محمد بن الحسن الشيباني من مؤلفه كتاب السير الكبير بعد أن طبعت ترجمته إلى التركية لأول مرة عام 1825م، ولم يتردد المؤرخ النمساوي الذائع الصيت هامرفون برجستال إذ ذاك أن يُلقبه باسم “هوجو جروتيوس المسلمين”، وإن كل من يُدرك مقدار الإكبار الذي يُكنه علماء القانون في أوروبا للأستاذ هوجو جروتيوس بوصفه أبا القانون الدولي ليستطيع أن يتبين مدى المكانة العالية التي يضع فيها هذا التعبير مُؤلفات الشيباني، وقد زادت الدراسات الحديثة في الفقه الإسلامي شهادة المؤرخ النمساوي تأييدًا، ودلت على أن الإمام الشيباني خليقٌ بأن يأخذ مكانه الحق بين رواد القانون الدولي العالميين، على أن هذه الدراسات لم تستطع أن تجذب اهتمام جمهور كبير من المشتغلين بالقانون، لذلك رأت طائفة ممن تبينوا أهمية هذا الأمر أن من المستصوب – بل لهو من الضروري – أن تعمل على تأسيس جمعية الشيباني للقانون الدولي وقد قُصد بفكرة الجمعية أن تكون على غرار جمعية جروتيوس البريطانية ذات الشهرة العالمية” [34].
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل قام أيضًا عدد من أساتذة القانون الدولي الأمريكان بتأسيس جمعية شبيهة هي جمعية الشيباني للقانون الدولي في نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية، ومن خلال هذه الجمعيات وغيرها من المؤسسات المعنية بالقانون الدولي تُرجمت كتب محمد بن الحسن الشيباني للعديد من اللغات وأُجريت على كتابه (السير الكبير) عشرات الدراسات والأبحاث، حتى أن منظمة اليونسكو التابعة لمنظمة الأمم المتحدة ترجمت من خلال خبرائها الكتاب إلى اللغة الفرنسية معترفة بقيمته العلمية وقيمة الفقه الإسلامي في مجال القانون الدولي والعلاقات الدولية.
ومن اطلع على قسم علماء القانون الدولي International Law Scholars على المواقع والموسوعات المعرفية العالمية الشهيرة يجد اسم Muhammad Al Shaybani بين عشرات الأسماء الإنجليزية والألمانية والإيطالية.
وفي يوليو عام 1951م انتهى الباحثون في مؤتمر أسبوع الفقه الإسلامي الذي عقدته شعبة الحقوق الشرقية بالمجمع الدولي للحقوق المقارنة برئاسة الفرنسي ميو أستاذ القانون في كلية الحقوق بجامعة باريس إلى؛ أن مبادئ الفقه الإسلامي لها قيمة حقوقية تشريعية لا يُمارى فيها، وأن اختلاف المذاهب الفقهية في هذه المجموعة الحقوقية العظمى ينطوي على ثروة من المفاهيم والمعلومات ومن الأصول الحقوقية؛ هي مناط الإعجاب، وبها يتمكن الفقه الإسلامي أن يستجيب لجميع مطالب الحياة الحديثة والتوفيق بين حاجاتها.
وقد أعلن المؤتمرون عن رغبتهم في تكرار فعاليات مؤتمر أسبوع الفقه الإسلامي سنويًا، ومتابعة أعماله وتفعيل قراراته وتوصياته بعد انعقاده، وأصدروا توصيتهم بتأليف لجنة لوضع معجم للفقه الإسلامي يُسهل الرجوع إلى المؤلفات الفقهية حتى يُمكن استعراض المعلومات الحقوقية الإسلامية وفقًا للأساليب الحديثة.
وفي كلية القانون في جامعة هارفارد أشهر الجامعات الأمريكية والعالمية على الإطلاق وضعت الآية رقم (135) من سورة النساء على حائط المدخل الرئيسي للكلية موصوفة بأنها من أعظم عبارات العدالة في العالم عبر الأزمان، والآية المعنية هي قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}.
