الله.. أكمل من وُصف وأعظم من أُحب، الرحمن الرحيم الملك القدوس جلَّ جلاله وتقدَّستْ أسماؤه، يُسبح له ما في السموات وما في الأرض العزيز الحكيم؛ الطاهِر من العيوب، المُنزَّه عن النقائص، البريء عن كل ما لا يليق به، قال الغزالي: “المنزَّه عن كل وصف يُدركه حسٌّ، أو يتصوَّره خيال، أو يسبق إليه وهم، أو يختلج به ضمير، أو يقضي به تفكير” [1].
وقُدسية الرب عز وجل في الإسلام ليست كأي دين آخَر.. فإنه تقدَّس عن الشريك فهو فرد صمد لا إله إلا هو، قال تعالى: {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} [سورة البقرة: الآية 255]، وقال: {قُل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ} [سورة الإخلاص: الآيتان 1: 2]، وقال: {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِن إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} [سورة المؤمنون: الآية 91]، وقال: {وَلَم يَكُن لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلكِ وَلَم يَكُن لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} [سورة الإسراء: الآية 111].
ثم إنه تقدَّس عن الزوجةِ والولد والذُرية، قال تعالى: {لَم يَلِد وَلَم يُولَد} [سورة الإخلاص: الآية 3]، وقال: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ} [سورة المؤمنون: الآية 91]، وقال: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبحَانَهُ بَل لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [سورة البقرة: الآية 116]، وقال: {وَقُلِ الحَمدُ لِلَّهِ الَّذِي لَم يَتَّخِذ وَلَدًا} [سورة الإسراء: الآية 111].
وتقدَّس سبحانه عن العجز والضعف والحاجة، فهو القوي القادرُ المُهَيْمِنُ العَزيزُ الجبارُ، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [سورة الأحقاف: الآية 33]، وقال: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} [سورة الأنعام: الآية 65]، وقال: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} [سورة هود: الآية 66].
كما أنه تقدَّس عن الموتِ والنوم، فهو الحيُّ القيوم الذي لا يغفل ولا ينام، قال تعالى: {وَتَوَكَّل عَلَى الحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ} [سورة الفرقان: الآية 58]، قال تعالى: {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ لاَ تَأخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَومٌ} [سورة البقرة: الآية 255]، وقال: {كُلُّ مَن عَلَيهَا فَانٍ * وَيَبقَى وَجهُ رَبِّكَ ذُو الجَلاَلِ وَالإِكرَامِ} [سورة الرحمن: الآيتان 26: 27].
وتَقدَّس عن الظُّلم فهو العدلُ الرحمن الرحيم، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظلِمُ مِثقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفهَا وَيُؤتِ مِن لَدُنهُ أَجرًا عَظِيمًا} [سورة النساء: الآية 40]، بل هو لا يرضى به ويُعاقب عليه أشد عقاب، قال عز وجل: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} [سورة طه: الآيتان 111: 112]، وفي الحديث القُدسي عن أبي ذَر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما رَوَى عن الله تبارك وتعالى أنه قال: «يا عِبادي، إنِّي حَرَّمتُ الظُّلمَ على نَفسي، وجعَلتُه بَينَكم مُحَرَّمًا فَلا تَظَالموا» [2].
وتقدَّس جل وعلا عن الكذِب وخيانة العَهْد، فقوله صدق، وعَهده حق، ولن يُؤخر وَعْدًا عن موعده، قال تبارك وتعالى: {وَمَن أَصدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [سورة النساء: الآية 87]، وقال: {وَعدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَن أَصدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [سورة النساء: الآية 122].
وتقدَّس عن الضلال والنِّسيان والغفلة، فقال: {وَمَا كُنَّا عَنِ الخَلقِ غَافِلِينَ} [سورة المؤمنون: الآية 17]، وقال: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعمَلُونَ} [سورة هود: الآية 123]، وأخبَر تعالى عن نبيِّه موسى عليه السلام أنه قال لقومه: {لاَ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى} [سورة طه: الآية 52].
وتقدَّس عن الفقر والبُخل فهو الغنيُّ، المُنعم، ذو الفضل العظيم، كُل الناس إليه فقراء وهو أغنى من أن يفتقر لكائن ما كان، قال تعالى: {وَقَالَتِ اليَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغلُولَةٌ غُلَّت أَيدِيهِم وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَل يَدَاهُ مَبسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيفَ يَشَاءُ} [سورة المائدة: الآية 64]، وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ} [سورة فاطر: الآية 15]، وعن أبي هُرَيرَةَ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يَدُ اللَّهِ مَلأى لا يَغِيضُها نَفقةٌ، سَحَّاءُ اللَّيلَ والنَّهارَ، أرَأَيتُم ما أنفَقَ منذُ خَلَق السَّمواتِ والأرضَ، فإنَّه لَم يَغِض ما في يدِه» [3].
وهذا غيضٌ من فيض، وقليل من كثير، وقطرة من سَيح، فأوجه قُدسيته تبارك وتعالى لا تُعدُّ ولا تُحصَى.
ومحبته لعباده ليست كمحبتهم لبعضهم، فإنه الله عز وجل يُحبُّ عباده المؤمنين الطائعين المتَّبعين لأوامره وسُنة نبيِّه صلى الله عليه وسلم، وأخبر تعالى عن نبيِّه محمد عليه الصلاة والسلام أنه قال: {فَاتَّبِعُونِي يُحبِبكُمُ اللَّهُ وَيَغفِر لَكُم ذُنُوبَكُم وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة آل عمران: الآية 31]، كما أنه يُحب المتقين، قال تعالى: {بَلَى مَن أَوفَى بِعَهدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ} [سورة آل عمران: الآية 76].
