لا يخفى أن اليوم هو الخامس من أكتوبر، فبعد يومين من “الآن”، ستمر أول ذكرى لأحداث “طوفان الأقصى” الذي هز أركان أُمتنا وأيقظ بعضًا من سُباتها العميق، الحدث الذي زلزل نفوسنا واستولى على مجامع قلوبنا، الحدث الذي أثار فينا الفخر والأحزان معًا، العزّة والأسى معًا، الكرامة والعجز معًا.
وأنا أُحب ألا نتجاوز ذكرى هذه اللحظة، لا أعني يوم السابع من أكتوبر، إنما أعني الخامس من أكتوبر، فمثل هذا اليوم من العام السابق – ولنرجع بالأحداث معًا ونتصور ونتذكر ونعيش جيدًا هذه الأيام التي سبقت أحداث طوفان الأقصى، فليس أبلغ من ذكرى الطوفان؛ إلا ذكرى ما قبل الطوفان – كان ثمة فريقين:
الأول: لم نعلم عنه شيئًا إلا بعد يومين من “الآن”، يُعدّون أنفسهم، لا لحدث اليوم السابع فقط من مبادرة وإثخان وأسر، بل لما بعده من أحداث؛ من تجهيز للأنفاق وأماكن حجز للأسرى وقائمين على رعايتهم ورجال أكفاء تُدافع عن غزة وتدفع عن شرف الأُمة كما نرى كل يوم منذ عام مضى!
الفريق الثاني: لا يأبه بشيء ولا يدري عن شيء، يتابع “الترندات” وغارق في أحواله ومشاكله اليومية، حتى حدث الطوفان وما بعده، فتغير حاله، إذ زاحمت “غزة” همومه اليومية، فبعد أن كان لا يُبالي كثيرًا بـ “المقاطعة” صارت جزءًا من روتينه اليومي، ومتابعة “أخبار غزة” والنشر عنها بات جزءًا أساسيًّا من اهتماماته أو كل اهتمامه، و “الدعاء” للمستضعفين والمجاهدين أصبح وردًا يوميًّا عنده أو شبه ذلك، وإيصال المال والبحث عن المساعدات لهم صار همًا من همومه، وغير ذلك مما يقدرُ عليه من قول أو فعل.
بالطبع، ثمة فريق ثالث لم تُغير الأحداث فيهم شيئًا، وربما ولا على مستوى الشعور حتى، فهؤلاء ليسوا معدودين في البشر، فالذي يهمنا من حيث التأمل هما الصنفان الأول والثاني، إذ يمكن أن نفهم من خلالهما شيئًا من معنى “الاستعمال”؛ استعمال الله عز وجل للمؤمن، الذي يُعبر عنه حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ، اللَّهُمَّ اهْدِنَا وَاهْدِ بِنَا، وَانْصُرْنَا وَانْصُرْ بِنَا» [1]، فهذه الباء والضمير “بنا”، يُراد منها هذه الهداية الجليلة من الله عز وجل؛ هداية “الاستعمال”.
فنحن إزاء هذه الهداية بين حالين:
فئة أعدت فسبقت، وهؤلاء الذين صدقَ فيهم قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: «لَا يَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ»، وقوله: «إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا، الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ قَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ»، قال الصحابة: منهم يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «بل مِنْكُمْ».
وفي الحديث: «أُمَّتِي كَالْغَيْثِ لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ»، يوضحُ شيخ الإسلام ابن تيمية معناه بكلام بديع فيقول: “معناه في المتأخرين من يُشبه المتقدمين ويُقاربهم، حتى أنه من قوة المُشابهة والمقارنة؛ لا يدري الذي ينظر إليه أهذا خيرٌ أم هذا؟!”[2].
وبالطبع المقصود تبشير المتأخرين بأن فيهم من يُقارب السابقين، لا أنه يَسبقهم في الإيمان أو يَفضُلهم، فالله عز وجل يقول: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى}[سورة الحديد: الآية ١٠].
بل يتعجب النبي صلى الله عليه وسلم من أحوال أهل الإيمان والثبات في زمان المتأخرين، حين يسأله الصحابة رضي الله عنهم: «أَيُّ النَّاسِ أَعْجَبُ إيمَانًا؟»، قال: «قَوْمٌ يَأْتُونَ بَعْدِي يُؤْمِنُونَ بِالْوَرَقِ الْمُعَلَّقِ!»، والحديث فيه ضعف لكن حسنه البعض، ومعناه أنهم يؤمنون بكتاب الله عز وجل ولم يروا رُسله ولم يشهدوا مشاهد الإيمان التي كانت في زمن الصحابة أو نقلها الصحابة للتابعين والتابعون لتابعيهم، يأمنون بالمقروء الذي بين أيديهم ويدفعون عنه ويبذلون له الغالي والنفيس، فإيمَانَهُمْ أَعْجَبُ مِنْ إيمَانِ غَيْرِهِمْ!
فهذه المشاهد الأسطورية لا تدع في النفس ذرةً لأي تباهٍ ما يمكن أن تتباهى به، أو فخرٍ تفخر به، هؤلاء لم يُعيدوا للأُمة اعتبارَها فحسب، ولا أعادوا نظرَ الناس للقدوات والرموز فقط، بل الأهم أعادوا ترتيب آمال الناس وأمانيها!
