ولم يُدرك المؤلف جيدًا علاقة الأخلاق في الشريعة بالنظام السياسي والقانوني في الدولة الإسلامية ومدى ترابطهما ترابطًا لا يُمكن معه فصل شيء منهما عن الآخر، وهو سر الانهيار الأخلاقي المُستمر للمسلمين منذ سقوط الخلافة الإسلامية، ومن ثمَّ فلا مجال للحديث عن تأثير لأخلاق الإسلام في الحداثة ما لم يُساند ذلك نظام سياسي ونظام قانوني موافق للشرع، وهو ما يُميز النظام الإسلامي.
كتاب (الدولة الإسلامية المستحيلة) هذا هو العنوان الذي كان من الأجدر أن يُكتب على غلاف كتاب (الدولة المُستحيلة) للدكتور وائل حلاق – الأستاذ بجامعة كولومبيا بنيويورك – والذي صدر في الولايات المُتحدة عام 2012 م عُقيب ثورات الربيع العربي، ثم خرجت ترجمته العربية في بلادنا قُرب نهاية عام 2014م.
وبغض النظر عن التوقيت الغريب لصدور الكتاب، فهو يقع في سبعة فصول لا تُرسخ إلا لحصر الإسلام في دائرة الأخلاق، وفكرته الأساسية تقوم على أن الدولة الإسلامية لا يُمكن أن تقوم في ظل هيمنة الدولة القومية الحديثة والنظام العالمي الحديث والعولمة التي أوجدها، وفي الأصل فإن المُؤلف يرى أنه لم يكن ثمّة دولة إسلامية قط، لأن الدولة شيء حديث، ولذا فهو يستخدم مصطلح “الحُكم الإسلامي” فيما مضى كمقابل يوازي ما يُسمى الآن بالدولة.
ورغم أن المُؤلف لم يزل في كتابه مُمجدًا الدولة الإسلامية القديمة وحضارتها وعظمة وعدالة نظامها السياسي والاقتصادي، انطلاقًا من أن الشريعة الإسلامية والدولة التي تمخضت عنها واستمرت لأكثر من اثني عشر قرنًا تقوم على نظام قيمي أخلاقي أكثر تفوقًا مما عليه الحال في الدولة الحديثة النموذجية، بل لا يُمكن مقارنتهما ببعض بحال من الأحوال، إلا أن هذه الدولة – الأعدل نُظمًا والأعلى قيمًا والأغنى أخلاقًا!! – لا يُمكن له أن تكون قابلةً للبقاء في ظل الظروف السائدة في عالم اليوم، فالتناقض الذاتي في مفهوم الدولة الإسلامية الحديثة يقوم في الأساس على العدم الأخلاقي والديني للحداثة التي أفرغت الدولة المُعاصرة من كافة القيم الروحية والدينية – على حد زعم المُؤلف – فمفهوم الدولة الحديثة مُناقض تمامًا لأخلاقيات الإسلام وقيمه، تلك الدولة التي غيّرت سلطة الإله كما كانت عليه في عصور ما قبل الحداثة إلى سُلطة الدولة والمُؤسسات حتى أصبحت إلهًا بدورها، وعلى حد تعبيره؛ أصبحت إله الآلهة ولا إله إلا هي، ومن ثمَّ يخلُص المُؤلف بهذا إلى تفسير لماذا كانت الدول الغربية دولًا ناجحة بينما الدول الإسلامية ليست دولًا إلا بالاسم فقط فهي تفتقد جميع مقومات الدول الحديثة
في الحقيقة توقعت النهاية التي ختم بها المُؤلف كتابه ولم استغربها مُطلقًا، فبعد كل فصول الكتاب التي هي بالتأكيد مقدمة لهذه الخاتمة من المنطقي أن ينتهي الكاتب إلى حث المُسلمين على التأثير في الجانب الأخلاقي (فقط) للحداثة بقدر الإمكان لجعلها تتأثر بالمنظومة الإسلامية الأخلاقية.
إن المُشكلة الحقيقية التي وقع فيها المُؤلف – وتبعه الكثير من المُثقفين الإسلاميين للأسف – أنه انطلق من مُسلمة غير مُسلم بها أصلًا، فهو يضع تصوره في استحالة الدولة الإسلامية الحديثة من واقع تصورات لا تخرج عن كونها فلسفات شبيهة بتصوره، ويستخدم مُغالطات منطقية – فرض القوالب و المُصادرة على المطلوب – لفرض هذا التصور، وللأسف فمعلوماته عن النظرية السياسية الإسلامية سطحية للغاية، أو على الأقل لم يتعرض لتأصيلات هذه النظرية كما فعل حين أفاض في تأصيل مفهوم الدولة الحديثة وفلسفتها، وقد كان من الأهمية بمكان في بحث كهذا أن يتعرض تفصيلًا لشكل السُّلطة في الدولة الإسلامية، وما إذا كان لهذا الشكل قالب مُلزم مُحدد بنص شرعي؟!
وهو يُكثر من استخدام عبارة “سيادة الله” كمقابل لـ “سيادة القانون” ليُدلل على الاختلاف الجوهري بين الدولتين الإسلامية والحديثة، والذي لا يُمكن معه قبول أسلمة الدولة الحديثة، وكان الأمر ليختلف لو استخدم مصطلح “سيادة الشريعة” كمُقابل لـ “سيادة القانون” باعتبار الشريعة هي المُجسدة لحاكمية الله، فهي قطعًا بمثابة القانون في الدولة الإسلامية.
