وقت القراءة 24 دقيقة
562 عدد المشاهدات
  • حول علاقة علم الحديث بباقي العلوم:

كان للعلوم الشرعية تأثيرًا بالغ الأهمية في النهضة التي شهدتها الدولة الإسلامية، ولم يقتصر هذا التأثير على الجانب الحضاري السياسي والاقتصادي والاجتماعي، بل امتد للجانب العلمي والمنظومة العلمية التي قد تبدو بعيدة التأثر بالعلوم الشرعية، والتي عانت في ظل الحركة العلمية الحداثية من انفصال تام عن هذه العلوم، حيث كان الفقه والحديث والتفسير وغيرها من العلوم الشرعية؛ ثمرة نشاط فكري وعقائدي غني امتدّ لعدة قرون، مستبطنًا في نفسه كل إمكانيات الفكر المزدهر في الإمبراطورية الإسلامية، ومن خلال هذا الفكر وُضِعتْ معايير شكلت نموذجًا علميًّا وإطارًا منهجيًّا للمفكرين المسلمين.

لقد تخطت المساهمات العلمية التي قدّمها التراث في التاريخ الإسلامي فكرة التنظير؛ حيث تمتعت بقيمة سلطوية وفعالية واقعية، اعتبر فيها العلم مصدرًا أساسيًّا من مصادر التشريع، واكتسبت بموجبها مؤلفات العلماء قوة القانون؛ حيث كان العلم هو الضامن لاستقرار المجتمع، ففرضت سُلطة العلماء نفسها على الأفراد والدولة، ولذلك لم تعان المناهج العلمية من أزمة في الفاعلية أو من أزمة وظيفية، ويمكن أن نعتبرها التجربة التاريخية الوحيدة التي ارتقى فيها العلم لهذه المنزلة، السياسية بالأساس.

فمناهج التأويل والآراء القانونية كانت تقع بالأساس على عاتق “القضاة” بوصفهم “فقهاء” لا السُّلطة؛ فكان ذلك يمنع من تفسير الأدلة الشرعية [١] بما يتعارض مع المبادئ العامة والقواعد الكلية لها، وتداخل كل من الفقهاء والقضاة في هذه السلطة؛ سلطة التعديل في مناهج استنباط وتأويل القواعد القانونية وإصدار الآراء القانونية حول المسائل والموضوعات والنصوص، بسبب الطبيعة الواحدة لكل منهما، فكان المجتمع القضائي (المهني الوظيفي) هو ذاته المجتمع الفقهي (العلمي القانوني) في الغالب، فهذا الاتحاد بين المجتمعين المهني والعلمي أو الوظيفي والبحثي، ساعد على أمرين في غاية الأهمية:

الأولى: تمتع العلم القانوني بقيمة سلطوية وفعالية واقعية، اعتبر معها مصدرًا أساسيًّا من مصادر التشريع.

الثانية: التحرر من كل أشكال التبعية.

فالفقهاء هم القضاة في الغالب، وهم من يكتبون في القانون ويفسرونه، وهم ذاتهم من يطبقونه بلا رقيب سوى سلطة “العلم” بفضل عامل “الاجتهاد” الذي انعدم بالكلية في العصر الحديث.

وقد التحمت قوة العلماء وقوة الجماهير التحامًا كبيرًا على نحو لم يتكرر لا في القديم ولا في الحديث، وربما كان ذلك سببًا بمرور الوقت لظهور التقليد والتعصب المذهبي، لاسيما مع نهاية القرن الرابع الهجري!

فحدث القول بانسداد باب الاجتهاد، وصارت الشريعة هي أقوال الفقهاء، وأقوال الفقهاء هي الشريعة، واعتبر كل ما يخرج عن أقوال الفقهاء مبتدعًا لا يوثق بأقواله، ولا يعتد بفتاويه حتى وإن كان معه الدليل لأنه إما مأول وإما منسوخ، وكان مما ساعد على انتشار هذه الروح الرجعية؛ ما قامت به السلطة والأغنياء من إنشاء المدارس، وقصر التدريس فيها على مذهب أو مذاهب معينة، فكان ذلك من أسباب الاقبال على تلك المذاهب، والانصراف عن الاجتهاد، محافظة على الأرزاق التي رتبت لهم [٢].

في الحقيقة رغم القيمة الكبيرة للمعرفة التراثية، الحديثية على سبيل المثال باعتبارها محور حديثنا هنا، إلا أنه لم يتم دمجها وتوظيفها جيدًا في بنية معرفية أكبر، بحيث تتحول إلى معايير أو تقاليد على أساسها يتم اختبار جميع المعارف الأخرى، حيث نُظر إليها على أنها أكثر صرامة من اللازم في البناء المعرفي.

رغم توظيفها واستخدامها في العديد من العلوم غير الحديثية إبان الحضارة الإسلامية، كما حصل مع التقنيات التي استخدمها العلماء والفقهاء في علم الأقضية وبعض العلوم الشرعية الأخرى، ويُمكن أن نرجعها في الأساس لعلماء الحديث، مثل: “السبر والتقسيم“، وعلى غرارها ثمة تقنيات أخرى يمكن اعتبارها مرتكزات في المنهجية الإسلامية: نقد المصادر، الشك المنهجي، مسلك الترجيح، تتبع القرائن، تعددية القيم، الصلاحية للاعتبار، وغير ذلك.