ويُحب التوَّابين ويُحبُّ المُتطهرين، قال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ} [سورة البقرة: الآية 222]، ويُحبُّ المُتوكلين، قال تعالى: {فَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ} [سورة آل عمران: الآية 159]، والله يُحبُّ المُحسنين، قال تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ المُحسِنِينَ} [سورة آل عمران: الآية 134]، ويُحب المُقسِطين، فقال: {وَأَقسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقسِطِينَ} [سورة الحجرات: الآية 9]، ويُحبُّ الذين يُقاتلون في سبيله صفًّا واحدًا كأنهم بُنيان مَرصُوص، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَرصُوصٌ} [سورة الصَّف: الآية 4]، ومن حبِّه لعباده أنه لا يرضَى لعباده الكُفر، فقال: {وَلاَ يَرضَى لِعِبَادِهِ الكُفرَ} [سورة الزمر: الآية 7]، ويُريد أن يتوبَ عليهم لا أن يتمادوا في غيهم ومآثِمهم، قال تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيكُم} [سورة النساء: الآية 27]، ويَغفرَ لهم ما دون الشِّرك، فقال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغفِرُ أَن يُشرَكَ بِهِ وَيَغفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [سورة النساء: الآية 48]، ويُريد بهم الهُدَى لا الضلال، فقال: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُم وَيَهدِيَكُم سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبلِكُم وَيَتُوبَ عَلَيكُم} [سورة النساء: الآية 26]، ويُريد بهم اليُسر لا العُسر، فقال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ العُسرَ} [سورة البقرة: الآية 185]، ويُريد بهم العفاف والطُهر، فقال: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [سورة النور: الآية 33]، وقال: {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [سورة النور: الآية 60]، ويُحب لهم الصلاح لا الفساد، فقال: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الفَسَادَ} [سورة البقرة: الآية 205]، وكان بالمؤمنين رحيمًا.
ولأجل هذا، ولأجلِ صِفات الله عز وجل فلا زال المؤمِنون دون غيرهم يسعَون لِنَيل محبَّته تبارك وتعالى بالجدِّ والعمل والسعي لا بالدعوى فحسبُ، وما زالوا يبحثون ويتدارسون في الأسبابِ التي تُنال بها محبَّة الله.
ولو لم تكُنِ المحبَّة والتقديس قد بلغَت بالمؤمنين مبلغَها العظيم، فلمَّ ما زالوا دون غيرهم يطلُبون الشهادةَ في سبيلِ الله تعالى ولسان حالهم: {وَلَا تَحسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَموَاتًا بَل أَحيَاءٌ عِندَ رَبِّهِم يُرزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضلِهِ وَيَستَبشِرُونَ بِالَّذِينَ لَم يَلحَقُوا بِهِم مِن خَلفِهِم أَلَّا خَوفٌ عَلَيهِم وَلَا هُم يَحزَنُونَ * يَستَبشِرُونَ بِنِعمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجرَ المُؤمِنِينَ} [سورة آل عمران: الآيتان 169: 171]؟!
ولمَّ ما زالوا – دون غيرهم – يتحرون الحلال ويَهجُرون الحرام ويتجنَّبون المُتشابهات؟!
ولمَّ ما زالوا – دون غيرهم – يقطعون المفاوزَ ويُنفِقون الأموالَ، ويهجرون الأهل والديار، ويصبرون على النَّصَب والتعب في سبيلِ أداء مناسكِ الحج والعمرة؟!
ولمَّ ما زالوا – دون غيرهم – يَهجُرون طراوةَ الفُرش ولذيذ الرقاد في سبيل القيام له والناس نيام؟!
ولمَّ ما زالوا – دون غيرهم – يرفعون أيديهم إلى السماء في كل ساعةٍ من ليلٍ أو نهار يدعونه ويتوسلون إليه بجميل خصاله وجليل صفاته لا يُثنيهم تأخر الإجابة ولا تُخبت جذوتهم كثرة البلايا والرزايا؟!
وحسبنا شهادة المُستشرق الفرنسي غوستاف لوبون: “تأثيرُ دِين محمَّد في النفوس أعظمُ من تأثير أي دِين آخر، ولا تزال العروقُ المختلفة التي اتَّخذت القرآن مُرشدًا لها تعمل بأحكامه كما كانت تفعل منذُ ثلاثة عشر قرنًا، أجَل قد تجد بين المسلمين عددًا قليلًا من الزنادقة والأخلياء، ولكنَّك لن ترى مَن يجرؤ منهم على انتهاك حُرمة الإسلام في عدمِ الامتثال لتعاليمه الأساسيَّة كالصلاة في المساجد وصوم رمضان الذي يُراعي جميع المسلمين أحكامَه بدقَّة مع ما في هذه الأحكام من صرامة، وعلى من يرغب في فهم حقيقة أُمم الشرق التي لم يدركِ الأوروبيُّون أمرَها إلا قليلًا أن يتمثَّل سلطان الدين الكبير على نفوس أبنائها، فعَلَى الراصد المؤمن أو المُلحد أن يحترمَ هذا الإيمان العميق الذي استطاع العربُ أن يفتحوا العالَم به فيما مضَى، وهم اليوم يصبرون به على قسوةِ المصير” [4].
ــــــــــ
* أصل هذا المقال نُشر في موقع “الألوكة” الإلكتروني، بتاريخ ٢٨ مارس ٢٠١١م.
[1] المقصد الأسنى، ص 38.
[2] صحيح: أخرجه مسلم في صحيحه (2577/ البر والصلة والآداب) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
[3] صحيح: أخرجه البخاري في صحيحه (4684/ التوحيد)، ومسلم في صحيحه (993/ الزكاة) كلاهما من حديث أبي هُريرة رضي الله عنه.
[4] حضارة العرب، ص 417: 418.