ثُم هو يستدل على عدم قابلية الدولة الإسلامية للبقاء في النظام الدولي الحديث بأن الشريعة لم تخدم الحاكم أو أي شكل من أشكال السُّلطة السياسية لأنها لم تُخصص لهذا الغرض، ولا أعلم أين في تعريفات القانون ومفاهيمه في الشرق أو الغرب ما يدل على أن من أغراض القانون أن يخدم الحاكم أو السُّلطة السياسية؟!
ومع تسليمنا التام بأفضلية الحُكم الإسلامي – كما أكد الكاتب نفسه – لكن لا أعلم هل كان الكاتب يقصد النظرية الإسلامية في الحُكم (النموذج المثالي المُفترض) أم التجربة الإسلامية التاريخية البشرية التي استمرت لمئات القرون بكل إيجابياتها وأخطائها التي لا تعكس إلا نظامًا قانونيًّا لدولة لها ما لها وعليها ما عليها – وإن لم تأخذ شكل الدولة الحديثة.
وكلامه عن الفصل بين السُّلطات معيب قانونيًّا وتاريخيًّا، إذ لم يُفرق – بشكل واضح- بين النظرية والتطبيق، ففي “النظرية” الفصل بين السُّلطات مُقرر بشكل كامل في الدولة الحديثة، ومُقرر بشكل مُقيد في الدولة الإسلامية، وفي “التطبيق” فهو منقوص في النظامين في أزمنة كثيرة ثابتة تاريخيًّا – وزمن أحمد بن حنبل وابن تيمية وغيرهما رحمهما الله يشهد بذلك – وهذا لا يعيب “النظرية” و “التطبيق” الموافق لها في العهود الأولى وبعض الأزمنة.
ويبدو أن الكاتب لا يُميز بين سُلطة الحاكم المُقيدة تشريعيًّا بالشريعة بما يُمثل “سيادة الشريعة” في سُلطاته، وبين سُلطته المُقيدة سياسيًّا بإرادة الأُمة في اختياره وعزله لتغيُّر حاله أو عدالته بما يُمثل جانب “سيادة الأُمة”.
وكذلك أغفل الدور الأساسي الذي تلعبه “نظرية التفويض” في النظام السياسي للدولة الإسلامية ويجعل تصورها قابلًا للتطبيق في عصر الحداثة وما بعده، وأقصد به التفويض الشرعي للسُّلطة بأنواعها الثلاثة في كثير من سُلطاتها التنفيذية والتشريعية والقضائية.
ولم يُدرك جيدًا علاقة الأخلاق في الشريعة بالنظام السياسي والقانوني في الدولة الإسلامية ومدى ترابطهما ترابطًا لا يُمكن معه فصل شيء منهما عن الآخر، وهو سر الانهيار الأخلاقي المُستمر للمسلمين منذ سقوط الخلافة الإسلامية، ومن ثمَّ فلا مجال للحديث عن تأثير لأخلاق الإسلام في الحداثة ما لم يُساند ذلك نظام سياسي ونظام قانوني موافق للشرع، وهو ما يُميز النظام الإسلامي.
في اعتقادي الكتاب مليء بأوجه النقد وفكرته الأساسية التي بُني عليها مغلوطة لا حُجة عليها، اللهم إلا تصورات فلسفية تُقابلها تصورات أخرى قطعًا، وعلى سبيل المثال فالمُؤلف يرى أن كل فرد في الدولة يتوجب عليه طاعتها كما لو كانت إلهًا!!
ولو كان هذا التصور صحيحًا فلمَ تقوم الثورات إذًا؟!
الدولة في نظر الناس ما هي إلا سُلطة، والأفراد يُطيعونها أو يتمردون عليها بحسب تلبيتها لحاجاتهم ومُتطلباتهم.
أما استدلاله على عدم قابلية نموذج الدولة الإسلامية حديثًا بتخلُف الدول الإسلامية الحاضر فكيف يصح ومن المعلوم أن أكثرية هذه الدول لا تُطبق الشريعة أو تأخذ بالنظام الإسلامي من الأصل؟!
وقد قرر المُؤلف ذلك بنفسه عندما نفى وجود دولة إسلامية قط، لأن الدولة شيء حديث، فنفى الشيء لإثبات عكسه ثم أثبت عكسه لينفي غيره.
وقيمة الكتاب من وجهة نظري لا تكمن إلا في نقده للحداثة والحضارة العالمية وتسليمه بحقائق سياسية لطالما رفض الغرب التسليم بها، لا سيما فيما يتعلق بكذبة الديمقراطية والعلاقات المُتداخلة للسُّلطات الثلاث داخل الدولة حتى كادت أن تكون سُلطة واحدة في الحقيقة كما في الولايات المُتحدة، وتأكيده على أن الدول الأوروبية لم تنشر العدل ولا المساواة ولا التقدم كما زعمت، بل كرست مزيدًا من العُنف والفقر والاستعمار.
وأخيرًا فإنه لا يُمكن للقارئ أن يطوي غلاف الكتاب قبل أن يشكُر لمُترجمه عمله المُميز في الترجمة الواضحة والمُتحرزة من باب الأمانة العلمية في بعض المواطن بذكر بعض الإشكاليات أو المُلاحظات المُصطلحية.