وفي بدايات الألفية الثالثة أشاد يوخين هارتلوف وزير العدل بولاية راينلاند بفالز الألمانية بالشريعة الإسلامية وطالب بتحكيمها في شئون المسلمين، وقال؛ إنه يتصور إمكانية السماح لمسلمي ألمانيا بحل منازعاتهم المتعلقة بالطلاق والنفقة والعقود المالية التي يفضلون فيها الابتعاد عن الفوائد الربوية، من خلال مُحكمين مسلمين يعتمدون بتقديراتهم على أحكام الشريعة الإسلامية، وأكد على أن الشريعة الإسلامية تتعامل مع قضايا الأحوال الشخصية والتعاقدات التجارية بصياغة عصرية مقبولة [35].
واقترح روان ويليامز رئيس الكنيسة الإنجليكانية في بريطانيا تبني بعض أحكام الشريعة، وقال بأن اعتماد أجزاء من الشريعة يبدو أمرًا لا مفر منه في بعض الحالات [36].
كما اقترح أستاذ القانون الهولندي ليون يوسكنس أن يتلقى القضاة في هولندا دروسًا في الشريعة الإسلامية، وقال الإقدام على هذه الخطوة سيكون أمرًا مفيدًا جدًا للقضاة والمُتقاضين، ونقلت المجلة العلمية لمجلس القضاء عن يوسكنس قوله: “إذا ما تم اتباع القانون الهولندي فقط، فإن الوضع القضائي سيكون أشبه ما يكون بأعرج”.
وفي الولايات المتحدة صرح هارولد كو المستشار القانوني لإدارة الرئيس الأمريكي أوباما بأنه يجب إقامة محاكم إسلامية على الأراضي الأمريكية للفصل في النزاعات بين المسلمين، كما رفضت لجنة القواعد في مجلس الشيوخ تمرير مشروع قانون [37] يحظر اعتبار الشريعة الإسلامية في القضاء بولاية أوكلاهوما إثر قيام مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكيةبمعارضة القانون بقضية فيدرالية اكتسبت دعم أحد القضاة الذي أصدر إنذارًا قضائيًا تمهيديًا بمنع اعتبار المذكرة المقترحة قانونًا.
وأظهرت بعض الدراسات الحديثة التي أشرفت عليها اللجنة العليا لحقوق اللاجئين بالأمم المتحدة أن الشريعة الإسلامية أكثر المصادر التي أثرت على صياغة قوانين حقوق اللاجئين التي يستفيد منها عشرات الملايين من اللاجئين حول العالم، وأشار أنتونيو جوتريز مُمثل اللجنة العليا أن القوانين التي تتبناها المنظمة قد أخذت بما أشار إليه الإسلام من توفير الآمان للاجئين وعدم ردهم إلى الأخطار التي فروا منها, إضافة إلى أن حماية اللاجئين تشمل غير المسلمين الذين لا يُكرههم الإسلام على تغيير دياناتهم، ولا يقوم بمساومتهم من أجل الحصول على حقوقهم، بل يقوم الإسلام على توفير الحماية لهم ولممتلكاتهم ويعمل على لمّ شمل أسرهم بنوع من الكرم والإحسان، ودعا جوتريز المُجتمع الدولي تقدير هذه الحقوق التي تكفلها الشريعة الإسلامية للاجئين.
يقول د. عبد الرزاق السنهوري (1885: 1971م) رئيس مجلس الدولة السابق وأستاذ القانون المدني بكليات الحقوق ورئيس لجنة وضع القانون المدني المصري والعراقي وغيرهما: “الشريعة الإسلامية بشهادة فقهاء الغرب أنفسهم تُعد من أكبر الشرائع العالمية، فما بال الغرب يعرف هذا الفضل ونحن ننكره؟! وما بال هذه الكنوز تبقى مغمورة في بطون الكتب الصفراء، ونحن في غفلة نتطفل على موائد الغير ونتسقط فضلات طعامهم؟!”.
هذه بعض أقوال المفكرين الغربيين وفقهاء القانون وهم أهل الاختصاص والخبرة في قيمة التشريع الإسلامي وحاجة البشرية المُلحة إلى تفعيله في التقنينات المعاصرة، وليس المقصود منها تقييم الشريعة أو إثبات جدارتها وفق الرؤية الغربية، بل شهاداتهم من هذه الزاوية هي والعدم سواء، إنما المقصود بيان علو كعب الشريعة كنظام يحكم السلوك من جهة الثبات والمرونة والمناسبة مقارنةً بالقانون من خلال الأذهان المتشبعة بمركزية القانون إذا تجردت وأنصفت، والحق الذي لا مرية فيه أنه مهما حاول الباحثون إبراز محاسن الشريعة ووجوه إعجازها فلن يوفوها حقها ولن يستوعبوا إلا قدرًا يسيرًا ضئيلًا من إيجابياتها ومحاسنها.
