فالعقول التي مُنحت للبشرية لتقودها لمعرفة ربها وللاهتداء إلى سبُل السعادة التي خطها لها، أصبحت وبالًا عليها حين حادت عن فطرتها الوظيفية، حين جحدت فضل الله عليها، وأنكرت حكمته، وبطرت حُسن تقديره، وأساءت الظن بتدبيره، فاستعاضت بقوانينه الكاملة قوانينها القاصرة، واستبدلت بشريعته المُحكمة شرائعها المُنحلة، فسبحت بعجرفتها ضد تيار الفطرة السوية وهي تحسب أنها تُحسن صنعًا، ومضت بغرورها في دروب الانسياق لبرك الانحراف الآسِن، فبدلت نعمة الله وأحلت بأقوامها دار البوار، وتركها الله عز وجل لزيغها حتى تعلم مآل انقلاب العقول على بارئها، وعاقبة انتكاس فطرتها، لا من جهة العاقبة الدينية أو الأخروية فحسب، بل من جهة العاقبة المادية والمَغَبَّة الدنيوية في المقام الأول.
إن أهم إفرازات الواقع ودلالاته عدم صلاحية العقل البشري لِئن يكون مصدرًا للتشريع، فالتاريخ يُثبت لنا يومًا بعد يوم أن بِنْيَة العقل ضعيفة وَهْنَة يسهُل غشها وخِداعها والاحتيال عليها، إذ يُمكن تزويد جمع من العقول بمعلومات خاطئة معيبة، أو إغوائها بضلالات فاسدة مُنحرفة، فتقع في الخطأ الفاحش بكل سهولة، وتنقاد للضلال البين بلا أدنى مُبالاة!
بل أثبت الواقع أن العقول مع اجتماعها قد تكون غير قادرة على البحث في الأدوات والأساليب والصفات وظواهر الحوادث وهيئات الناس ومظاهرهم، وعلى مقدار ما أَبْدته هذه العقول من براعة في التعامل مع كم الأحداث، فقد أَبْدت في المقابل عجزًا غير محدود في التعامل مع كيفها، وعلى قدر ما كان يُفترض أن تقوم به إذا تعاضدت مع بعضها من تفكير منطقي رشيد، فقد انزلقت في مهاو وحفر التفكير العاطفي الانفعالي والخيالي الوهمي بلا أدنى حكمة أو بصيرة.
كشاف الموضوعات:
الفصل الأول: مدخل إلى الإعجاز التشريعي في الإسلام
- حول فكرة الإعجاز التشريعي: وهم أم حقيقة؟
- الجدل حول مسلك البحث في حِكم الشريعة وعللها
- ضوابط التعليل التشريعي
- القيمة القانونية للشريعة بأقلام مُفكرين غربيين
الفصل الثاني: الأُسس الفلسفية للتشريع الإسلامي
- تكامل التشريع مع القيم والمبادئ الأخلاقية
- النزعة الجماعية للقاعدة الشرعية
- النزعة العملية للقاعدة الشرعية
- ثبات القاعدة الشرعية ودوامها
- عمومية القاعدة الشرعية وتجردها
- عدم رجعية القواعد الشرعية
- عدم جوار الاعتذار بالجهل بالقواعد الشرعية
- التنوع المصدري للقواعد الشرعية:
- الحق بين الشريعة والقانون
الفصل الثالث: في فلسفة النظام العقابي
- مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات
- حفظ الضروريات الخمس أساس التجريم والعقاب
- مبدأ شخصية العقوبة والمسئولية المحدودة
- تنوع أسباب الإباحة وموانع المسئولية والعقاب
- القصد الجنائي وأثر المسئولية غير المباشرة والباعث في ترتيب الأحكام
- عدالة العقاب وتعدد أغراض العقوبة
- التداخل ونظرية تعدد الجرائم والعقوبات
- الظروف المُشددة والظروف المُخففة
- نظام العفو والستر ودوره في إلغاء الأثر القانوني
- مبدأ تفريد العقاب
- الدية وأثرها في إرضاء المضرور أو ورثته
- تنفيذ العقوبات الشرعية
- الجمع بين قاعدتي الإثبات المُطلق والإثبات المقيد
- “اليقين” كمفهوم مركزي في نظام الإثبات الإسلامي
- مبدأ مشروعية الدليل
- تنوع القرائن وتفاوت حُجيتها بحسب قوتها في الإثبات
- بين قاعدتي درء الحدود بالشُبهات وتفسير الشك لصالح المُتهم
الفصل الرابع: في فلسفة النظام المدني
- مبدأ سُلطان الإرادة
- منع التعسف في استعمال الحق
- الذمة وعاء الحقوق والواجبات
- منع تقادم الحقوق والالتزامات
- الشُفعة: كيف وظفتها الشريعة وأفسدتها القوانين الوضعية؟!