كما يمكننا القول أن هذا التزاوج بين العلوم، والذي تطلبته طبيعة الحياة الاجتماعية في الحضارة الإسلامية، كان له أثر آخر على علم الحديث ذاته وتطوره من خلال امتدادات في معارف شرعية أخرى، فرغم أن علم التخريج [٣] مثلًا وهو أحد فروع علم الحديث؛ نشأ في أواخر القرن الخامس الهجري على يد أبو بكر الخطيب البغدادي (ت ٤٦٣هـ / ١٠٧١م)، إلا أنه ما لبث أن تطور لاحقًا من خلال التفاعل مع علمي الفقه والأصول في القرن السادس الهجري مع أبي بكر محمد بن موسى الحازمي الهمداني (ت ٥٨٤هـ / ١١٨٨م)، ثم في منتصف القرن الثامن مع محمد بن أحمد بن عبد الهادي (ت ٧٤٤هـ / ١٣٤٣م)، وعلي بن عثمان بن التركماني المارديني (ت ٧٥٠هـ / ١٣٤٩م)، وعبد الله بن يوسف الزيلعي (ت ٧٦٢هـ / ١٣٦١م)؛ عندما وضع الحازمي كتاب (تخريج أحاديث المهذب لأبي إسحاق الشيرازي)، وابن عبد الهادي كتاب (تخريج أحاديث المختصر الكبير في الأصول لابن الحاجب) والمارديني كتاب (الكفاية في معرفة أحاديث الهداية لأبي الحسن المرغيناني)، والزيلعي كتاب (نصب الراية لتخريج أحاديث الهداية)، تلاها عشرات الكتب.

فضلًا عن صور أخرى من التزاوج بين الحديث وغيره من العلوم، فمن أشهر ما أنتجه علماء المسلمين في تفاعل علمي الحديث والتفسير: (تخريج أحاديث الكشاف) لمحمد بن عبد الله الحنفي (ت ۷٦٢هـ)، و (الفتح السماوي بتخريج أحاديث البيضاوي) لعبد الرءوف المناوي (ت بعد ۹۰۰هـ)، ونحو ذلك عدة مصنفات لها أهميتها البالغة في التفسير والأصول والفقه.

حيث أمكن من خلال هذا التفاعل للعلماء في التخصصات المختلفة الوصول لمصادر الأدلة ومعرفة رتبتها الحديثية وما فيها من علل وعيوب خفية يصعب عليهم معرفتها لضعف المهارة الحديثية عند بعضهم، لاسيما مع دقة بعض علوم الحديث وصعوبتها مثل علم العلل كما قدمنا، يُضاف لذلك معرفة أمور أخرى مهمة مثل: أسباب ورود الأحاديث، وزيادات الثقات، ومعاني الغريب، وتعيين المبهمات، وذلك من خلال طرق الحديث وروايته المختلفة، لقد كان لعلم التخريج أثرًا بالغًا في تطوير العلوم الأخرى، تطويرًا يتفق ووظيفة الحديث النبوي المركزية وقيمته المرجعية في الشريعة.

وأوضح من هذا؛ علم الرجال فما هو إلا ثمرة تفاعل علم التاريخ مع علم الحديث، وكثيرًا ما استُعملت لفظة “تاريخ” لعنونة كتب الرجال، حتى إن المختصين في علوم الفهرسة ليحارون في التصنيف الرئيسي لكتب الرجال، فتارةً يصنفونها في كتب الحديث وتارةً في كتب التاريخ، وكثيرًا جدًا ما أفادت كتب الحديث، من كتب التاريخ الصرفة، للوقوف على رحلات الرواة والتأكد من المواليد والوفيات في سبيل البت في اتصال الروايات أو انقطاعها، وكذلك في أحوالهم العقدية في سبيل البت في عدالتهم ومذاهبهم في الرواية.

ومن أعجب التفاعلات بين العلوم وأدقها؛ تفاعل علوم اللغة والأدب مع علوم الأنساب والرجال والتراجم، التي ظهرت في البداية في منتصف القرن الثاني الهجري ثم تطور التصنيف فيها وتشعب بشكل لا يوصف، حتى ظهرت التصانيف بالغة التخصص في الأنساب وفي تشابه الأسماء واختلافها، فظهرت فنون: المؤتلف والمختلف، والمتشابه، والمتفق والمفترق [٤]، بفضل تفاعل علوم اللغة العربية مع علوم الحديث والرجال، فضلًا عن علوم الأنساب والسير والمغازي، ولذلك كانت مصادر أحد أئمة علم الحديث وهذه الفنون المتخصصة وهو الدارقطني (ت ٣٨٥هـ / ٩٩٥م) في تأليف كتابه (المؤتلف والمختلف) كتب اللغة الدقيقة، مثل (الاشتقاق) لأبي بكر محمد بن الحسن بن دُرَيْد (ت ٣٢٠هـ) الذي أكثر الدارقطني الاقتباس عنه، بل ذكر له كتبًا لم تصل أيدينا ولم تعرف إلا من طريق الدارقطني مثل (الشعراء) و (ذكر الأنبياء من العرب)، ومن موارده أيضًا كتاب (أمثال العرب) لأبي العباس المفضل بن محمد الضَّبي (ت ١٦٨هـ)، وكتاب (ديوان أبي دَهبل وهب بن زَمْعة)، وكتاب (الدِّيارات) لأبي الفرج علي بن الحسين الأصبهاني (ت ٣٥٦هـ)، وكتاب (الفحول من الشعراء) و (المعمرون والوصايا) وكلاهما لأبي حاتم محمد بن سهل السِّجسْتاني (ت ٢٤٨هـ)، وكتاب (غريب الحديث) لأبي عُبيد القاسم بن سلّام (ت 224هـ / ٨٣٨م)، هذا في اللغة والأدب، فضلًا عن الموارد الكثيرة في علوم الأنساب والتاريخ والسير والمغازي، وهي موارد في طبيعتها تختلف عن موارد علوم الحديث الدارجة التي استخدمها المحدثون في علوم الرجال والتراجم عامةً.

هذه العلاقات بين علوم الحديث والرجال وبين غيرها من العلوم مجرد أمثلة توضح ثلاثة أمور في غاية الأهمية:

الأول: العلاقة الوطيدة التي ربطت العلوم ببعضها في الخبرة الإسلامية، والتي هي التجسيد الحقيقي لمبدأ “وحدة المعرفة” وأهم نتائجه، وهو ما ينبغي أن يكون عليه العلم.

