الجزء الأول: تمهيد:
رغم قِدم صراع الهوية بين الشريعة كمصدر للقانون والقانون بامتداداته الغربية؛ بقدم انهيار الخلافة العثمانية إلا أن النزاع حول فكرة أسلمة الدولة الحديثة نزاع حديث نسبيًا، ونشأته – بخلاف ما قد يتوقعه البعض – تعتبر نشأة غربية، حيث كتب فيها عدد من الفلاسفة الغربيين ابتداءً من منتصف الثمانينات، امتدادًا للكلام حول أخلاقية الدولة الحديثة التي أكثر رافضو الحداثة من الكلام فيها، ولعل أهم من كتب في ذلك الموضوع: أوليفيه كاريه، وبرتران بادي، وأوليفيه روا، ومؤخرًا د. وائل حلاق.
ثم تم تصدير النزاع للمثقفين الإسلاميين أو تلقفوه بصورة أو أخرى، وقد انقسموا إلى ثلاث فرق؛
الأول: ينتصر لفكرة قابلية الدولة الحديثة للأسلمة، ويُمثله جُل من يجتهدون في الإصلاح الديني بآليات الدولة الحديثة، ويمكن القول إنهم لم يستطيعوا عبر ما يقرب من قرن من الزمان تحقيق نجاح يُحسب!
الثاني: يرى عدم إمكانية أسلمة الدولة الحديثة، وهؤلاء بواقع الحال يُمكن تقسيمهم لفريقين مُتباينين؛
الفريق الأول: يرى أنه لا يُمكن تحكيم الشريعة تحكيمًا فعليًا، إلا بتفكيك منظومة الدولة الحديثة كليةً، ولا سبيل للتوصل لذلك إلا من خلال آلية الجهاد، وهؤلاء في الحقيقة منهم من يرفض كليةً التعامل مع الدولة الحديثة وآلياتها، ومنهم من يرى استغلال أي فرصة للتمدد فيها للإصلاح ما استطاع.
الفريق الثاني: يرى أنه لا يُمكن تحكيم الشريعة تحكيمًا فعليًا، إلا بتفكيك منظومة الدولة الحديثة أيضًا، لكنهم لا يقدمون أي تصور (لا كلي ولا جزئي) للتوصل لذلك، وبتتبع أفكارهم وتجربتهم في الدعوة والتعليم يُمكن القول إن أكثرهم عطل الإصلاح وتحكيم الشريعة بصورة فعلية، باستنكار كل إصلاح من منظور شرعي من داخل منظومة الدولة الحديثة أو خارجها، مع تجاهل شبه تام لممارسات الأنظمة الوظيفية الاستبدادية، فحقيقة الأمر أن هذا الفريق أضمر خلف فكرة عدم إمكانية الأسلمة مبدأ اعتزال الصراع السياسي (السلطوي).
بالطبع هؤلاء ليسوا شيئًا واحدًا، وأحسن ما يطمح إليه بعض هذا الفريق؛ إصلاح الحداثة بأخلاق وتربية الشريعة، ففي الحقيقة يمكن وضعهم في طبقة وسيطة بين الفريق الأول والفريق الثاني، ويكأنهم لا يعارضون الحداثة كليةً ولا يعارضون تحكيم الشريعة كليةً، لكنهم يسلمون بحل وسط تصريحًا أو تلميحًا.
وهؤلاء يمكن أن نضع في صنفهم د. وائل حلاق، فهو يدعو بوضوح في نهاية كتاب (الدولة المستحيلة) إلى تفاعل خلاق بين المفكرين المسلمين ونظرائهم الغربيين لإعادة تشكيل الأخلاقيات الحديثة، فالشريعة تمثل الحل الأخلاقي أو ما عبر عنه بـ “مأزق الحداثة الأخلاقي” للدولة الحديثة، يمكن أن نفهم ذلك أكثر في ضوء اهتمام حلاق على وجه الخصوص بطه عبد الرحمن فيلسوف الأخلاق الإسلامي المغاربي.
وهي فكرة سبقه إليها الكبار من المفكرين المسلمين منذ خمسينات وستينات القرن الماضي، وتجاوزوها لما هو أبعد من ذلك لاسيما في اختصاص فلسفة العلوم وتوطين المنهجية الإسلامية في العلوم، وسنذكر طرفًا من ذلك لاحقًا إن شاء الله.
وبعيدًا عن هذه التقسيمات، نطرح السؤال الآتي: ماذا تعني القابلية للأسلمة؟ هل هي تحكيم الشريعة في ظل الدولة الحديثة؟ أم توافق فكرة القومية التي تقوم عليها فلسفة الدولة الحديثة مع الشريعة الإسلامية؟
إذا كان المقصود بالقابلية؛ قابلية التوفيق بين القومية والشريعة، فلا شك أن الاستحالة هنا صحيحة تمامًا، فالقومية – رغم أي تبريرات لإعادة تكييفها وإدخالها في المنظومة الإسلامية – من أهم أسباب تقويض أي مشروع إسلامي حقيقي، لارتباطها بإشكاليات تمس البناء الأساسي للمجتمع الإسلامي الحقيقي، كالجنسية والحقوق المترتبة عليها لاسيما حقوق التنقل واستغلال الموارد والثورات وتوزيعها بين أفراد هذا المجتمع وفكرة السيادة على الإقليم ومنطلقات جهاد الدفع فضلًا عن الطلب.