يقول د. عماد الدين خليل: “إنسانيًا.. تجيء شهادات خصوم هذا الدين بما يمتلكون من قدرات عقلية فذّة وصيغ حضارية متقدمة بمثابة سعي مخلص وجاد غير متحيّز ولا ميّال لحلّ أزمة الإنسان المعاصر، بإرشاده بشكل مباشر أو غير مباشر إلى أن الإسلام هو خلاصه الوحيد، وأن مضلته ليست خطيئة أبدية ولا طريقًا مسدودًا، بل إن بمقدوره في أية لحظة أن يحظى بخلاصه المنشود بمجرد أن يفتح عقله وقلبه، وأن يعرف بدافع من عشق الحقّ وحده ما يمكن أن يقدمه له هذا الدين..
أكاديميًا.. تجيء شهادات خصوم هذا الدين لكي تثبت حقائق يتحتم أن تُرصد، وتوازن سيلًا من المعطيات اللاعلمية واللاموضوعية التي قيلت عن هذا الدين، وتردّ الأمر أو بعضه إلى نصابه الحق..” [38].
ــــــــــ
* نُشر المقال في مجلة الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسُنَّة، مكة المكرمة، العدد ٤٤، رجب ١٤٣٤هـ / يونيو ٢٠١٣م، وفي مجلة “البيان”، الرياض، السنة ٣٣، العدد ٣٢٤، شعبان ١٤٣٥هـ / يونيو ٢٠١٤م، وأُعيد تناوله بتوسع في كتاب (الشريعة المعجزة) في الفصل الأول: مدخل إلى الإعجاز التشريعي في الإسلام.
[1] نويل ج. كولسون: في تاريخ التشريع الإسلامي، ترجمة: محمد أحمد سراج، دار العروبة (الكويت)، الطبعة الأولى 1402هـ، ص 28: 29.
[2] كريستوفر جريجوري ويرامانتري: شهادة حق: التشريع الإسلامي من منظور دولي، ترجمة محمد السيد صقر، مكتبة وهبة (القاهرة)، الطبعة الأولى 1431هـ / 2010م، ص 16.
[3] كريستوفر جريجوري ويرامانتري: شهادة حق: التشريع الإسلامي من منظور دولي، مرجع سابق، ص 126.
[4] كريستوفر جريجوري ويرامانتري: شهادة حق: التشريع الإسلامي من منظور دولي، مرجع سابق، ص 187.
[5] جوزيف شاخت: تراث الإسلام، ترجمة حسين مؤنس وإحسان صُدقي العَمَد، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب (الكويت)، الطبعة الثانية 1408هـ / 1988م، ج2 ص 150: 151.
[6] جوزيف شاخت: تراث الإسلام، مرجع سابق، ج2 ص 151: 152.
[7] جوزيف شاخت: تراث الإسلام، مرجع سابق، ج2 ص 159.
[8] التشريع الإسلامي في دراسات أعلام الغربيين: مجلة الأزهر، مرجع سابق، ص 885.
[9] التشريع الإسلامي في دراسات أعلام الغربيين: مجلة الأزهر، القاهرة، المجلد الرابع والعشرون، الجزء السابع، رجب 1372هـ / مارس 1953م، ص 885.
[10] روم لاندو: الإسلام والعرب، ترجمة منير البعلبكي، دار العلم للملايين (بيروت)، الطبعة الأولى 1962م، ص 187.
[11] علي أحمد الجرجاوي: حكمة التشريع وفلسفته، تهذيب وتحقيق: د. محمد وفيق زين العابدين، دار السلام (القاهرة)، الطبعة الأولى 14٤٠هـ / 2٠١٩م، ص ٧٩.
[12] فيليب حتى: الإسلام منهج حياة، ترجمة: عمر فروخ، دار العلم للملايين (بيروت)، الطبعة الثالثة 1983م، ص 9.
[13] فيليب حتى: الإسلام منهج حياة، مرجع سابق، ص 23: 24.
[14] علي أحمد الجرجاوي: حكمة التشريع وفلسفته، مرجع سابق، ص ٨٠.