الثاني: إطلاقات الدين لإمكانيات العلم وقدرة العقل الإسلامي على توظيف الدين في العلم، إذ القيمة الدينية لا تخالف المنطق الصحيح، والنص الديني لا يصادم المنهج السليم، وأي تعارض متوهم إنما هو نتاج عدم صوابية المنطق أو المنهج.

الثالث: الموقف الحداثي من الوصل بين العلوم الشرعية والاجتماعية، ودور المجتمع العلمي المعاصر في قطع الصلات بينها، وما ترتب على ذلك من إضرار بحركة العلم.

وقد يُعترض على هذا التصور في علاقة العلوم الشرعية ببعض العلوم الاجتماعية كالقانون أو الاقتصاد في التصور الإسلامي، باعتبار الأخيرة خرجت أصلًا من رحم العلوم الشرعية، فالعلاقة بينهما قائمة من البداية، لكن هذا هو جوهر فكرة إصلاح العلوم في التاريخ الإسلامي بالأساس؛ أن العلوم يُمكن ردها إلى بعضها وأن ثمة صلات بينها، وهذه فكرة مركزية للتصور الإسلامي في إصلاحها وفي إنتاج واستحداث العلوم الجديدة.

وهو ما يُؤكد فكرة أن بعض العلوم الشرعية كانت بمثابة مظلة كبيرة لغيرها من العلوم الاجتماعية وربما بعض العلوم الأخرى مثل الرياضيات والفلك والهندسة، فكانت الأولى ميادين واسعة لتناول الأخيرة، فبينما كان علم الفقه مظلة استظلت بها علوم القانون والاقتصاد والسياسة وغيرها، كان علم الكلام مظلة لعلوم اجتماعية وطبيعية، فالاجتماعية كالفلسفة والمنطق، والطبيعة كالرياضيات والهندسة، فضلًا عن المظلات الفرعية كمظلة علم السياسة الشرعية لعلوم السياسة والاقتصاد والقانون والإدارة، ومظلة علم السلوك لعلوم الاجتماع والنفس، وعلم الحديث لعلم التاريخ، ونحو ذلك، فكان العلماء علماء دين ودنيا في آن واحد، ولم تنفصل إنتاجيتهم في الاجتماع عن الشريعة، ولم يعرفوا فكرة العلوم الاجتماعية بالمعنى التخصصي لعدم وجود مقتضى لها لأنها كانت جزءًا من الدين، لا لعدم درايتهم بموضوعاتها ومناهجها وأفكارها.

لقد كان التأثر في معالجة الموضوعات ذات الطبيعة الاجتماعية بعلم الحديث واضحًا منذ بواكير حركة التأليف العربي، يمكن أن نلمس ذلك من “الأجزاء الحديثية[٥]، فعلى سبيل المثال؛ في الموضوعات ذات الطبيعة الاقتصادية نجد كتب: (الخراج) ليحيى بن آدم، (الأموال) لأبي عُبيد القاسم بن سلّام، (البر والصلة) لأبي عبد الله السلمي المروزي (ت ٢٤٦هـ)، (الأموال) لحميد بن مخلد المعروف بابن زنجويه (ت ٢٥١هـ)، (إصلاح المال) و (قضاء الحوائج) لابن أبي الدنيا (ت ٢٨١هـ / ٨٩٤م)، (النفقات) لأبي الحسن الماوردي (ت ٤٥٠هـ / ١٠٥٨م)، ، وفي الموضوعات ذات الطبيعة السياسية نجد كتب: (الآثار) لأبي يوسف القاضي (ت ١٨٢هـ)، ونفس العنوان لمحمد بن الحسن الشيباني (ت ١٨٩هـ)، (الجهاد) لأحمد بن عمرو الضحاك الشيباني المعروف بابن أبي عاصم (ت ٢٨٧هـ)، ونفس العنوان لعبد الله بن المبارك (ت ١٨١هـ)، (تثبيت الإمامة وترتيب الخلافة) لأبي نعيم الأصبهاني (ت ٤٣٠هـ / ١٠٣٨م)، وهكذا في باقي موضوعات متنوعة ومتعددة تتخذ في شكلها كتب الحديث.

إن الوصل بين العلوم الشرعية والاجتماعية لم ينفصل يومًا ما في تاريخ العلم عند المسلمين، والعلاقة بين النص والعقل لم تكن تصادمية في أغلب الأحوال، كما هو حادث الآن وكما يريد أن يصور الحداثيون، بل علاقة العلوم كانت علاقة تكاملية، وعلاقة النص والعقل كانت علاقة تفاعلية.

وإن الحديث عن قضية “المنهج” ومفهومه؛ ليس غريبًا – كما يعتقد البعض – عن التصور الإسلامي، فالمنهج هو الطريق الواضح والمسار والشِرْعَة، ورد في القرآن الكريم وفي التراث، لكن الأهم أنه ارتبط باصطلاح آخر “السُّنة“، وهو المصطلح الذي تبوأ مكانة فريدة في التصور الإسلامي وفي التراث الإسلامي، وتجاوز معناه المحدود بحديث النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليوظف في الدلالة أيضًا على فكرة المنهج من المنظور الشرعي، وهو أمر يدعو للتأمل والنظر في ارتباط التفكير والاعتبار العلمي بالنص والدليل.

  • الشك الحديثي:

الشك من التقنيات العلمية التي استخدمها علماء الحديث كذلك، ولم يهملوها كما يُعتقد، لكنها وُظفت توظيفًا حقيقيًا مرتبطًا بالحقائق التاريخية والأسباب المنطقية والثوابت العقدية، ولعل أشهر مظاهر هذه التقنية “الإسرائيليات” وهي الأخبار والقصص والحكم والأمثال التي يتداولها أهل الكتاب من يهود ونصارى.