كنا نظن أن هذه الأُمة فقيرة، فإذا بها غنية غنىً يفوق الوصف، ولو كانت هذه البطولات؛ روايات وأفلام مبنية على قصصٍ حقيقية؛ ربما لم يُصدِّقها أحد.
فهذا حال الفريق الأول، الفريق الثاني: لم يعدوا شيئًا ولم يستعدوا، لكن أنقذتهم مشاعرهم، وأسعفتهم قلوبهم وقدر ما كان فيها من خير، فعملهم كان رصيدهم عند الله عز وجل، فانفعلت مع العزة والآلام التي شاهدت بما تقدر عليه وما تملك، قطعًا لم يبلغوا درجة هؤلاء الذين استعدوا فسبقوا، لكنهم كذلك لم يسقطوا في أوحال النفاق واللامبالاة والبلادة والبله، وهذا من رحمة الله عز وجل ولُطفه بهم!
الآن، بعد عام كامل من هذه البداية المُلهمة؛ لو تأملناها، من حيث كونها مهيبة للبعض، منحطة للبعض، يمكن أن نسأل أنفسنا: لماذا ننتصر لهذه القضية؟ أو ينبغي علينا أن ننصرها وكذلك ننصر كل قضايا المسلمين في السودان وسوريا ولبنان؟ ولماذا يجب على هؤلاء المستضعفين والمقاومين أن يصمدوا ويصبروا ويثبتوا، ولو كانوا وحدهم ولم ينصرهم أحد؟
والإجابة ببساطة شديدة، وبدون تعقيدات، هي: لأن هذه القضية سبيل من سُبل بلوغنا الجنة، لذلك فهذه القضية هي قضية إيمانية بالأساس، لا محض قضية تحررية، فما الفائدة التي ستعود عليك لو تحررت فلسطين ودخلت النار؟!
وهذا مغزى قول الإمام مالك رحمه الله: «لَا يَصْلُحُ آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا بِمَا صَلَحَ بِهِ أَوَّلُهَا»، وهو طلب العزة من الله تعالى وبذل النفس والمال فيه عز وجل.
نحن ننصر فلسطين وسوريا والسودان ولبنان لأنها واجب أمام الله عز وجل، ولو علمنا أن ديننا يعفينا من نصرتها؛ لما فعلنا ذلك!
وهذا يقودنا إلى مرتكز هذا الموضوع وهو “إيمانيات القضية”، فكل قضية من قضايا المسلمين، وكل ظاهرة في حياتهم لها “إيمانيات”، من عقائد وسُنن وأصول أحكام تُحيط بها، ويتشكل من خلالها وعينا بهذه القضية وهذه الظاهرة، وهذا لزوم كون المسلم “عبدًا” لله عز وجل.
فالإسلام لا يترك المسلم دون أن يُعيد تشكيل نظرته ويُذْكَره بفطرة التوحيد، ويشحن وجدانه بمعانٍ يستحيل على العلم والتجربة الوصول لها، فتمتلئ نفسه؛ حمدًا وشكرًا واستغفارًا وتسبيحًا وتكبيرًا وذكرًا، فلا يتركه فريسةً للهم والكرب والأسى والحزن وحيرة العقلانية، بل يُعيد لك توازنه ويُصحح مساره، لأن النفس أكثر احتياجًا من الجسد، لذلك كان تركيبها أحد أبهر آيات وجود الله عز وجل، فأقسم بها تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [سورة الشمس: الآية ٧]، وهو لا يُقسم إلا بعظيم، فإن لم تُقابَل بما يُراعيها فيما لا تقدر عليه؛ تجرعت مرارة ذلك ألمًا وضيقًا وتعاسةً وشعورًا بالخسارة والحرمان.
والحقيقة أن إيمانيات قضية فلسطين خاصةً، تسوَّد فيها عشرات الصفحات، ولذلك حاولتُ أن أنتقي بعض الأمور من وحي أحداث طوفان السابع من أكتوبر؛ لأُركز عليها، وأبثُ من خلالها الأمل في النفوس وأشحذ الهمم، فكل سوء ظن بالله والعياذ بالله، ثم بالأُمة، ثم بالنفس، إنما هو نتيجة نقص معرفته بهذه الإيمانيات، وعلى قدر ما يكتسب الإنسان من ثقة في هذه الثلاثة؛ بالله وبالمؤمنين وبنفسه؛ على قدر ما يُمكنه مقاومة الواقع وتغييره.
فأولًا: المسلم لا يُقاتل بعزيمة وبحق إلا غَلَب، قطعًا ويقينًا، مصداق قول الله تعالى: {وإنْ يُقاتِلُوكم يُوَلُّوكُمُ الأدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} [سورة آل عمران: الآية ١١١]، وقوله في مناصرة المنافقين واليهود لبعضهم: {ولَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهم ولَئِنْ نَصَرُوهم لَيُوَلُّنَّ الأدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} [سورة الحشر: الآية ١٢]، وقوله: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وتُحْشَرُونَ إلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [سورة آل عمران: الآية ١٢]، ولذلك كانت أصدق كلمة خرجت على لسان يهود، قول حُيي بن أخطب: “مَنْ يَخْذُلُ اللَّهَ؛ يُخْذَلُ” حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يُقتل في أعقاب غزوة الخندق: “يَا مُحَمَّدُ! وَاللَّهِ مَا لُمْتُ نَفْسِي فِي عَدَاوَتِكَ، وَلَكِنَّ مَنْ يَخْذُلُ اللَّهَ يُخْذَلُ”، وفيه قال الشاعر:
لعَمرُكَ مَا لامَ ابنُ أخْطَبَ نَفْسه … ولكنَّهُ مَنْ يَخْذُل الله يُخْذَلِ
لذلك، في آخر الزمان حين يصل قتال المسلمين لليهود أوجه كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، يصل الحال بالجمادات أن يسخرها الله عز وجل لنصرة المؤمنين، ففي صحيح البخاري من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تُقَاتِلُكُمُ اليَهُودُ فَتُسَلَّطُونَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ يَقُولُ الحَجَرُ: يَا مُسْلِمُ هَذَا يَهُودِيٌّ وَرَائِي، فَاقْتُلْهُ».