- النظرية العامة للشروط العقدية
- نظرية الأهلية وأثرها في الوجوب والأداء
- نواظم الزواج
- نظام تعدد الزوجات
- تعدد أسباب الطلاق وطُرق إنهاء الزوجية
- حق الحضانة
- إبطال نظام التبني
- حق النفقة
- حقوق الميراث ومعاييره
مقدمات الكتاب:
تقديم أ. د. رفعت السيد العوضي
هذه الدراسة تسكن في أحدث العلوم الإسلامية وهو علم الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسُّنة النبوية، وهذا العلم بدأ يتشكل وتتحد أسسه ومجالاته ووظائفه مع مطلع القرن الخامس عشر الهجري.
يُمكن اعتبار هذا العلم هدية وهداية من الله سبحانه وتعالى للأمة الإسلامية في عصر أُطلق عليه عصر ثورة العلم وعصر المعلوماتية.
على المسلم أن يتدبر طبيعة الهدية والهداية التي منحها الله سبحانه للمسلمين إنها من طبيعة علمية وأن يُقارن ذلك مع طبيعة العصر الذي نعيشه الآن إنها طبيعة علمية، وهذه الهداية والهدية العلمية تجعل المسلمين يستوعبون طبيعة عصر العلم ويتعاملون معه بإيجابية ويساهمون فيه بفعالية، بل ويطورونه برشادة إسلامية من طبيعتها التعدد والتنوع، وفي قمة هذه الرشادات تجيء الرشادة الإيمانية.
أُعايش وأعيش حركة علم الإعجاز نشأةً وتطورًا وارتقاءً مُنذ أن بدأ في العقود الأخيرة، ولي مقولة علمية هي أن (علم) الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسُّنة النبوية أقوى وسيلة منحها الله سبحانه وتعالى لأمتنا الإسلامية لتصبح عقلية أبنائها عقلية علمية، قُلت هذا الكلام في مؤتمرات علمية كثيرة، وسمعها مني من سمعها من الذين أُتيح لي أن أخاطبهم بالإعجاز العلمي، ووجدت تجاوبًا إيجابيًا من هؤلاء الذين سمعوها.
إن تدبرًا لبحوث الإعجاز في علوم الطب يكشف عن كيف يُشكل القرآن الكريم عقلية علمية بما يتضمنه من إعجاز في هذا المجال، إن تدبرًا لبحوث الإعجاز في علوم الأرض يكشف عن كيف يشكل القرآن الكريم عقلية علمية، إن تدبرًا لبحوث الإعجاز في علوم الفضاء يكشف عن كيف يشكل القرآن الكريم عقلية علمية، إن تدبرًا لبحوث الإعجاز في العلوم الاجتماعية يكشف عن كيف يشكل القرآن الكريم عقلية علمية.
العقلية التي يشكلها الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسُّنة النبوية تصبح عقلية تؤمن بالعلم، وتتربى على استخدام العلم، وتقبل نتائج العلم، وتطور العلم، وتتطور مع العلم، العقلية العلمية التي يشكلها الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسُّنة النبوية هي عقلية تأخذ بالأسباب وتُفعل الأسباب وتطور الأسباب، العقلية العلمية التي يشكلها الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسُّنة النبوية هي عقلية يسكن فيها المُستقبل وتتعامل مع المُستقبل.
إن دراسات الإعجاز العلمي للقرآن الكريم والسُّنة النبوية والتي بدأت مع مطلع القرن الخامس عشر الهجري هذه الدراسات بدأت ببحوث عن الإعجاز في مجالات العلوم الطبية وعلوم الأرض وعلوم الفضاء، أما الإعجاز في العلوم الاجتماعية فإن بحوثه بدأت في العقد الثاني من القرن الخامس عشر الهجري الموافق العقد الأخير من القرن العشرين الميلادي.