ولأن الإسرائيليات منقطعة الاتصال بين قائليها ولحظتها التاريخية وبين رواتها وزمان روايتها، فضلًا عن دخول احتمال تحريفها، فكانت القاعدة ألا تُؤخذ على محمل الحقيقة القاطعة، وألا يصح أن تُبنى عليها أحكام، وفي نفس الوقت لا يتم تكذيبها أو ردها، إنما تروى ويتُوقف فيها حتى تترجح صحتها من مصدر آخر، وهذا حكم عام في جميع الأحوال أيًا كان راويها، ولو كان صحابيًا كما حصل في بعض مرويات عبد الله بن سلام رضي الله عنه (ت ٤٣هـ / ٦٦٤م)، أو تابعيًا مخضرمًا كما حدث في كثير من مرويات كعب الأحبار (ت 32هـ / 652م) حتى أحجم البخاري عن الرواية له في صحيحه، أو بعض الرواة الأجلاء الكبار مثل وهب بن منبه (ت ١١٠هـ / ٧٣٢م) أو محمد بن إسحاق (ت ١٥١هـ / ٧٦٩م).

فمصطلح “الإسرائيليات” في ذاته مصطلحًا وصفيًا لا يُشير إلى شرعية هذه المرويات أو عدم شرعيتها، ولا إلى صحتها أو عدم صحتها، وهو سر وجودها بكثرة نوعًا ما في التفاسير القرآنية وزهديات الصوفية ومصنفات التاريخ، إذ كان مقبولًا الاستشهاد بها على سبيل الاستئناس في القرون الأربعة الأولى قبل أن يتم النظر لها فيما بعد بسلبية وازدراء، ولذلك وُظفت في التفسير وقصص الأنبياء وغير ذلك من قِبل كبار الرواة مثل ابن عباس رضي الله عنهما وفيما بعد ابن جرير الطبري (ت ٣١٠هـ / ٩٢٣م)، في حين انتقدت بشدة من قبل المتأخرين وفي مقدمتهم: النووي (ت ٦٧٦هـ / ١٢٧٧م) وابن كثير (ت ٧٧٤هـ / 1373م).

ونفس ما قيل في “الإسرائيليات” يُقال في حديث “المبتدع” إذا روى ما يقوي بدعته، فالأصل قبول حديث المبتدع الذي يعتقد خلاف المعروف عن النبي صلى الله عليه وسلم لا بمعاندة بل بنوع شبهة، ويستثنى من ذلك حديثه الذي يقوي بدعته فيتوقف فيه حتى تتأكد صحته من مصدر آخر، وذلك مظنة التساهل في الرواية، لا لاتهامه بالكذب، إذ المتهم بالكذب لا يقبل حديثه مطلقًا سواء روى ما يقوي بدعته أو روى ما لا علاقة لها به، ومثال التساهل؛ التدليس بإسقاط أحد الرواة من السند، وهو ما عبر عنه أسد رستم (1897: 1965م) بقوله: “الاحتياط في مسألة تتعلق برأي الراوي في حقيقة ما يروي، هل لراوي الحديث مصلحة فيما يروى؟!” [٦].

فهذا التوقف هو في حقيقته نوع من الشك المنهجي، ولا مبالغة في وصفه بالمنهجي لأنه ليس خبط عشواء، وينبني عليه ترتيبات عدة في العلم، والتمثيل هنا بعلم الحديث بالضرورة، من ذلك:

(١) إيقاف عمل الأصل:

كما في الحديث المقبول باعتبار منتهاه، وهو المرفوع والمسند [٧]، فالمرفوع: ما ينتهي إلى النبي صلى الله عليه وسلم إما تصريحًا أو حكمًا، من قوله صلى الله عليه وسلم أو من فعله أو من تقريره، والمرفوع أنواع [٨] منها: المرفوع من القول حكمًا؛ وهو ما يقول الصحابي مما لا مجال للاجتهاد فيه [٩]، فالأصل في هذا النوع أنه مقبول، لكن الشرط فيه ألا تكون رواية الراوي عن “الإسرائيليات“، وإلا أوقف عمل الأصل بإيقاف الخبر على الصحابي أو الراوي ولم يأخذ حكم الرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

نموذج آخر ذكره أبو عمرو بن الصلاح (ت ٦٨٤هـ / ١٢٤٥م) وغيره هو وقف الحديث إذ كان في مجال العقائد والأحكام ولم يكن فيه لفظة مُشْعِرة بالرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم [١٠] فأوقف عمل الخبر لوجود شك يُحتمل معه الخطأ أو ما يمكن التعبير عنه بالقابلية الحديثية للخطأ، وهو خطأ لا في السند ولا في لفظ المتن، إنما في النسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

ووصف الشك هنا بـ “المنهجي” لأنه غير مبني على محض تعقل النص أي النظر في عقلانيته للناقد أو الناظر كما يذهب الحداثيون، أو مشكلة ما في الإسناد كخطأ أو وهم أو تدليس أو نحو ذلك كما هي قواعد المحدِّثين، إنما بُني الشك هنا على ما تيقن من المعلومات، فالمحدثون هنا لم يكتفوا بالأسباب الغريزية لبناء اعتقادهم بالرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، إنما طلبوا حدًا أدنى من الأسباب المعرفية التي عبر عنها البعض بـ “اللفظة المُشْعِرة“.

(٢) ليست كل معرفة قابلة للشك:

وضع رينيه ديكارت René Descartes (١٥٩٦: ١٦٥٠م) مُنشئ الشك الديكارتي؛ كل المعتقدات والأفكار والعلوم موضع شك، فكل معرفة عنده يمكن أن تكون خاطئة، حتى التجربة الحسية غير المتنازع عليه، وهي النمط الأساسي للمعرفة عنده، وهذا في الحقيقة شكل متطرف مبالغ فيه من الشك لا يمكن أن يوصف بالمنهجي، فالمنهجية تفترض أن ليست كل معرفة قابلة للشك، وهذا هو جوهر الشك الحديثي، فالشكوك المعرفية في التصور الإسلامي رشيدة معتدلة ليست متطرفة كتلك الديكارتية الفلسفية.