يقول الفخر الرازي في تفسير قول الله تعالى: {وإنْ يُقاتِلُوكم يُوَلُّوكُمُ الأدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ}: “فإن اليهود لم يُقاتلوا إلا انهزموا، وما أقدموا على محاربةٍ وطلب رئاسةٍ إلا خُذِلوا.. يبْقوْنَ في الذِّلَّةِ والمهانَةِ أبدًا دائمًا” [3]!
فاليهود ليسوا ندًا، بحال من الأحوال لجماعة المؤمنين الحقة المتماسكة التي تتبع الإسلام حقيقةً، وما تفعله المقاومة في الصهاينة بكل عتادهم وأعوانهم خير شاهد على ذلك، فما فعلته المقاومة خاصةً وأهل “غزة” عامةً بصمودهم وثباتهم، هو إعادة الهيبة للمؤمن وإحياء هويته التي تُعاند غطرسة الكفر وأهله، بعدما استخف بالمسلمين كل من هبّ ودب!
ثانيًا: عدو الله لا يضر ولي الله أبدًا، مهما كان ومهما فعل، مصداق قول الله عز وجل: {لَن یَضُرُّوكُم إِلَّا أَذَىً} [سورة آل عمران: الآية ١١١]، وكيف ذلك، ونحن نشاهد الشهداء من المسلمين كل يوم؟
نعم، صحيح، لكن هذا لأننا لا نُدرك حقيقة: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [سورة آل عمران: الآية ١٦٩]، فحياتهم في الجنة محققة يتنعمون فيها من لحظة استشهادهم يقينًا.
لذلك، لنلاحظ دقة التعبير القرآني في {إِلَّا أَذَىً}، يوضح الحَرالِّيّ معناها بقوله: “الضُّر: إيلام الجسم وما يتْبَعُهُ من الحواس، والأذى: إيلام النفس وما يتْبَعُها من الأحوال”، كأنه يقول أن الذي يجده المؤمن هو ضرر متوهم، وما الضرر إلا الحال التي يستشعرها بالضرر، وليس هو كذلك، فهذا الألم الذي يُصيب نفسه هو المقصود بلفظة {إِلَّا أَذَىً}، ودون ذلك لا يوجد أي ضرر يُصيب المؤمن، مصداقًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ».
فالشهادة ليست نهاية المؤمن، بل هي على الحقيقة البداية لحياته الأبدية، يُلخص ذلك قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [سورة التوبة: الآية ١١١]، فجَعَلَ الشهادة في القتال بداية لا نهاية، وسبيل ثراء لا فناء.
ولذلك الحقيقة أن المؤمن لا يُهزم أبدًا، ولذلك لاحظوا دقة التعبير النبوي «هَلْ أَنْتُمْ إِلَّا بَيْنَ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ، بَيْنَ أَنْ يَسْتَشْهِدَكُمُ اللَّهُ، أَوْ يُظْهِرَكُمْ» مصداق قول الله عز وجل: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إلّا إحْدى الحُسْنَيَيْنِ} [سورة التوبة: الآية ٥٢]، فلا يوجد خيار ثالث، لا يوجد خيار اسمه هزيمة، لأن الهزيمة ما هي؟
بقاء في الدنيا مع الخِزْيِ والذُّلِّ والهَوانِ، وهذا ليس من خيارات المسلم، فالنصر بالنسبة للمؤمن متعدد الأشكال، فثمة النصر الذي يعرفه عامة الناس الذي هو ضد الهزيمة، وثمة نصر من نوع آخر هو “الشهادة”، بل هذا الأخير أجلّ للمؤمن وأنفع له، فلئن كان النصر الأول أنفع لجماعة المؤمنين، فالنوع الثاني من النصر أنفع لأفرادهم.
لذلك كان النداء الرباني للنبي صلى الله عليه وسلم: {فَقَاتِلْ في سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} [سورة النساء: الآية ٨٤]، ولم يكتف بالأمر بالقتال، بل جعل التحريض عليه في ذاته عبادة يُتعبد بها الله عز وجل: {وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ}، ثم بيَّن لماذا؟!
فقال: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا}، فبيَّن أن للذين كفروا بأسًا وأذىً، لكن الله تعالى يكُفه إذا أدى كل مسلم ما عليه.
فما أهون التمكين والتنكيل على الله تعالى؛ تمكين المؤمنين والتنكيل بالكافرين، إذا وُجدت التقوى، يقول تعالي: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [سورة الأعراف: الآية ١٢٨]، فالأرض مُلكه، إذا كان خَلْقها وبَسْطها يسيرًا عليه؛ فتمكين عباده المؤمنين منها أيسر وأهون! يقول الطاهر بن عاشور: “من يشاءُ الله أن يُورثهم الأرض هم المُتقونَ، وتمليك الأرض لغيرهم إما عارضٌ، وإما لاستواءِ أهل الأرض في عدم التقوى” [4].