إن المفكرين العرب الذين تبنوا فكرة القومية في أول أمرها، أمثال زكي الأرسوزي وقسطنطين زريق وساطع الحصري وعبد الله العلايلي؛ اعتمدوا بالأساس على مبدأ أن الأُمة يمكن أن تحتفظ بكامل صفاتها كأمة إذا احتفظت فقط بلغتها كمحدد لهويتها، فلا تفقد صفتها كأمة إذا لم يمثل الدين محددًا لها أو حتى تاريخها أو استقلالها السياسي! فلا يمكن وضع الدين والعرق والتاريخ وأي انتماء أيدلوجي في نفس أولوية اللغة للأمة، في حين خالفهم آخرون، أمثال: أحمد لطفي السيد وسلامة موسى وأنطوان سعادة وطه حسين وسعيد عقل ويوسف الخال؛ ورأوا أن الوطن السياسي هو المحدد الأساسي للأمة، لا اللغة.
وأيًا ما كان الأمر فقد أخذت القومية منحى مهمًا جدًا في الفكر العربي، وعلى أساسها تشكلت أفكار ما يمكن أن نطلق عليه “قوممة القوانين” أي جعلها ذات بُعد قومي فحسب، مثل تمصير القوانين في مصر في الربع الثاني من القرن العشرين، والتي تزعم حركتها د. عبد الرزاق السنهوري.
والحقيقة أن نجاح القيادات السياسية في العالم الإسلامي في توظيف فكرة القومية في تعبئة الجماهير كان نجاحًا نسبيًا لم يصمد طويلًا أمام نجاح الرموز الدينية في توظيف الفكرة الإسلامية في تعبئة الجماهير التي نجحت أكثر من مرة في أكثر من مناسبة نجاحًا غير متوقعًا رغم كل ما تلقته من تخذيل وصفعات، ولو أن الجماهير الإسلامية حصلت على قيادة إسلامية مستقلة عن الأنظمة الملوكية والعسكرية الاستبدادية وعن الآثار الاستعمارية؛ لظهرت قوة الجماهير المسلمة والتحمت بهذه القيادة التحامًا باهرًا وأنتجت قوة لا تقهر، على عكس مع تصور البعض إزاء هذه الجماهير! وليس أدل لنا على ذلك من النجاح الجماهيري للثورة الإيرانية، أو حركة حماس، التي اتخذتا “الإسلامية” شعارًا لها.
وإذا كان المقصود بالقابلية؛ قابلية الشريعة للتحكيم، فلا يستطيع أحدٌ كائن ما كان أن يؤكد إمكانية التطبيق أو ينفيها، فلا يوجد استحالة ذاتية تمنع ذلك، والتجربة التاريخية السابقة ليس من لزومها المصادرة على المحاولة، خاصةً وأن تجربة طالبان تشهد بإمكانية النجاح، ولا محل للاعتراض على هذه التجربة، أو الاستدلال على الاستحالة بنمطية الدولة المعترف بها دوليًا، لأن هذا المانع قائم في كل حال وكل فرض من فروض الحديث عن خلافة أو تحكيم أو تطبيق للشريعة بالإصلاح من داخل المنظومة أو خارجها أو غير ذلك، بل المُسلم مُطالب بالاجتهاد في إقامة شرعه، والسعي نحو تحكيم شريعته في كل زمان ومكان، ولو أن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده قد وضع هذه المصادرات والجوازم الفلسفية لما استطاعوا أن يفتحوا العالم ويصنعوا شيئًا مما صنعوه في سنوات قليلة.
لكن الحديث حول فكرة تحكيم الشريعة بوصفها ذاتها “التقنين”؛ خطأ فاحش، إذ التقنين جزء مهم من تطبيق الشريعة، لضعف الاجتهاد وفساد الذمم، وليس هو تطبيق الشريعة، إنما تطبيق الشريعة منظومة متكاملة، دوائر متداخلة ومتقاطعة، اجتماعية وسياسية واقتصادية وتشريعية ودينية، وبين كل هذه الدوائر عموم وخصوص وعلاقات نظامية متشابكة، بلغت ذروتها في الوجود والتكامل والتشابك في عصر النبوة، ثم عصر أبو بكر ثم عُمر ثم عُثمان ثم علي، ثم لا زالت في زيادة ونقصان وشد وجذب طوال فترات التاريخ الإسلامي.
لكن هنا أمر مهم نشير إليه؛ أن نشأة الدول والنظم وتحولها من حيز التنظير إلى حيز الواقع لا يلزم أن يكون متكاملًا أو شبه كامل أو واضحًا بكافة تفاصيله، بل يكفي فيها تصورات كلية أو مبادئ عامة مجردة، لأن مشروعات الدولة والنظم السياسية عامةً يصنعها الواقع بالأساس ويطورها الزمن وترسم تفصيلاتها وتحكم علاقاتها التجربة، فكل نظم الدول التي وقعت في التاريخ لم يتم التنظير لها تنظيرًا كاملًا شاملًا لكافة تفصيل النظام في أي مرة من المرات، بل إن بعض النظم لم بدأت من الواقع قبل أن يتم التنظير لها بعد عقود من الزمان، مثل النظام الإسلامي، وعلى العكس من ذلك فبعض التظيرات التي كانت تفصيلية في تصوراتها لم ينجح أصحابها وأتباعهم في تحويلها لواقع وظلت حبرًا على الورق مثل نظام المدينة الفاضلة لأفلاطون.
فما هي إذن أسباب رفض فكرة القابلية للأسلمة؟ وأين يتموضع د. حلاق في هذه القضية؟ وما الجديد الذي يقدمه؟ وما الموقف منه؟
يُتبع في جزء ثان…