وقت القراءة 8 دقيقة
595 عدد المشاهدات

لا ريب أن أهم منجز للنظام المعرفي الإسلامي، هو التفاعل بين مجالات المعرفة المختلفة، ودمج العلوم بعضها ببعض، فكل منها يُؤثر في الآخر، حيث يستند كل مجال معرفي على آخر ويؤدي إلى آخر، وأقصد بالدمج هنا؛ اختلاط العلوم بلا تنافر ولا تعسف وتبادل الفرضيات واستعارة الأدوات، فلم يكن ثمة مسافات فاصلة بين العلوم بالمعنى المعاصر، وهو ما أدى إلى تكوين علماء ومفكرين على دراية واسعة بمعارف مختلفة.

هذا الكتاب يُركز على قضية علاقات العلوم الشرعية والاجتماعية، ويحاول تبيين خصائص علوم الشريعة بالمعنى الاجتماعي ابتداءً، من حيث ارتباط قوة العلم بالشرع، واللغة وما تحمله من مضامين قيمية، والواقعية المعرفية على حساب التنظير، وتكامل العلوم مع الآداب الإنسانية، وكيف تحول الدرس العلمي في الحضارة الإسلامية إلى ثقافة عامة بعد أن امتاز بالوضوح وعدم التعقيد، وخصائص أخرى.

كما يُركز على إشكاليات العصرانية في العلوم الاجتماعية في العالم الإسلامي، من حيث الهُوية والوظيفة، مستعرضًا نماذج لدراسة بعض العلوم مثل القانون والأنثروبولوجيا، ويستعرض فرص أسلمة العلوم من خلال سؤال هل ثمة فجوة بين العلوم الشرعية والاجتماعية؟، ويتناول العلاقة بين العلوم الشرعية والعلوم البحتة، وضرورة توطين الذاتية الإسلامية، ومساراتها، وأهمية المفاهيم كونها مستودع الدلالات، ومركزيات الشريعة وعلاقاتها، ثم نقد فكرة المنهج من خلال ظاهرة حاكمية المعيار الغربي، والإجابة عن سؤال هل يمكن أن تكون الفطرة مصدرًا للمعرفة؟! وكيف يمكن توظيف التزكية معرفيًّا؟!

كشاف الموضوعات:

مقدمة الكتاب

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد..

لا ريب أن أهم مُنجَز للنظام المعرفي الإسلامي؛ هو التفاعل بين مجالات المعرفة المختلفة، ودمج العلوم بعضها ببعض، فكل منها يُؤثر في الآخر، حيث يستند كل مجال معرفي على آخر ويؤدي إلى آخر، وأقصد بالدمج هنا؛ خلط المناهج بلا تنافر ولا تعسف وتبادل الفرضيات واستعارة الأدوات، فلم يكن ثمّة مسافات فاصلة بين العلوم بالمعنى المعاصر، وهو ما أدى إلى تكوين علماء ومفكرين على دراية واسعة بمعارف مختلفة، وهو ما يُفسر موسوعية الكثير منهم وتعدد تخصصاتهم المهنية، فربما نجد الفقيه أو المُحدِّث يتحول إلى قاضي أو فيلسوف ورياضي في الوقت نفسه أو ربما طبيب وكيميائي، بالإضافة لحد أدنى من المهارة اللغوية التي ربما بلغت به رتبة الأديب، ويكون له في كل مجال معرفي إنتاج ليس بالهين أو البسيط.

حتى أن د. كمال عرفات نبهان كان يُطلق على هؤلاء وصف “مؤسسات” لا “أفراد”، حيث لا يمكن قياس إبداعاتهم بمقاييس الجهد والعمر البشريين، إذا نظرنا إلى أمثلة كالبخاري والخليل بن أحمد والطبري والذهبي وابن كثير وابن خلدون وابن حجر العسقلاني وغيرهم، فكل واحد من هؤلاء مؤسسة بإمكانياته العلمية وتآليفه وشيوخه وتلامذته الذين يواصلون مسيرته ويبلغون رسالته.

فإذا كنا نتكلم عن إصلاح العلوم في مجتمعاتنا المعاصرة، فإنه مما تجدر الإشارة إليه أن الإصلاح لا يعني في الأساس رصد النقائص وعلاج مواضع العطب فحسْب، بل الإصلاح في هذا المقام قد يعني التكوينَ والتأسيسَ، ومن أولى عمليات التكوين والتأسيس؛ إصلاح علاقات العلوم ببعضها؛ لأنها عملية تعتمد على فكرة توليد نماذج معرفية مختلفة عبر إنشاء روابط بين العلوم، مضافًا إليها مجموعة من عمليات التطوير وإعادة الإنتاج من منظور إسلامي.