ويقول عز وجل: {فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}، بعدها مباشرةً: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ في السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ} [سورة الروم: الآيتان ٤٧: ٤٨]، كأنه يقول: أيُعجِز الذي يُرسل الريح وينشرها ويحركها في لمح البصر كيف يشاء؛ هينةً تارة وعتيةً تارة، رحمةً تارة وعذابًا تارة؛ أن ينتقم من المجرمين وينصر المؤمنين؟!
ولذلك نقول، مهم أن تضع نصب عينيك دائمًا أن مساندة أهل فلسطين وبذل النفس والمال والقلب لهم ما استطعنا؛ قضية تعبدية، اهتمامنا بها ليس مجرد مواساة أو شفقة أو تعاطف مع مظلوم، إنما بالأساس “عبادة” نؤديها لله عز وجل، قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}، وجعل هذا الولاء موجبًا للرحمة، كما قال في نهاية الآية نفسها: {أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [سورة التوبة: الآية ٧١]، وفي صحيح مسلم: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ»، فلا يكون هو سببًا في ظلمه ولا يتخلى عنه ويترك نصرته إذا ظُلم!
هذا تكليف مرتكزه الإيمان والولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، واستحضار معاني التحرر والمظلومية ونحو ذلك مهما كان جدواه ومهما بلغ أهميته؛ لا يوازي حضور المعنى الديني التعبدي في هذه القضية الشريفة.
ثالثًا: السر في استرسال القرآن في التحدث عن اليهود، وتفصيل تاريخ أُمتهم أكثر من أي أُمة أخرى، وتشخيص نفسياتهم الشريرة، وتشريح الشخصية اليهودية، وما فيها من نكران وغدر وجحود وقسوة وأشنع أنواع الكُفر والتنكيل بأولياء الله عز وجل؛ السر في ذلك كله هو {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [سورة المائدة: الآية ٨٢]، فجعلهم قُرناء للمشركين في شدة العداوة، لأن كفر اليهود كما قال ابن كثير: “عِناد وجحود ومُباهتَةٌ للحق وغَمْط للناس” [5].
بل قدم ذِكْرَهم على ذِكْر المشركين ليُنبه على أنهم أشدّ في العداوة من أي أحد، وفي الأثر: “ما خَلا يَهُودِيٌّ بِمُسْلِمٍ إلّا هَمَّ بِقَتْلِهِ”، وفي رواية: “إلّا حَدَّثَ نَفْسَهُ بِقَتْلِهِ”، ويستحلون سرقة من يُخالفهم في الدين وغصب ماله وملكه وخديعته والمكر به، فالمستعمرات التي يسمونها “مستوطنات” التي بُنيت على أرض فلسطين وأملاك الفلسطينيين ما هي إلا مظهر من مظاهر هذه الأخلاق، وقديمًا فعلوا ذلك في أطيان المصريين وسرقة أراضي الفلاحين، لذلك قيل إن من مذهب اليهود أنه يجب عليهم إيصال الشر إلى من يُخالفهم في الدين بأي طريق كان، لذلك يُخبرنا القرآن ألا نثق بهم مطلقًا، وألا نتهاون معهم أبدًا، لا لأنهم أعداء لنا فحسب أو لأنهم يمكرون بنا ويتربصون بنا الدوائر، بل قبل كل ذلك لأنهم عاندوا الله عز وجل وجحدوا حقه تعالى وقتلوا أنبياءه حتى نبينا صلى الله عليه وسلم لم يسلم من آذاهم ومن محاولة قتله، فنحن نشتد في عداوتهم غيرةً لله عز وجل وعلى رُسله، فالمؤمن يجب أن يغار لله عز وجل ويغار على دينه، لا أن يكون باردًا لا حمية له، في الأثر أن عبد الله بن حذافة السهمي، لما أسره الروم كان يجوع ويعطش، فيعرضون عليه الخمر ولحم الخنزير، فيأبى ويقول: “أما إني أعلمُ أنها قد حلَّت لي بالضرورة، ولكن أكره أن أُشمتكم بالإسلام”! ولننظر كيف أن القرآن حين عبر عن هؤلاء الذين تخلفوا عن معارك الإسلام الفاصلة بـ “الخوالف” ألحق ذلك بوصفهم بأنهم: {وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [سورة التوبة: الآية ٩٣]، وفي موضع آخر: {وطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ} [سورة التوبة: الآية ٨٧]، فلا يشعرون بغيرة ولا حمية ولا معنى الإقدام والكرامة، وهو غاية الخذلان!
ولنتأمل كيف استخدمت الآية في {لَتَجِدَنَّ} لام القسم والقصد منها التأكيد، ثم زادت التأكيد بنون التوكيد في نهاية الكلمة، للتشديد على خطورة هذا التنبيه الذي في الآية، وخطورة هذه العداوة، فما من عداوة من بشر أعظم من هذه العداوة وأشدّ وأقسى.