[15] وهو أستاذ د. عبد الرزاق السنهوري في كلية الحقوق جامعة (ليون) الذي طالما فاخر به لامبير، ففي مقدمته لكتاب (الخلافة وتطورها) للسنهوري: “لقد وجدت ضالتي المنشودة أخيرًا في على يد السنهوري، وهو من أنبغ تلاميذي الذين درّست لهم خلال حياتي العملية”.
ومن الجدير بالذكر أن لامبير أُسندت إليه رئاسة لجنة صياغة القانون المدني المصري التي شُكلت أول مرة في يونيو 1938م ثم ما لبثت أن حُلت وأُعيد تشكيلها برئاسة د. عبد الرزاق السنهوري، وقد قام لامبير وحده بوضع نصوص الباب التمهيدي ونصوص عقد المقاولة والتزام المرافق العامة والعمل والتأمين فضلًا عن اشتراكه مع باقي أعضاء اللجنة في مراجعة وصياغة باقي مواد القانون.
[16] عبد المتعال محمد الجبري: الحضارة والتمدن الإسلامي بأقلام فلاسفة النصارى، مكتبة وهبة (القاهرة)، الطبعة الأولى 1414هـ / 1993م، ص 22.
[17] هاملتون ألكسندر جب: دراسات في حضارة الإسلام، ترجمة إحسان عباس ومحمد يوسف نجم ومحمود زايد، الهيئة المصرية العامة للكتاب (القاهرة)، الطبعة الأولى 2011م، ص 236: 238.
ومؤثل: أي خالد أبدي سرمدي.
[18] عبد المتعال محمد الجبري: الحضارة والتمدن الإسلامي بأقلام فلاسفة النصارى، مرجع سابق، ص 143.
[19] ستانوود كب: المُسلمون في تاريخ الحضارة، ترجمة محمد فتحي عثمان، الدار السعودية للنشر والتوزيع (جدة)، الطبعة الأولى 1402هـ / 1982م، ص 37: 38.
وفي ذات السياق يقول عن النظام الاقتصادي للدولة الإسلامية (ص 37): “إن القرآن اعتبر المال الحلال من نعم الله، وسرعان ما نفذت هذه الثروات خلال مختلف الأيدي حتى وصلت إلى أيدي أفقر المواطنين، ولقد نالت الزراعة العلمية رعاية وافرة من الخلفاء، فتجدد نظام الري القديم الذي جعل من بين النهرين في فترة من الفترات (سلة الخبز) للعالم، واتسع نطاقه حتى غدت ضواحي بغداد أرضًا خصبة للحدائق المثمرة واستثارت إعجاب كل زائريها”.
[20] التشريع الإسلامي في دراسات أعلام الغربيين: مجلة الأزهر، مرجع سابق، ص 885.
[21] برنارد لويس: أين الخطأ؟ التأثير الغربي واستجابة المسلمين، ترجمة محمد عناني، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، الطبعة الأولى 2009م، ص 121: 122.
[22] آدم مِتْز: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، ترجمة محمد عبد الهادي أبو ريدة، دار الفكر العربي (القاهرة)، طبعة 1419هـ / 1999م، ج 1 ص 152.
[23] أي الذين صودرت أموالهم.
[24] آدم مِتْز: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، مرجع سابق، ج 1 ص 157.
[25] آدم مِتْز: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، مرجع سابق، ج 1 ص 54.
[26] آدم مِتْز: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، مرجع سابق، ج 1 ص 69.
[27] آدم مِتْز: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، مرجع سابق، ج 1 ص 73.
ولنا أن نُقارن هذا وليس من باب التشبيه أو التقريب قطعًا، لكن فقط من قبيل بيان الفضل بصورة واحدة من صور التمييز العنصري التي فعلتها بريطانيا في هذا العصر الحديث عندما أجبرت اللاجئين السوريين في أراضيها على ارتداء أساور ملونة طوال الوقت لتحديد هويتهم حتى يتسنى لهم الحصول على الطعام، وفي حالة رفضهم ارتداء تلك الأساور، يُحرمون من الطعام المُقدم لهم من قبل الجهات الرسمية المسئولة عن إغاثتهم لكونهم ممنوعين كلاجئين من الحصول على وظائف.
حتى قالت هانا وارف المسئولة في مجلس ويلز للاجئين: “إن هذا يُذكرنا بالنازيين عندما كانوا يُرغمون الناس على وضع نجمة داود”، وقالت: “هذا مُقزز أن يُعامل الناس كما لو أنهم نكرة”.