لا نبالغ إذا ما اعتبرنا العلوم الاجتماعية هي الميدان الأرحب للأزمات المنهجية التي حالت دون تحقيق إصلاح العلوم في العالم العربي، وكما أن علاقة المعرفة بالاستعمار أضرّتها وأضرت المجتمع العلمي العربي لعقود طويلة، فكذلك كانت علاقة المعرفة بالسُّلطة؛ إذ كانت وريث الاستعمار في التأثير والتبعية.

ولا يعني هذا أنني أنكر تأثير عوامل الخلل الوافر في الخبرة التدريسية، والتأليف المدرسي، وأساليب التدريس، ومنظومة تحصيل الشهادات والدرجات العلمية، وأبنية التعليم، وغيرها، في اتجاهات العلوم وتطوير النظريات والنماذج المعرفية وتحديد مواقعها في البناء الاجتماعي، بل كل هذا مما أثر عليها ولا بُد، ويُمثل جزءًا من مستقبل الحل.

حقًّا، بذل بعضُ المفكرين المسلمين منذ منتصف القرن الماضي جهدًا كبيرًا في إصلاح العلوم، لكن جميع جهودهم دارت حول أسلمة العلوم والمعارف، ومحاولة فهم وتفسير أفكار ابن خلدون أو ابن تيمية أو غيرهما في ضوء المخطط الغربي للعلوم المعاصرة، وكان يلزمنا تجاوز هذا المستوى من التفكير والعمل؛ إذا ما أردنا أن ترجع الأُمة إلى سابق عهدها، وأن يكون لنا السبق في إنتاج العلوم وابتكار النماذج المعرفية الجديدة، كما فعل أجدادنا من قبل وكما يفعل الغرب كل يوم، فقائمة العلوم الطبيعية والاجتماعية لا تزال في ازدياد والعرب لا يقدمون فيها أدنى مساهمة، بل كل جهودهم مصوَّبة نحو ترجمتها أو تبريرها ولا يُقدمون حتى في هذين الشأنين شيئًا يُذكَر.

لقد كان المُنتظَر بعد طول هذه المدة على إدخال التخصصات العلمية في الجامعات الشرعية أن تتأسس من خلالها للأُمة العربية علومٌ حديثة تملأ الدنيا بثمراتها العلمية، لكن هذا لم يحدث، فأين منظومات مفاهيمنا ومصطلحاتنا الخاصة ودوائر معارفنا ­ الطبية والهندسية والبيولوجية والزراعية والنفسية إلى غير ذلك من العلوم والمعارف ­ التي أنتجناها طوال هذه المدة؟! ولا أعني الاكتشافات والاختراعات – فقد كانت غاية بعيدة المنال بكل أسف – بل أتكلم عن اللغة العلمية والسمة الثقافية التي تُؤكد ذاتيتنا وهُويتنا التي بات تَلمسها في المجتمع العلمي الآن من المستحيلات.

إن المركزية العلمية الغربية لم تعد كما كانت من قبل، بل هي في تفتت وإلى التفتت سائرة، فاليابانيون والصينيون والأتراك والهنود وغيرهم من الأُمم صنعوا لأنفسهم نظمًا خاصة وأنساقًا مستقلة ومناهجَ متميزة في فلسفات العلوم ومفاهيمها ومصطلحاتها، إن الدول المتقدمة التي تحترم شعوبها – قبل أن تحترم تاريخها – لتأبى أن تَدْرُس أو تُدِّرِس العلوم بلغات غير لغاتها وبمفاهيم غير مفاهيمها، وليس العجب في أن نتبنى سياسة التعليم بغير لغتنا ومفاهيمنا بصفة مؤقتة حتى نتمكن من بناء نظمنا ووضع مناهجنا الخاصة، بل العجب في أننا استمرأنا هذه الذلة المنهجية لعقود، واجتهدنا في تبريرها واتهام من رفضها ونقدها بالجهل والتعصب، فالعجب من كِبرنا في الباطل وتلبسنا بدعاوى العلم الزائفة وتقصيرنا نحو تاريخنا ولغتنا ونحو كرامتنا العلمية.

وإن السبيل الوحيد لأي تماسك اجتماعي هو التحرر من كل أشكال التبعية، والتبعية في الأساس عملية تمس الثقافة قبل أن تكون اقتصادية أو سياسية، فالتحرر الحقيقي لابد أن يكون معرفيًّا بالأساس، وهو ما سينتج عنه مقاومة كل أشكال التبعية الأخرى والتحرر منها، وهذا لا يمكن أن يتم دون توطين المنهجية الخاصة، وتأسيس وتجديد العلوم والمعارف بناء عليها، وفي التراث الإسلامي ما يُمكن به تحقيق ذلك وأكثر، وإن أي أمة لا تعي ماضيها لا يمكن أن تصنع مستقبلها.