ولنتأمل كذلك دقة التعبير القرآني: {أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا}، تعبير {لِلَّذِينَ آمَنُوا}، أي للذين أظهروا الإيمان، فهؤلاء اليهود لا يشتدون في عداوة المنافقين والذين يُمالئونهم، بل يشتدون في عداوة الذين يُظهرون الإيمان ويتمسكون بدينهم، لأنه كما قال البقاعي: ” من صدق في إيمانه؛ لا يواليهم بقلبه ولا بلسانه” [6]، ولذلك قال الله عز وجل عنهم: {ولَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنهم ما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِن رَبِّكَ طُغْيانًا وكُفْرًا} [سورة المائدة: الآية ٦٤]، وكررها مرتين في القرآن، وقال: {تَرى كَثِيرًا مِنهم يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [سورة المائدة: الآية ٨٠].
رابعًا: من إيمانيات هذه القضية، أن الله عز وجل كما وعد عباده بالنصر؛ وضع لهذا النصر أسبابًا وطرقًا، أوجب على المؤمنين رعايتها، فتأخر النصر ليس في موعود الله تعالى، بل تأخر في أخذ المؤمنين بأسبابه، ولو أخذوا بها لنالوا التمكين بلا أدنى ريب.
فالدعامة الرئيسية التي يقوم عليها كل تغيير هي “الأخذ بالأسباب”، والأخذ المُراد هو الأخذ الحقيقي، لا الاعتقاد المُجرد بالأخذ، فمن أهم الأزمات التي وقعنا فيها، أننا لم نتجاوز في علاقتنا بالأسباب معنى الاعتقاد المجرد (كضد للاعتقاد المادي في الأسباب ذاتها) على حساب ترسيخ الأخذ نفسه في الأُمة، ولو تأملنا لوجدنا القرآن اعتنى كثيرًا بقضية الأخذ بالأسباب أكثر من اعتنائه بالاعتقاد فيها، وهي حكمة رئيسية من تكرار قصص الأنبياء والصالحين، ومن أعجب ما ورد في ذلك قول الله: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [سورة آل عمران: الآية ١٤٠]، ولننظر كيف ناقشت باختصار عجيب جوهر سبب مُصابهم، إذ مع شدة إيمانهم وقوة حُبهم لله ورسوله لم يستحقوا النصر شأنهم شأن خصومهم من قبل، لماذا؟!
لأن النصر ليس حقًا إلهيًا لمن اعتقد أسبابه، بل هو حق طبيعي لمن أخذ بأسبابه، وهذا هو منطق السُّنن الإلهية في التغيير والتمكين!
وهنا نلمس رقة الخطاب القرآني وعذوبته، فقبل أن يواجههم بهذه الحقيقة، ماذا يقول لهم؟!
يقول: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة آل عمران: الآية ١٣٩]، فراعى انكسار قلوبهم، وطيب خاطرهم، ثم بشرهم بأنه سيُرضيهم وأن العاقبة ستكون لهم إذا تمسكوا بإيمانهم ووثقوا فيه.
لذلك، نجد أن أكمل من توكل على الله عز وجل نبينا، وهو صلى الله عليه وسلم أكمل من أخذ بالأسباب! فمن القصص العجيبة التي ربما لا يُنتبه لها في أخذه بالأسباب أنه حين همَّ بدخول بيت المقدس بعدما أُسري به إليه بالبُراق؛ ربطه بالحلقة ثم دخل المسجد! فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يخف أن يفر منه وقد سخره له الذي يقول للشيء كُن فيكون جلّ في علاه، إنما ربطه صلى الله عليه وسلم جريًا على عادته في الأخذ بالأسباب التي يسرها له، فإيمانه العظيم بقدرة الله عز وجل التي ساقته حتى باب المقدس؛ لم تمنعه من استيفاء ما أمره الله عز وجل به من الأخذ بالأسباب، لماذا؟!
عبرةً لأُمته، فالإيمان بأن الله تعالى كما يُدبر الأسباب يُبطلها، وكما يُجريها يَصرفها، وكما يُيسّرها يُعسّرها؛ لا يرفع عن المؤمن العمل بها مهما كانت بسيطة، وإن الذين ركنوا إلى ضعفهم وكسلهم قال الله فيهم: {فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [سورة النساء: الآية ٩٧]، فجوارح المؤمن تعمل وقلبه يتوكل، والأسباب ليست بوجودها، بل باليقين فيمن أوجدها، والأسباب ليست بقوتها، بل بإيمان الذي يُحركها.
فالمتعين على المسلم الأخذ بالأسباب لا الاعتقاد فيها، لأن اعتقاده الراسخ الذي لا يتزعزع يكون في قدرة الله جل في علاه، لأنه مُنشئ للمسببات (النتائج التي تخلفها الأسباب) وليست الأسباب هي المنشئة لها، إنما الأسباب والمسببات معًا خلقُ الله.
فالعلة في تشريع الأسباب والإلزام بها، أن القيام بالأسباب من صميم العبودية لله تعالى، فتحقيقها تحقيق للعبودية، لذلك ترتد بكل أشكالها إلى العلم بالله والعمل لله تعالى، فقانون الأسباب لا يعتمد على قوة الأسباب ولا وضوحها ولا حب الإنسان أو كراهيته لها، بل يعتمد على الرصيد الإيماني عنده، فربما تأتي الأسباب ضعيفة جدًّا بحيث لا ينتبه لها كل أحد، فيغفل عنها أو يتقالها ويُفرط فيها!