وقال كلو مارونغ مُنسق مركز Trinity المعنيِّ بدعم اللاجئين بمدينة (كارديف): “تلك الأساور تُوصم طالبي اللجوء أكثر في بيئة بالفعل مُعادية لهم”.
http://www.dailymail.co.uk/news/article3414519/NowasylumseekersforcedwearcolouredWRISTBANDSrefusedfood.html.
أو صورة أخرى أشد بشاعةً عندما أجبروهم أي اللاجئين في شمال بريطانياعلى طلاء منازلهم باللون الأحمر، مما عرضهم لاعتداءات عنصرية من قبل مناهضي اللاجئين بالبلاد، من ذلك ما ذكره موقع دايلي إكسبريس البريطاني بتاريخ 20 يناير 2016م، أن بعض اللاجئين أبلغوا عن تلطيخ أبوابهم بفضلات الكلاب، ورمي البيض أو الحجارة على نوافذهم، بعدما بات من السهل تحديد منازلهم المصبوغة باللون الأحمر.
http://www.express.co.uk/news/uk/636388/nazigermanyreddoorsoutrage.
[28] آدم مِتْز: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، مرجع سابق، ج 1 67.
[29] آدم مِتْز: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، مرجع سابق، ج 1 ص 62: 63.
ويقول عن مسامحة المسلمين لأهل الذمة (1/64): “ولم تكن الحكومة الإسلامية تتدخل في الشعائر الدينية لأهل الذمة، بل كان يبلغ ببعض الخُلفاء أن يحضر مواكبهم وأعيادهم ويأمر بصيانتهم”، ويقول (1/64: 65): “على أن الكنيسة الرسمية في الدولة الرومانية الشرقية قد ذهبت في معاداتها للمسيحيين الذين يخالفون رجالها في التفكير أبعد مما ذهب إليه الإسلام بالنسبة لأهل الذمة”.
[30] ديفيد دي سانتيللانا: القانون والمجتمع، ضمن كتاب تراث الإسلام، تحرير توماس أرنولد، ترجمة وتعليق جرجيس فتح الله، دار آراس (أربيل)، منشورات الجمل (بيروت)، الطبعة الأولى 2012م، ج 2 ص 133.
والجرمان: الشعوب والقبائل التي كانت تتحدث باللغات الجرمانية، استوطنوا المناطق المحاذية للإمبراطورية الرومانية وكانوا مصدر إزعاج دائم لها وأحد الأسباب الرئيسية لسقوطها، وقد هاجرت هذه الشعوب من شمال أوروبا وانتشرت في باقي مناطق أوروبا ممتزجة بالسكان الأصليين؛ مشكلين لمستقبل أُمم أوروبا، لكن بشكل عام تترابط الشعوب الجرمانية بالتقارب اللغوي والشكل المميز، ولا يعرف الكثير عن التاريخ الجرماني المُبكر، إلا من خلال الوقائع التاريخية المسجلة للتفاعل مع الإمبراطورية الرومانية.
تم تدوين القانون الجرماني في الفترة ما بين القرنين الخامس والتاسع الميلادي، تحت تأثير القانون الروماني، وتأثر به بالإضافة للنظم المسيحية (القانون الكنسي)، والعادات القبلية السائدة وهي الأكثر تأثيرًا في القانون الجرماني، وقد أُعيد بناؤه بواسطة القانون الألماني في القرن التاسع عشر مع كثير من التعديل والتطوير بالطبع.
[31] ديفيد دي سانتيللانا: القانون والمجتمع، مرجع سابق، ج 2 ص 138.
[32] وانعقد المؤتمر مرة أُخرى عام 1938م وبحث قضية شائكة كانت مثارة بين القانونيين بشأن ارتباط التشريع الإسلامي بالقانون الروماني وصلته به، وقد أعلن المؤتمر في النهاية أن الشريعة الإسلامية مستقلة بذاتها ليس لها صلة بالقانون الروماني ولا بأي تشريع آخر.
[33] عبد الحميد بدوي: ولد عام 1887م، حصل على الدكتوراة في القانون، وعمل قاضيًا بمحكمة استئناف مصر، ثم اُختير وزيرًا للمالية في حكومة حسين سري، ثم وزيرًا للخارجية في حكومة النقراشي باشا، وهو أول قاضي عربي بمحكمة العدل الدولية، توفي عام 1965م.