الإعجاز التشريعي في إطار هذا التطور الجديد في بحوث الإعجاز لم تظهر فيه بحوث، وحيث إنني عشت مع الإعجاز العلمي وللإعجاز العلمي مع بدء البحوث في الإعجاز في العلوم الاجتماعية مساهما بالكتابة في هذا النوع من الإعجاز ومُتحملًا مسئوليات إدارية وتنظيمية، فبسبب ذلك يجب عليّ أن أُسجل بعض الخبرات التي عشتها مع موضوع الإعجاز التشريعي.
بذلت محاولات كثيرة لتفعيل البحث في مجال الإعجاز التشريعي من خلال الاستكتاب فيه، والنتيجة التي خرجت بها من هذه المحاولات والتي اتفقت مع رأي سابق لي هو أن الكتابة في الإعجاز العلمي لا تجيء بالاستكتاب، اكتشاف إعجاز في القرآن الكريم أو السُّنة النبوية يبدأ بومضة نور في القلب يتفاعل معها العقل وتتدفق بعد ذلك أفكارًا على الورق.
القرآن الكريم هو المعجزة التي أجراها الله سبحانه وتعالى على لسان نبيه محمد صلي الله عليه وسلم لإثبات دعوته بأنه رسول الله لتبليغ رسالة الإسلام، والعلماء الذين كتبوا في الإعجاز في إطار الكتابة عن علوم القرآن كتبوا عن الوظائف التي يُؤديها هذا الإعجاز أو تترتب عليه، ويُمكن القول إن أهم وظيفة تكلموا عنها هي وظيفة الهداية.
في محاولة لقصر حديثي عن وظائف الإعجاز من معايشتي لبحوثه في السنوات الأخيرة يمكن القول إن أهم هذه الوظائف هي الوظيفة العلمية والوظيفة الدعوية، سبقت إشارة موجزة إلى الوظيفة العلمية، وقُلت عن هذه الوظيفة إن الإعجاز هو أهم وسيلة في يد الأمة الإسلامية لتصبح عقلية أبنائها عقلية علمية.
أما الوظيفة الدعوية للإعجاز في السنوات الأخيرة وجدت تفعيلها في مجالين:
الأول: هو مجال التأصيل النظري، حيث كثرت الكتابة عن الوظيفة الدعوية للإعجاز.
الثاني: هو المجال الواقعي، وظهر ذلك في أن بعض المفكرين في العالم أسلموا عندما تعرفوا على شيء من الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، والأمثلة على ذلك كثيرة منها موريس بوكاي الطبيب الفرنسي الذي أسلم عندما تعرف على جوانب من الإعجاز الطبي في القرآن الكريم.
بشأن هذه الوظيفة الدعوية أُعرف برأي أؤمن به وأذكره عندما تجيء فرصة لقوله، وهذا الرأي هو: الإسلام هو دين العقول المتفوقة، وبشأن الإعجاز أقول إن الإعجاز العلمي هو أهم وسيلة منحها الله للمسلمين لمخاطبة العقول المتفوقة من غير المسلمين في عالمنا المعاصر.
الكتاب الذي أقدمه عمل على مساحة واسعة من موضوعات إعجاز التشريع الإسلامي، هذه الموضوعات شملت: المبادئ العامة للتشريع الإسلامي، وإعجاز التشريع الإسلامي في التجريم والعقاب، وفي مجال الإثبات الجنائي والمعاملات المدنية والأحوال الشخصية.
عندما أنعم الله سبحانه وتعالى عليّ ووفقني للكتابة عن الإعجاز في مجالات العلوم الاجتماعية، الاقتصاد نموذجًا، اقترحت أن نعتبر الإعجاز في هذه العلوم يتضمن نوعًا من الإعجاز التشريعي.
مع أن الإعجاز في علوم الطب وعلوم الأرض وعلوم الفضاء له طبيعته، إلا أن ما أراه هو أن هذا الإعجاز يتضمن إعجاز تشريعيًا، أُشير إلى مثال لتوضيح هذا الرأي: الذين كتبوا عن الإعجاز الطبي في قول الله تعالى: {خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [سورة الروم: الآية 21]، قالوا إن الحديث عن الإعجاز الطبي في هذه الآية يتضمن حديثًا عن الإعجاز التشريعي.