ولنلاحظ كيف أن آية الإعداد {وَأَعِدُّوا لَهُمْ}، قيدت الإعداد المطلوب بـ {مَا اسْتَطَعْتُمْ}، {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [سورة الأنفال: الآية ٦٠]، أي ما تقدرون عليه مما أمكنكم، وبعض الناس جعل ذلك سبيلًا لتثبيط المؤمنين، فظن أن المقصود أن تُعدّ بالنظر إلى ما أعدّه عدوك، وهذا خطأ، فالمقصود أن تُعد ما أمكنك وما تقدر عليه، لا أقل من ذلك ولا أكثر من ذلك أيضًا، فليس بشرط أن تفوق في إعدادك قوتهم أو تفوق قُدراتهم، بل الله عز وجل يطلب منك أن تُعطي ما تملك وتبذل ما تقدر عليه، لأن المؤمن يُقاتل بإيمانه وما الأسباب – مهما كان تأثيرها في أي معركة – إلا لاستفراغ كل طاقة موجبة لجلب النصر عند فناء هذه الأسباب، وهذا مغزى دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: « اللَّهُمَّ أَنْتَ عَضُدِي وَنَصِيرِي، بِكَ أَحُولُ، وَبِكَ أَصُولُ، وَبِكَ أُقَاتِلُ».
وهذا في الحقيقة من أهم الدروس اللافتة للنظر في أحداث طوفان الأقصى وما تلاه من أحداث “غزة”!
من العبارات العبقرية التي انتفعتُ بها قديمًا ولا أنساها أبدًا: “المُستعدُ للشيء تكفيه أضعف أسبابه”، فالأمر نفسي أكثر منه مادي، وإيماني أكثر منه حسي، نظير قول الله تعالى لمريم عليها السلام: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [سورة مريم: الآية ٢٥]، وقوله لخليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ} [سورة الحج: الآية ٢٧]، فالقرآن حتى في أضعف الحالات يُشير للأخذ بالأسباب، ولا يدعو لا صراحةً ولا ضمنًا لترك الأسباب في أي حال، ولا أدل على ذلك من حادثة مريم عليها السلام، إذ أمرها أن تهز بجذع النخلة مع شدة ضعفها في حال الولادة ووحدتها واعتزالها الناس، وكان قادرًا على أن يرزقها بغير هذا الأمر البسيط.
لأن الله عز وجل يُريد من المؤمن؛ إيمانه الراسخ لا طاقته الهزيلة، واستجابته للأمر لا قلة الحيلة، واعتقاده في مُسبب الأسباب عز وجل لا ظنه في قُدرة الأسباب، لأن الذي سن الأسباب وشرع الأخذ بها عز وجل؛ قادرٌ على خرق الأسباب عند تعارضها مع عهوده الربانية، وربما نصر الله عز وجل أولياءه بأهون الأسباب، لذلك مثلًا نرى موسى عليه السلام يفر مع قومه من فرعون، لكن الله عز وجل يُغرق فرعون وجنوده!
أغلب الناس ينصرف ذهنه في الاعتقاد في الأسباب إلى معنى تعظيمها، ولا ينتبهون إلى أن استضعافها من تعظيمها على الحقيقة، لأن من يتقالها يعتقد النفع فيها، وهي لا تضر ولا تنفع لا في حال القوة ولا الضعف، فمن عبادة الأسباب والاعتقاد فيها أحيانًا تقالها واستضعافها، فيتركها الإنسان أو يغفل عنها بداعي قِلتها وضعفها، مع أن الله عز وجل هكذا أوجدها ليختبر صدقهم في الإيمان به لا الإيمان في الأسباب!
ولذلك قال الرجلان من الذين يخافون الله من بني إسرائيل لقومهما: {قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة المائدة: الآية ٢٣]، ولم تستقل مريم عليها السلام أمر ربها بهز جذع النخلة وهي في أضعف حالتها، ولم يستغرب إبراهيم عليه السلام أمره تعالى بأن يُؤذن في الناس في الصحراء، فدلّ ذلك على أن الأمر لا علاقة له بقوة الأسباب، إنما في تحقيق هذه المعادلة الصعبة؛ الاستجابة للأمر الشرعي في الأخذ بها مع عدم الاعتقاد فيها.
أما إعطاء الأسباب أكبر من قيمتها بحُجة أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك القتال في مكة لضعف القوة واحتمالية الهزيمة، فهذا افتراض غريب! لأنه صلى الله عليه وسلم لم يُؤمر أصلًا بالقتال، بل في بيعة العقبة طلب بعض الأنصار أن يقاتلوا لما صرخ الشيطان فيهم فأبى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وقال: «لم أؤمر بذلك»، فالذي يقول هذه الحجة الواهية كأنه يتهم الله عز وجل في أمره وشرعه، وهو الذي لو شاء جل في علاه لأطبق على المشركين الأخشبين كما أخبر جبريل نبيه صلى الله عليه وسلم!
والنبي صلى الله عليه وسلم لم يُجاهد المشركين أبدًا إلا وهم أكثر عددًا وقوة، لا في بدر ولا أُحد ولا الخندق ولا خيبر ولا مُؤتة ولا حُنين ولا تبوك، بل لما أعجبتهم كثرتهم في حُنين تأخر عنهم النصر وقال الله لهم: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا} [سورة التوبة: الآية ٢٥] لأنهم تجاوزوا للاعتقاد في الأسباب، فقالوا لن نُغلب من قلة، فكان الدرس أن كثرتهم لم تنفعهم!