فالحديث الذي يثبت صحة إسناده، وخلوه من العلل، وعدم نكارته، ويثبت رفعه للنبي صلى الله عليه وسلم تصريحًا أو حكمًا؛ لا يمكن أن يكون محلًا للشك أو مجالًا لترتيب أحكام الشك الحديثي، سواء بإيقاف عمل الأصل أو الإحالة إلى معرفة أخرى، لأن هذه المعرفة اكتسبت قيمتها بالحواس أولًا، ثم اختبرت بالعقل ثانيًا، فاليقين الذي تفيده لا ينشأ عن مجرد انطباعات قوية إنما عن علم لا مجال للتشكيك فيه، وهذا العلم يدور بين “العلم اليقيني” و “العلم الظني” كما عبر المحدِّثون، والظن هنا لا يعني الاحتمال، بل هو نوع من العلم مبني على غلبة الظن وهو معتبر عند أهل العلم، بل كثير من العلوم الغربية التجريبية مبنية عليه ولم يشكك فيها أحد، بل أحد أهم مدارس الشكوك الغربية هي مدرسة الشك الأكاديمي Academic Skepticism تأسست على فكرة الاقتناع باليقين الناشئ عن الانطباعات القوية التي لا ترقى إلى مستوى العلم، وأطلقوا عليها “الانطباعات المعقولة” ووصفوها بالغير متناقضة وغير المتنازع عليه، وهي أقل بكثير من إذا ما قورنت بـ “العلم الظني” لدى المحدِّثين الذي تفيده الأحاديث النبوية في الجملة أو تحديدًا “أخبار الآحاد” باعتبارها أغلب أنواع الحديث، قبل أن يصير هذا العلم “يقينيًا” بمجرد ثبوت صحة الحديث وخلوه من العيوب، ولذلك قطع فقهاء المسلمون باعتباره من مصادر المعرفة الإسلامية.

ومن هنا يُعلم الخطأ الفاحش الذي وقع فيه الحداثيون الذين حَمَلوا ببلادة شديدة العلم الظني الذي تُفيده أحاديث الآحاد على مطلق الظن والاحتمال [١١]! وهل في جميع كتب الأديان السماوية باستثناء القرآن ما يرقى في ثبوته إلى مرتبة أحاديث الآحاد؟! وهل في جميع كتب فلاسفة اليونان والرومان؛ أفلاطون وأرسطو وشيشرون.. الخ، التي يُحتفى بها في الأكاديمية والدراسات الغربية وتؤسس عليها علوم الغرب وفلسفاتهم؛ ما يرقى في ثبوتها عن أصحابها إلى مرتبة أحاديث الآحاد؟!

وإن من أهم الدلائل العملية على حُجية خبر الآحاد في الجملة، ليس روايته جيلًا بعد جيل منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم فحسب، بل العمل به، لاسيما في حياة الأئمة الكبار والفقهاء والزُّهاد، وهو ما يمكن التعبير عنه بشيوع العمل به، ما يكشف عن رسوخ حُجيته في العلم والعمل، ولم يُعرف في تاريخ العلم أن معرفة ظنية أو قطعية انتقلت بالحفظ والعمل معًا عبر الأجيال لعشرات السنين مثلما وقع للحديث النبوي، المتواتر منه والآحاد، حتى تحولت المعرفة الحديثية في الجملة إلى أعراف راسخة استعصى على الاستعمار بجبروته قلعها من جذورها، كما استعصى على أعداء السُّنة والحداثيين ذلك، ومنه يُعلم السر في تجدد دعواتهم وحملاتهم حول إنكار السُّنة ونقدها.

ولذلك تأمل قول عروة بن الزبير (ت ٩٤هـ / ٧١٣م) حين عُرض على عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي؛ أن رجلًا تَحَجَّرَ على أرض، ثم عطلها، فجاء آخر فأحياها، فاختصما إلى عبد الملك، فقال: ما أرى أحدًا أحق بهذه الأرض من أمير المؤمنين، ثم التفت إلى عروة فقال: ما تقول؟ قال: “إن أبعد الثلاثة من هذه الأرض أمير المؤمنين”، قال: ولم؟ قال: “لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «العباد عباد الله، والبلاد بلاد الله، ومن أحيا أرضًا ميتةً فهي له»، فقال عبد الملك: انظروا إلى هذا، يشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لم يسمع منه، فقال عروة: “أفأُكفَّرُ أو أُكَذَّبُ مما لم أسمع منه؟! أسَمعْتَهُ يقول: الظهر أربع والعصر كذا والمغرب كذا؟! إن الذين جاءونا بهذا هم جاءونا بهذا” [١٢].

إن الطعن في أحاديث الآحاد وردها جملةً؛ لا يعدو أن يكون مدخلًا للطعن في السُّنة كلها وردها دفعةً واحدة، آية ذلك أن الطاعنين شككوا أيضًا في الأحاديث المتواترة وردوها رغم إفادتها العلم اليقيني أو القطعي الذي انتقصوا أحاديث الآحاد لأجله، استنادًا إلى عدم انضباط مقياس التواتر بزعمهم، سواء بالعدد أو القرائن [١٣]، واعتبروا المتواتر المعنويبدعة ابتكرها المحدِّثون للخروج من مأزق ندرة المتواتر اللفظي [١٤]، متجاهلًا الفكرة المركزية في التواتر المعنوي وهو عودة الألفاظ المختلفة لمعنى واحد، أو تضافر الألفاظ على معنى مشترك، وهو ما يتطلبه الفرق الجوهري بين الحديث النبوي والآية القرآنية، وهو ما تستسيغه اللغة والعقول بلا إشكال منهجي، وإلا لمَ لا تجيز معابد هؤلاء الطاعنين (جامعات ومؤسسات العلم الحديث) استنساخ الأفكار ونقلها، وتعتبرها سرقة علمية رغم اختلاف الألفاظ والعبارات، بل ولا تتسامح أبدًا في شيء من ذلك مهما قلَّ قدره؟! فينظرون للمعاني أكثر من نظرتهم للألفاظ والمباني.