[34] محمد الدسوقي: الإمام محمد بن الحسن الشيباني وأثره في الفقه الإسلامي، دار الثقافة (الدوحة)، الطبعة الأولى 1407هـ / 1987م، ص 344.
[35] خالد شمث: وزير يدعو لاحتكام مسلمي ألمانيا للشريعة (تقرير صحفي)، موقع الجزيرة نت، تاريخ النشر: ٥ فبراير ٢٠١٢م، على الرابط: https://bit.ly/3vmWC6q
وقد رفضت وزارة العدل الألمانية هذه الدعوة بحجة تسببها في نشوء نظامين قضائيين متوازيين في ألمانيا، بينما طالب الحزب المسيحي البافاري بإقالة يوخين هارتلوف وزير العدل الألماني مستنكرًا دعوة الأخير للتحاكم إلى الشريعة التي على حد زعمهم “محتقرة للبشر”.
بينما تجاوب بعض القضاة الألمان مع دعوى هارتلوف، فقضى أحد القضاة بمدينة ليمبورج آن دير لاهن بأحكام الشريعة الإسلامية في دعوى قضائية رفعها مُسلم تركي يطالب زوجته السابقة برد مجوهرات ذهبية تبلغ قيمتها اثني عشر ألف يورو كصداق عقب انفصالهما بعد شهرين من زواجهما، وأشار القاضي إلى أن الصداق من حق الزوجة ليساعدها على النفقة بعد الطلاق بغض النظر عن مُدة الزواج، مؤكدًا أنه اعتمد في الحكم على أحكام سابقة للقضاء التركي.
وقد كشف أحد الباحثين القانونيين المناهضين لقضية تطبيق الشريعة الألمان وهو جواتشيم واجنر في كتابه (القضاة العاملون خارج القانون) إلى انتشار ظاهرة النظام القضائي الإسلامي (مراكز التحكيم الأهلية) في ألمانيا والتي باتت تزاحم المحاكم الألمانية الوطنية على حد تعبيره، وفي مقال في مجلة شبيجل أعرب واجنر عن قلقه من تحاكم المسلمين لأحكام الشريعة الإسلامية، وطالب النيابة العمومية بمراقبة المحكمين الشرعيين ومحاكمتهم بشأن عرقلتهم تطبيق القانون الألماني.
[36] أظهرت دراسة دينيس ماكيون المختص في الشئون الإسلامية أن عدد مراكز التحكيم الإسلامية التي تفصل في الشئون الأسرية للمُسلمين على مستوى بريطانيا بلغت خمسة وثمانين مركزًا، وهو ما أثار عدد من متعصبي الباحثين والمفكرين النصارى، منهم رومن ويليامز قسيسكنتربري، واللورد نيكولاس فيليبس اللذين انتقدا هذا الوضع واعتبروا أن تزايد مراكز التحكيم الإسلامية يُشكل خطرًا على الوضع القضائي في انجلترا، وافتئاتًا على اختصاص المحاكم البريطانية.
وشدد فيليبس على عدم إمكانية قبول العقوبات الموجودة في الشريعة الإسلامية كالرجم أو قطع الأيدي أو الجلد، وأكد أن الأحكام التي تُصدرها المحاكم البريطانية يجب ألا تستند سوى إلى قواعد القانون البريطاني، وأما التحاكم إلى الشريعة أو غيرها من الديانات في مسائل الأحوال الشخصية فيرى أنه لا مانع منه إذا تم عن طريق التسويات الودية دون إجراءات قضائية وهو ما اعتاد عليه المسلمون في بريطانيا مُنذ زمن بعيد على حد زعمه.
كما أبدى مجلس اللوردات البريطاني اعتراضه على تزايد عدد مراكز التحكيم الإسلامية بحجة أنه من الصعب الجمع بين الديمقراطية والليبرالية والتحاكم إلى التشريع الإسلامي، حتى دينيس ماكيون نفسه فقد أبدى قلقه بشأن بعض المسائل التي تُخالف فيها المحاكم الإسلامية النظام القضائي البريطاني والتي لا تتوافق مع حقوق الإنسان – على حد زعمه – وتعبيره مثل عدم السماح للمُسلمة في الزواج من غير مُسلم، ومثل قواعد نظام الحضانة الإسلامي وترتيبها.