فبعض الناس يتصور أن الأخذ بالأسباب يساوي وقوع النتائج، فإذا لم تقع؛ سَخِط وتذمّر، أو نفر عن الأسباب والأخذ بها!فربما يتَعلق بالقوة؛ فإذا تأخر النصر سَخِط وشك في القوة التي بين يديه، أو يتعلق بالسعي؛ فإذا مُنع الرزق تذمّر وارتاب في السعي الذي أقبل عليه!
وهذا من نكد العيش، يظل حائرًا شكّاكًا لائمًا ملومًا، يلوم الخلق والمقادير، “ولومُ المقادير لومٌ لمُقدِّرها” كما يقول ابن القيم، فهذا هو عينه “الاعتقاد في الأسباب” الذي حذر منه العلماء، فالذي أمر بالأخذ بالأسباب هو الذي نهى عن الاعتقاد فيها، والذي خلقها هو الذي منحها قواها لتؤثر، فإن شاء؛ سلبها القوة فتعطلت، وإن شاء أجراها فأثرت!
فالعاقل من اعتمد في جوارحه على الأسباب، واعتمد في قلبه على خالقها.. يأخذ بها ويتمسك بها، لكن لا يرجوها ولا يخافها، يجتهد فيها ويتيقّظ لها، لكن لا يطمئن إليها ولا يتوكل عليها، قال سُفيان بن عُيينة: “من لم يَصلُح على تقدير الله، لم يَصلُح على تقدير نفسه”.
فالمؤمن يُعلق قلبه بالله عز وجل، فيأخذ بالأسباب ولو أيقن أنها لن تفيده شيئًا، لأن قلبه معلق بالله لا بها، وإدراك أنه مُسبب الأسباب وخالقها، ومن خلقها كما يُميتها فتتعطل؛ يُحييها فتؤثر، لا إدراك معرفي علمي فحسب، بل إدراك عملي واقعي، بأن يرجوه تعالى ولا يرجوها، ويخشاه عز وجل ولا يخشاها، فيستوي عنده غياب الأسباب وحضورها، ويتساوى عنده أقدارها إن تعطلت أو أثرت، ولا تحمله على السخط والتقصير في حق الله تعالى، بل يشكر الله في كل حال، ويتوب في كل يوم، وتزيد طاعته كلما ضاقت به أحوال الدنيا وكلما غلبته ماديتها وكَدرها، لأن معية الله عز وجل حاضرة في نفسه دائمًا وأبدًا، والافتقار إليه تعالى في حاضر في قلبه في كل حال.
خامسًا: من الإيمانيات المهمة في هذه الأحداث، أن الله تعالى جعل الدنيا دار ابتلاء وعمل، والآخرة دار حساب وجزاء، ولزم من ذلك أن يختلط الشر بالخير في الدنيا، ويتميزان في الآخرة، فأُمهل في الأولى إبليس وأُمهل الكافر وأُمهل الظالم، ولم يُمهلوا في الآخرة.
ثم إن الله عز وجل خلق الإنسان، وجعل كل حركة منه بقدر، لكنه عز وجل شاء أن تقع أقداره حين تقع؛ بإرادة الناس وعملهم ضمن مشيئة الله المطلقة، إذ خلق فيهم أسباب الخير وأسباب الشر، فإما مائلٌ إلى الهدى والخير، وإما مائلٌ إلى الضلال والشر.
ولأن الجنّة دار خير محض؛ كانت مئة درجة، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، واقتضت ألا يتساوى فيها أهلها، فكان بلاءُ المؤمن بالشر تارة والخير تارة، ليتعلق هو أو غيره أكثر بالله ويتعلق أكثر بالآخرة، وليظهر معدنه الحقيقي، من تجلدٍ وشُكر أو وهْنٍ وكُفر، فيتميز المخلصُ الصادق عن المُدعى الكاذب، كحال الذهب حين يُختبر بالنار، فيزداد لمعانًا بعد لمعانٍ، أما الشوائبُ التي تختلط به فلا تزداد إلا احتراقًا بعد احتراق، ولأجل هذا التمييز خلق الله الخلق وأرسل رُسله وأنزل كتبه.
فالشر ليس مقصودًا لذاته، بل حقيقة الإيمان هي المقصود، فلا غرابة أن نجد أكثر الناس ابتلاءً؛ الأنبياء، إذ هم صفوة خلق الله عز وجل، في الحديث: «أشدُّ الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثلُ فالأمثلُ، يُبتلَى المرءُ على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابةً زِيدَ عليه، وإن كان في دينه رقَّةٌ خُفِّف عنه»!
لذلك لا زال أهل الإيمان في تمحيصٍ بعد تمحيص، واختبارٍ بعد اختبار، وشدةٍ بعد شدة، حتى ينفرَ منهم الغشُ والضعفُ والأنانيةُ والزغلُ والارتياب، ويتبقى الخُلص من عباد الله، الذين تلهج ألسنتهم بـ {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [سورة البقرة: الآية ٢١٤] الذي سأله قبلهم الأنبياء وأصحابهم، فهو سؤال الموقن المتعلق، لا المرتاب الناقم، فوحدهم المؤمنون هم الذين يتوقون لفرج الله، وحدهم من يتعلقون به ويوقنون فيه ويبذلون له.
فإن لم يجدوا الجزاء حاضرًا في دار الابتلاء والعمل لاختلاط الخير فيها بالشر؛ وجدوه مدخرًا ولا بُد في دار الحساب والجزاء، وهذا هو الأصل الذي بايع عليه الأنبياء وأتباعهم من قبل، لذلك كانوا أشدّ الناس بلاءً!