والغريب أن هؤلاء الحداثيون يقبلون ويُقدسون ما نُقل عن الفلاسفة في غابر الزمان رغم انقطاع الصلة بها كليةً سندًا وموضوعًا، ولا يقبلون التشكيك في هذه الفلسفات، ومتواتر المسلمين أعظم بلا شك منها، إذ يستند إلى طرق واضحة متنوعة بخلاف هذه الفلسفات!

(٣) الإحالة إلى معرفة أخرى:

لا يزيل الشك الحديثي المعرفة كليةً، وهو سر وسمه بالمنهجية، فهو في طبيعته مختلف كليةً عن الشك الفلسفي الديكارتي الغربي، لأن الشك الحديثي يُحيل إلى معرفة أخرى، وإن كانت أقل في الترتيب في الهرم المعرفي الإسلامي، فالتوقف في رفع الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا يعني أنه جُرد من كل قيمة، لأن الإيقاف على الصحابي يعني انتقاله إلى نوع آخر من العلم له اعتباره في حالة عدم وجود النص الشرعي أو وضوح دلالته، لذلك عده الفقهاء من المصادر الشرعية غير المتفق عليها، وبعضهم ذهب إلى اعتباره مصدرًا رابعًا بعد الإجماع، وهو ما ذهب إليه جمهور الحنفية [١٠] والحنابلة [١١] ومالك في رواية والشافعي كذلك [١٢]، وبسط القول في ذلك في كتب أصول الفقه، وكثير من المسائل الفقهية التي لا حيلة لنا في حصرها بُنيت على أقوال الصحابة ومذاهبهم، وهذا أمر معروف مشهور في الفقه.

فالشك الحديثي جزء من المنهج العلمي حقيقةً لا حكمًا، لأنه يفيد بمعرفة في جميع الأحوال ولا يهدرها كليةً، وهو في غاية الانضباط والدقة والتقعيد الذي لا ينخرم.

وحاصل القول في الترتيبات الثلاثة المتقدمة أن الشك كان منهجًا للوصول إلى المعرفة بالاعتماد على ما يأتي:

أولًا: الأصل ثبوت الخبر وما يترتب عليه من أحكام، أي ثبوت الرفع بتصريح الصحابي.

ثانيًا: عدم جزم الصحابي بنسبة الخبر الذي لا مجال للاجتهاد فيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا يقتضي في ذاته إيقاف عمله.

ثالثًا: إيقاف الخبر الذي لا مجال للاجتهاد فيه على الصحابي لا يكون إلا بقرينة قوية، لأنه خلاف الأصل، كرواية الإسرائيليات، أو التعلق ببيان لغة كشرح غريب، أو الخلو التام عن الألفاظ المشعرة بعلاقة المروي بالنبي صلى الله عليه وسلم.

رابعًا: الإيقاف لا يقتضي إسقاط المعرفة التي يفيدها الخبر كليةً، بل إيقافها فقط عند حد معين هي النسبة للصحابي.

ما زالت مباحث الحديث النبوي غنية بالكثير من المهمات، وإن تفاصيلها العميقة تحمل الكثير من الأفكار المنهجية والتقويمية المتنوعة التي يمكن مد نطاق الاستفادة منها لما هو أبعد من علم الحديث، غير أن الاهتمام المعاصر بهذا العلم قد انتقل من خانة تتبع جهود الفكر الإسلامي في مباحثه إلى مطاردة محاولات الحداثيين والعلمانيين في نقد هذه المباحث وردها بدلًا من الغوص في أعماق هذه المباحث وسبر أغوارها واستخراج كنوزها على ما فعل المفسرون في التفسير والأصوليون في الأصول واللغويون في اللغة.

إننا لا نُنكر أهمية مقاومة الأفكار الحداثية والعلمانية حول الحديث والتراث وتفكيكها، لكن ينبغي ألا تستغرق أكثر من حقها وألا تصير الشغل الشاغل للمؤسسات الإسلامية والباحثين المسلمين لاسيما النوابغ والمجتهدين منهم، بل إن دراسة الحديث النبوي وقوانين اعتباره ومركزيات البحث فيه لاستخلاص المنهجيات التي يمكن أن تُبنى عليها أفكارنا العلمية هو السبيل للحد من كثير من الجدل وتقليص الفوضى التي يثيرها الحداثيون وأعداء السُّنة كل حين وآخر، وما يُسببانه من ارتباك في تناول المسلمين ونقاشاتهم حول السُّنة والحديث.

إن من يقف على اجتهادات المحدِّثين وعلماء المسلمين في سبر أغوار حديث النبي صلى الله عليه وسلم لا يسعه سوى الإقرار بعبقريتهم في بناء هذا النظام المنهجي المحكم، في الإثبات والاستدلال والاستنباط والنظر، فعلم الحديث يعكس نظامًا معرفيًا متكاملًا يحكم نقل المعرفة عن الماضي وتقييمها.

فالدخول إلى عالم الحديث هو مثل الدخول إلى قاعة محكمة، مجال له افتراضاته وأساليب وقواعد الإثبات الخاصة به، الأدلة التي قد تبدو حاسمة، وفي مجال آخر قد يُحكم عليها بأنها غير مقبولة، ومثلما تبدو قواعد قاعة المحكمة أحيانًا غريبة وغير مفهومة للمبتدئين، كذلك عالم الحديث النبوي، لكن بالنسبة لأولئك الذين يعلمون افتراضاته وقواعده الخاصة؛ يبدو النظام متماسكًا بشكل متناهي [١٣].