إن أشد ما يسترعي الانتباه في دراسة العلوم الاجتماعية في كل جامعات العالم؛ هو حضور التراث، فالغربيون في دراستهم للقانون انطلقوا من دراستهم للقانون الروماني، وفي دراستهم للفلسفة انطلقوا من دراستهم للفلسفة اليونانية، وفي دراستهم للدين والسياسة انطلقوا من دراستهم للاهوت المسيحي، حتى تراث العصر الحجري انطلقوا منه في دراسة الاقتصاد والأنثروبولوجيا! بل هذه المداخل لدراسة العلوم لم تنتشر في المدارس الغربية وحده، بل أيضًا في كثير من الجامعات العربية والشرقية!

ولا أُنكر أن ثمّة مفكرين وباحثين أكفاء حاولوا جاهدين التأصيل للهوية الإسلامية في العلوم ومناهج التفكير، لكن كثيرًا من هذه المحاولات لم تخرج عن النسق الفلسفي الأخلاقي التنظيري البعيد كل البُعد عن الإجراءات والفاعلية، فكثيرون تكلموا في مركزية “التوحيد” في الرؤية الإسلامية للعلوم، وحسنًا فعلوا، وبالكاد نجد جهودًا تبحث في انعكاسات هذه المركزية على الإجراءات والنواظم والأفكار العملية! كثيرون تكلموا في أهمية “الغيب” في التصورات الإسلامية، وحسنًا فعلوا أيضًا، لكن أين حضورها في الإشكاليات والفرضيات والمناهج والحلول؟! كثيرون تكلموا في عبقرية المنظومة العقدية والأخلاقية للدين، وهذا حق، لكن ما تأثيرات هذه المنظومة على المنظومات التشريعية والاجتماعية؟!

في الفصل الأول من هذا الكتاب أُركز على قضية علاقات العلوم الشرعية والاجتماعية، مبينًا خصائص علوم الشريعة بالمعنى الاجتماعي ابتداءً، من حيث ارتباط قوة العلم بالشرع، واللغة وما تحمله من مضامين قيمية، والواقعية المعرفية على حساب التنظير، وتكامل العلوم مع الآداب الإنسانية، والتواصل والمحاورة والمراكمة وأدوارها في نشأة الأدوات المعرفية، وكيف تحول الدرس العلمي في الحضارة الإسلامية إلى ثقافة عامة بعد أن امتاز بالوضوح وعدم التعقيد، وخصائص أخرى.

وفي الفصل الثاني أُبين إشكاليات العصرانية في العلوم الاجتماعية في العالم العربي والإسلامي، من حيث الهُوية والوظيفة، مستعرضًا نماذج لدراسة بعض العلوم مثل القانون والأنثروبولوجيا.

وفي الفصل الثالث أستعرض فرص أسلمة العلوم وتوطين الذاتية الثقافية، من خلال سؤال: هل ثمّة فجوة بين العلوم الشرعية والعلوم الاجتماعية؟ كما أستعرض مدى العلاقة بين العلوم الشرعية والعلوم البحتة، وضرورة توطين الذاتية الإسلامية، ومساراتها، وأهمية المفاهيم كونها مستودع الدلالات، وأهمية مركزيات الشريعة وعلاقاتها، ثم نقد فكرة المنهج من خلال ظاهرة حاكمية المعيار الغربي، والإجابة عن سؤال: هل يمكن أن تكون الفطرة مصدرًا للمعرفة؟ وكيف يمكن توظيف التزكية معرفيًّا، وأين موقع التكسب والارتزاق في البحث العلمي وطلب العلم؟

والحقيقة أن بعض هذه الأسئلة والقضايا بقدر ما كانت ممتعة في محاولة الإجابة عليها، وبقدر ما كنت نهمًا في سبر أغوارها؛ بقدر ما أرهقتني في البحث والاستقصاء والتأمل؛ إذ لم أجد ما يروي ظمأي في العديد من المراجع التي تناقش قضايا العلوم في التصور الإسلامي، فأكثر تركيزها على العلوم الطبيعية لا الاجتماعية؛ وما يخص العلوم الاجتماعية؛ فجله يتسم بالعمومية الشديدة أو التبعية للأفكار الغربية للأسف، ولا أنكر أنني بعد هذا البحث والاستقصاء قد غيرتُ بعض قناعاتي حول بعض الأفكار التي كنت تناولتها في بعض كتبي السابقة، وأرجو الله أن تُتاح لي الفرصة لتنقيحها وضبطها في طبعات قادمة، حتى أكون متسقًا مع نفسي ومع ما تعلمته.

والله أسأل أن يوفقني لإتمام هذا العمل على الوجه الذي يحبه ويرضاه.

Share via
Copy link