ألم يكن في مقدور الله تعالى أن يُرقق قلوب العباد لأي نبي من أنبيائه بلا عناء ولا عَنَت؟!
ألم يكن في مقدوره أن يُلين قلوبهم لمحمد صلى الله عليه وسلم وهو أحب الناس عند الله عز وجل، فيستجيبوا له فورًا بدلًا من كل ما تعرض له من أذى ومعارضة ونفاق؟!
بلى، لكنه لم يفعل!
ومنه نفهم حقيقة معنى {فَقَدْ فَازَ} في قوله تعالى: {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [سورة آل عمران: الآية ١٨٥]، فهذه الجنة وهذا الفوز، هو أصعبُ انتظار أحقُ بالصبر، وأشفى مصير للذين شوهت الدنيا نفوسهم وأوغلت في إيلامهم، وفي الحديث أنه «يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا وَاللهِ يَا رَبِّ! وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا وَاللهِ يَا رَبِّ مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ، وَلَا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ» [7]!
فقيمة المؤمن الحقيقية بقدر ما يُلاقيه من الصعاب وما ينزل به من البأس وما يَحيق به من البلاء، مهما أوتي من العلم ما أوتي، أو رُزق من الفصاحة ما رُزق، أو اشتد في العبادة ما اشتد، قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [سورة العنكبوت: الآيتان ٢: ٣]، وقال: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [سورة البقرة: الآية ٢١٤].
لأن الغاية من تأخير النصر ليست في العادة “الابتلاء”، فربما كانت “الهداية”، فمن القواعد الجليلة في الدين أن الهَدي أعظم من الرزق والنصر، لأن الرزق والنصر منفعتهما في الدنيا أكبر، ومنفعة الهداية في الآخرة أكبر، ولذلك كان من أقدار الله عز وجل أن يُضيق على بعض الناس في الرزق أو يُؤخر عنهم النصر؛ طلبًا للهداية، وهو يعلم أن هُداهم لا يكون إلا بذلك، فيحسبون أن ذلك من الابتلاء، وهو إنعامٌ محض، ولذلك ورغم أن التكبير استُحب في مواطن النصر والهداية معًا، لكنه لم يرد في القرآن مقترنًا بالنصر، في حين جاء مُقترنًا بالهداية: {لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [سورة الحج: الآية ٣٧] وتكرر الاقتران مرتين!
سادسًا: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم} [سورة محمد: الآية ٣٨]، فهذه المبدأ الإيماني يحمل حقيقة في غاية الأهمية هي أن الإنسان مُكرم بالاستعمال مُكرم بالجهاد مُكرم بالشهادة!
وإذا تأملت هذه الآية؛ تعلم حقيقة أخرى غريبة هي أنه رغم مرارة سُنة “الاستبدال” وشدّتها على من بُدلوا؛ إلا أنها رحمة بالمؤمنين!
فالاستبدال لم يُذْكر في القرآن إلا عند الكلام عن نُصرة الدين ونجدة المؤمنين، وفي الموضعين الذين ذُكر فيهما الاستبدال اقترن مرةً بقوله تعالى: {وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا} [سورة التوبة: الآية ٣٩]، ومرةً بقوله: {ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم} [سورة محمد: الآية ٣٨]، أي أفضل منكم ينصرون دينه وينُجزون وعده، قرأت مرة ملاحظة مهمة عن “الأُمة”، لأحد الكُتّاب المعاصرين يقول: “كما أن الله لم يستثن أحدًا من الخيرية، لم يستثن أحدًا من المسئولية”، في أيامنا هذه لعلنا أدركنا هذه الحقيقة التي ظاهرها العذاب وفي باطنها الرحمة، يقول الفخر الرازي: “لئلا يَتوهموا أن غلبةَ أعداء الدِّين وعِزَّ الإسلام لا يحصُلُ إلا بهم”!
فاللهم استعملنا ولا تستبدلنا.
———-
[1] معمر بن راشد: جامع معمر بن راشد، ملحق بمصنف عبد الرزاق، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، المجلس العلمي بباكستان، الطبعة الثانية 1403 هـ، ص ٤٤٢، والحديث مرسل لكن قد يُقال أنه في فضائل الأعمال، فيصلح الاستشهاد به.
[2] أحمد بن عبد الحليم بن تيمية: مجموع الفتاوى، تحقيق: عبد الرحمن بن قاسم، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف (المدينة النبوية)، طبعة 1416هـ / 1995م، ج ١١ ص ٣٧١.
[3] محمد بن عمر بن الحسن الملقب بالفخر الرازي: مفاتيح الغيب (التفسير الكبير)، دار إحياء التراث العربي (بيروت)، الطبعة الثالثة 1420هـ، ج ٨ ص ٣٢٧: ٣٢٨.
[4] محمد الطاهر بن عاشور: التحرير والتنوير (تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد)، الدار التونسية للنشر (تونس)، 1984م، ج ٩ ص ٦١.
[5] إسماعيل بن عمر بن كثير: تفسير القرآن العظيم، تحقيق: سامي بن محمد سلامة، دار طيبة، الطبعة الثانية 1420هـ / 1999م، ج ٣ ص ١٦٦.
[6] إبراهيم بن عمر البقاعي: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، دار الكتاب الإسلامي (القاهرة)، ج ٦ ص ٢٦٨.
[7] صحيح: أخرجه مسلم في صحيحه (٢٨٠٧/ كتاب صفة القيامة والجنة والنار) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.