إن قبول المعرفة والثقافة الغربية للقطع الأثرية والنقوش التاريخية في إثبات الوقائع أو العلوم، كما هو الحال في إثبات الداروينية مثلًا، مع كل ما يشوبها من شك وتناقض وتزوير وتحميل للمعرفة الزمنية وللتاريخ الأثري ما لا يتحمله، ثم الطعن والتشكيك في الأدوات المنهجية الدقيقة التي طورها المحدثون واستعملوها في إثبات السُّنة وتنقيحها، مع كل ما حازته من منهجية علمية وموثوقية ودقة خبرية لهو مما يُثبت بما لا يدع مجالًا للشك أن المعرفة الغربية معرفة غير محايدة ولا متجردة ولا علمية حقيقية.

وإن حصر المعرفة العربية الحداثية قيمة النص الحديثي في نطاقه التاريخي، أي دائرته الزمانية والمكانية التي نشأ فيها وبسببها، ومن ثمَّ إسقاط حجيته باعتباره منتجًا ثقافيًا ظرفيًا حبيس السياقات التي أحاطت به وانتهت بزوالها التاريخي؛ وإسقاط كل الأدوات المنهجية الدقيقة التي وضعها المحدِّثون والأصوليون وطوروها طيلة أكثر من عشرة قرون؛ لضمان نقاء هذا المصدر الديني البدهي عند المسلمين جيلًا بعد جيل؛ لهو مما يُثبت جهل هذه المعرفة الحداثية وتعصبها وغرقها في مستنقع التخلف الذي اتهم الحداثيون به التاريخ الإسلامي والعقل المسلم! ولهذه المعرفة الحداثية أجدر بالانتشال من هذا الظلام إلى تنوير المحدِّثين والأصوليين، لتنشطَ من عِقالها، وتتخلَّص من تبعيتها الأوروبية والهيمنة الثقافية الغربية التي تسيطر عليها، وتؤسس منهجيتها العلمية الخاصة بها المعبرة عن ذاتية ثقافية مستقلة متحررة من كل تبعية.

والحقيقة التي نعلمها ويخفونها هؤلاء أن الطعن في السُّنة سبيل التملص من الدين والإفلات من أحكامه، فمعظم الأحكام الشرعية مرتبطة لزومًا بتعظيم السُّنة النبوية، لثبوتها بها، فمن تجاسر على السُّنة؛ سيتجاسر على الأحكام الشرعية ولابُد، ومن كانت السُّنة هينةً في نفسه؛ فالأحكام الشرعية أهون منها في نفسه قطعًا، والحديث إذا ثَبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أفاد العلم الذي يُفيده القرآن العظيم في الوجوب والحُجية، قال تعالى: {وَأَنزَلنا إِلَيكَ الذِّكرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيهِم وَلَعَلَّهُم يَتَفَكَّرونَ} [سورة النحل: الآية ٤٤]، وهو مقتضى شهادة أن “لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله”.

———-

* للمزيد حول هذا الموضوع، يُمكن الرجوع إلى الفصل الثاني: “علم الحديث وتوطين المنهجية: تأسيس التقاليد العلمية الحديثة من منطلقات العلوم الشرعية”، من كتابي: قصة علم الحديث: التاريخ والفلسفة وتوطين المنهجية.

[١] بمعناها الواسع، الذي يشمل المتفق عليها: قرآن وسُنة وإجماع، والمختلف فيها: قياس وعُرف واستصحاب واستحسان ومصلحة مرسلة وقول الصحابي وسد الذرائع، بل تأكدت فكرة المنع هنا مع الأدلة المختلف فيها، باعتبار الشك حولها.

[٢] سيد سابق: فقه السُّنة، دار الكتاب العربي (بيروت)، الطبعة الثالثة ١٩٧٧م، ج ١ ص ١٣.

[٣] وهو إخراج الحديث من مظانه المدونة وعزوه إلى مصادره الأصلية وتعديد روايته وبيان مرتبته الحديثية من حيث القوة والضعف إن دعت الحاجة.

[٤] المؤتلف: اتفاق أسماء الرواة خطًا واختلافها نطقًا، سواء كان مرجع الاختلاف؛ النقط مثل البزار والبزاز، أو الشكل مثل سَلَام وسلَّام، وضده المختلف.

والمتشابه: أن تتفق أسماء الرواة خطًا ونطقًا وتختلف أسماء آباءهم نطقًا مع ائتلافها خطًا مثل: محمد بن عَقيل ومحمد بن عُقيل فالأول نيسابوري والثاني فريابي وطبقتهما متقاربة، أو تختلف الأسماء نطقًا وتأتلف خطًا وتتفق أسماء الآباء خطًا ونطقًا مثل: شريح بن النعمان وسريج بن النعمان، فالأول تابعي يروي عن علي رضي الله عنه والثاني من شيوخ البخاري، أو تتفق الأسماء وأسماء الآباء وتختلف النسبة، وللمتشابه صورتان: الاختلاف بالتغيير مع ثبات عدد الحروف، والاختلاف بالتغيير مع نقصان بعض الحروف، والبعض أدرج المتشابه ضمن أبواب المؤتلف والمختلف.

والمتفق: اتفاق أسماء الرواة وأسماء أباءهم فصاعدًا واختلاف أشخاصهم، سواء اتفق في ذلك اثنان منهم أم أكثر، وكذلك اتفاق اثنان فصاعدًا في الكنية والنسبة، وضده المفترق.

[٥] وهي نوع من التأليف، يجمع فيه المصنف؛ الأحاديث المروية في موضوع واحد أو عن رجل واحد، أو يدرس فيه أسانيد حديث واحد، وتمتاز بصغر حجمها، وهي كثيرة جدًا شغلت مساحة كبيرة من تاريخ التأليف العربي خاصةً في القرنين الثاني والثالث الهجري.

[٦] أسد رستم: مصطلح التاريخ، مركز تراث للبحوث (القاهرة)، الطبعة الأولى ٢٠١٤م، ص ١٣١.

[٧] والحديث المردود باعتبار منتهاه هو: الموقوف والمقطوع.