[37] عبارة عن مذكرة تقدم بها عضو الحزب الجمهوري سالي كيرن، وكان قد حصل على موافقة 70% من المواطنين عليها في استفتاء أُجري في نوفمبر 2010م، وموافقة برلمان أوكلاهوما في مارس 2011م بموافقة 76 صوتًا واعتراض ثلاثة أصوات فقط، وتأييد عدد من مُمثلي مدن الولاية مثل لويس مور مُمثل مدينة إدموند، ريكس دونكان مُمثل مدينة ساند سبرنجز الذي اعتبر ولاية أوكلاهوما هي أولى الولايات التي تتخذ هذه الخطوة آملًا أن تتبعها باقي الولايات الأمريكية في هذه الخطوة أيضًا.
وبالفعل تقدمت عدد من الولايات الأمريكية في تمرير مشروعات قوانين تحظر إقامة مراكز تحكيم إسلامية وتمنع تطبيق أحكام الشريعة، منها ولاية ميتشجان حيث تقدم ديف أجيما عضو الحزب الجمهوري ومُمثل مدينة جراندفيل بالولاية بمذكرة قانونية لمجلس الشيوخ يُطالب بعدم اعتبار أحكام القوانين الأجنبية عن الدستور الأمريكي، مؤكدًا أن القانون الجديد سيتصدى لمن يحاول وضع حد القانون الأجنبي على رقبة القضاء الأمريكي على حد تعبيره.
وقد أعرب مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية بالولاية عن قلقه إزاء مساعي أجيما مؤكدًا أنه يمثل انعكاسًا لشريحة من أعضاء الحزب الجمهوري معادية للأجانب، ومتبنية لممارسات الإسلاموفوبيا، وكذلك لقيت المذكرة استنكار رشيدة طلايب عضو البرلمان عن الحزب الديمقراطي، وكذلك فيكتور بيج عضو الحزب الجمهوري والمؤسس المساعد بمجلس المنظمات الإسلامية بولاية ميتشجان الذي وصف المذكرة بـ (المرعبة).
وانتهى الأمر مؤخرًا إلى رفض إصدار قانون يحظر اعتبار أحكام الشريعة الإسلامية في القضاء بولاية ميتشجان الذي تقدم به أجيما، وقد أعرب مجلس العلاقات الأمريكية الإسلامية عن ترحيبه بقرار منع قبول القانون المُشار إليه.
وعن ولاية كولومبيا تقدم مايك فير عضو مجلس الشيوخ عن الحزب الجمهوري عن مدينة جرينفيللي بمذكرة قانونية تطالب بعدم أخذ محاكم الولاية بأي اعتبارات قانونية أو تشريعية مخالفة للدستور الأمريكي، في إشارة إلى الأحكام الشرعية الإسلامية، كما تقدم بول كيرتمان عضو الكونجرس عن الحزب الجمهوري بولاية ميسوري بمذكرة قانونية للمطالبة بحظر اعتبار الأحكام الدينية الإسلامية في النظم القضائية بمحاكم الولاية، وعلى جهة أُخرى طالب الجمهوري نويت جنجريتش عضو الكونجرس السابق، وأحد أبرز المعادين للإسلام والمنادين بحظر تطبيق الشريعة الإسلامية الحكومة الأمريكية بإصدار قانون فيدرالي جامع يمنع من اعتبار أحكام الشريعة الإسلامية في النظام القضائي الأمريكية، وعزل كل قاضٍ يعتبر القواعد الشرعية في أحكامه من منصبه.
ولم ينجح ممثلي الحزب الجمهوري في استصدار مثل هذا القانون بالفعل إلا في ولاية كانسس حيث وافق مجلس الشيوخ بنسبة ثلاثة وثلاثين صوتًا مقابل ثلاثة أصوات فقط على مشروع القانون الذي تقدم به عضو الحزب الجمهوري سام برونباك لمنع اعتبار أحكام الشريعة الإسلامية وغيرها من القوانين الأجنبية في النظام القضائي بمحاكم ولاية كانسس بعد موافقة الكونجرس عليها في فترة سابقة.
ومن الجدير بالذكر أن نحو عشرين ولاية من الولايات الأمريكية تسعى لاتخاذ إجراءات مماثلة في سبيل منع إقامة مراكز تحكيم شرعية وحظر التحاكم إلى قواعد الشريعة الإسلامية.
[38] عماد الدين خليل: قالوا عن الإسلام، الندوة العالمية للشباب الإسلامي (الرياض)، الطبعة الأولى 1412هـ، ص 25.