[٨] أنواع “المرفوع” هي: المرفوع من القول تصريحًا مثل: سمعت، حدثنا، قال، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمرفوع من الفعل تصريحًا مثل: رأيت، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمرفوع من التقرير تصريحًا مثل: فعلت في حضور، فعل فلان عند النبي صلى الله عليه وسلم، والمرفوع من القول حكمًا: وهو ما يقول الصحابي مما لا مجال للاجتهاد فيه، والمرفوع من الفعل حكمًا: وهو ما يفعل الصحابي مما لا مجال للاجتهاد فيه، والمرفوع من التقرير حكمًا مثل: أن يُخبر الصحابي أنهم كانوا يفعلون في زمان النبي صلى الله عليه وسلم كذا.

[٩] مما لا مجال للاجتهاد فيه: أي ليس من الأمور الاجتهادية، بل يُتلقى عن الوحي، فطريق النبي صلى الله عليه وسلم لابد منه لمعرفته، مثل الإخبار عن الأمور الماضية كبدء الخلق وأخبار الأنبياء، أو الإخبار بالأمور الآتية كالملاحم والفتن وأحوال القيامة، أو الإخبار بما يترتب على فعله ثواب أو عقاب مخصوصين.

[١٠] محمد راغب راشد الجيطان: الحديث الموقوف الذي له حكم الرفع: دراسة نقدية، مجلة جامعة الشارقة للعلوم الشرعية والدراسات الإسلامية، المجلد ١٦، العدد الأول، يونيو ٢٠١٩، ص ٣٨٦.

[١١] من ذلك على سبيل المثال؛ قول محمد سعيد العشماوي (١٩٣٢: ٢٠١٣م): “فقد وردت في القران الكريم آية تقول: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [سورة البقرة: الآية: ٢٧٥]، وفقهاء المسلمين العدول وعلى رأسهم الإمام الشافعي يرون أن آيات الربا على العموم، والآية الكريمة على الخصوص، هي من عموم القرآن أو من مجمل القرآن – الذي لا يتضمن أحكامًا محددة وثابتة وقاطعة – فلا يمكن أن يركن إليها لإحلال البيع وتحريم الربا (زيادة المال)، إلا أن يقترن بها بيان من سنة النبي صلى الله عليه وسلم وشرحه، والحديث الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في خصوص الربا هو من أحاديث الآحاد، أي حديث رواه واحد عن واحد، ولم يتواتر القول به من عدد كبير  من الصحابة”.

محمد سعيد العشماوي: معالم الإسلام، سينا للنشر (القاهرة)، الطبعة الأولى ١٩٨٩م، ص ٢٥٣.

فانظر كيف التشابه في الآية والظن في الحديث مدخلًا للزيغ من أحد أهم أحكام الشريعة القطعية، في أمر توعد مخالفيه بحرب من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والحقيقة أنه ليس مدخلًا للإفلات من هذا الحكم فقط، بل مدخلًا واسعًا جدًا للهروب من الشرع جملةً وتفصيلًا.

[١٢] يحيى بن آدم القرشي: الخراج، المطبعة السلفية (القاهرة)، الطبعة الثانية 1384هـ، ص ٨٧.

[١٣] من ذلك قول حمادي ذويب: “وهكذا فإن مسألة عدد مخبري التواتر شاهد جلي على الاختلاف الذي ميز مواقف الأصوليين، وهو اختلاف يُنبئ عن حيرتهم في تحديد موقف ستكون له نتائج حاسمة بالنسبة إلى كثير من الأحاديث، وأدى ذلك إلى بحث بعض العلماء عن بدائل تمكن من تعويض شرط العدد، من ذلك اعتبار أن الصفات العلمية في الرواة تقوم مقام العدد أو تزيد عليه، أما فريق آخر من الأصوليين فقد استعاض عن مقياس العدد بمقياس القرائن، وهي دلائل تقترن بالخبر لتُثبته.. ولئن أبانت هذه الآراء عن اجتهادات طريفة أدخلت عملية الإخبار في إطار نفسي وسلوكي، فإنها لا يمكن أن تكون مقاييس ثابتة دائمًا، بل هي لا تفيد إلا غلبة الظن لإمكان الكذب فيها”!

حمادي ذويب: جدل الأصول والواقع، تقديم: عبد المجيد الشرفي، دار المدى الإسلامي (بيروت)، الطبعة الأولى ٢٠٠٩م، ص ١٨٠: ١٨١.

[١٤] حمادي ذويب: جدل الأصول والواقع، مرجع سابق، ص ١٩٠ وما بعدها.

ويقول: “وقد أدى هذا إلى تمييع مفهوم التواتر فأضحى قائمًا على معايير ذاتية وخاضعًا لأهواء الفقهاء ومؤشرًا على مواقفهم المتعصبة لمذاهبهم، وبرزت بذلك ظاهرة التناقض بين الأحاديث التي غدت متواترة بالمعنى”.

حمادي ذويب: مرجع سابق، ص ١٩٧.

[١٥] محمد بن أبي سهل السَّرَخْسي الحنفي: الأصول، دار الكتب العلمية (بيروت)، الطبعة الأولى ١٩٩٣م، ج ٢، ص ١٠٥ وما بعدها.

[١٦] سليمان بن عبد القوي الطوفي: شرح مختصر الروضة، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة (بيروت)، الطبعة الأولى ١٩٨٧م، ج ٣ ص ١٨٥ وما بعدها.

[١٧] أبو حامد الغزالي: المُستصفى في علم الأصول، تحقيق: محمد سليمان الأشقر، مؤسسة الرسالة (بيروت)، الطبعة الأولى ١٩٩٧م، ج ١ ص ٤٠٤ وما بعدها.

[18] Daniel W. Brown; The Wiley Blackwell Concise Companion to the Hadith, First Edition, 2020 John Wiley & Sons Ltd., p5.

Share via
Copy link