استكمالًا لهذا الذي أقوله عن العلاقة بين الإعجاز التشريعي والإعجاز في العلوم بأنواعها المتعددة أُشير إلى العلاقة بين الدراسات الفقهية ودراسات الإعجاز: الدراسات الفقهية موضوعها الحكم الفقهي، أما دراسات الإعجاز فهي دراسة تالية للتعرف على الحكم الفقهي ومؤسسة على هذا الحكم، هذا الأمر له أهميته، لأنه يعني أن عندنا علم الفقه، وعندنا علم الإعجاز.
الكتاب الذي أقدمه من تأليف الأخ الأستاذ محمد وفيق زين العابدين وهو قاض بالمحاكم، وقد عكست هذه الوظيفة نفسها في كل الكتاب، إن كل موضوع في الكتاب تحس معه أنك أمام قضية، توافرت لها شروط الإثبات، وتوافرت فيها حيدة الحكم.
تعرفت على الأخ محمد وفيق زين العابدين في المعهد العالي للدراسات الإسلامية، وقد لمست فيه خصالًا هي من لوازم البحث العلمي، إنه على خُلق طيب، وحريص على اكتساب جديد في العلم، ويمتلك ثقافة موسوعية.
إعجاز التشريع الإسلامي هو حلقة في سلسلة للإنتاج العلمي المنشور للأخ محمد وفيق زين العابدين، وأدعو الله سبحانه أن يتواصل عطاؤه العلمي، كما أدعو الله سبحانه أن يجزيه خيرًا لجهوده الطيبة في خدمة الإسلام، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
د. رفعت السيد العوضي
تقديم الأستاذ القاضي مُحسن محمد فضلي
يقول الله تعالى في كتابه العزيز: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [سورة الأنعام: الآية 153]، وصراطُ الله المُستقيم هو دينه القيم بما حواه من عقيدة التوحيد وأحكام شرعه وشعائره وما هدى إليه من أخلاق، والتي أتت متضافرة متمازجة متناغمة فلا تجد في كتاب الله وسُنة نبيه فصلًا بينها أو تقسيمًا.
وتأمل قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ* فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ* وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ* أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ* وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ* وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [سورة الشعراء: الآيات 177: 183]، وقوله: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ* وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [سورة لقمان: الآيتان 17: 18]، وقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ* فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة المائدة: الآيتان 38: 39]، وقوله: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [سورة البقرة: الآية 194].
عقيدة في شريعة في شعيرة في أخلاق، مُتناغمة مُتصلة تجرى فى انسياب وسهولة، لتأخذ بلُّبِ المُسلم المُخاطب بها فيُطبقها طاعةً لربه وصلاحًا لدُنياه، ولم تأت تلك الأركان مُقسمةً إلا في بطون الكتب تمييزًا لها عن بعضها تمييز الدارس والمُدرس، أما في التطبيق فلا تنقسم أبدًا إلا في نفوس من يُريد أن يحتال على ربه اغترارًا، ممن يُؤمن ببعض الكتاب ويكفُر ببعض، وما أُولئك بالمُؤمنين حق الإيمان .
لقد أتت شريعة الله مُعجزة، وهذا لا عجب فيه، فهي صُنع الله الذي أتقن كل شيء، والفارق بينها وبين الشرائع التي وضعها الناس لأنفسهم، هو الفارق بين صنعة الخالق وصنعة المخلوق .
ومواطن الإعجاز في الشريعة لا يُمكن وضعها تحت حصر، فهي تتصف بما يتصف به مصدرها الأول (القرآن الكريم) الذي لا تنقضي عجائبه ولا يخلق على كثرة الرد، فتجدها شريعةً شاملةً كاملةً في مقاصدها، ثابتةً في أصولها العامة لا تتغير بتغير الزمان والمكان، وفي ذات الوقت مرنة لا تغفل تغير الزمان والمكان، تأتي بالعزيمة حين تناسب العزيمة، وتأتي بالرخصة حين تناسب الرخصة، ولا تتجاوز أولويات التطبيق، كما لا تتحجر عند قيام الضرورة بضوابطها الدقيقة، ولا تركن إلى قيام الضرورة، بل تجعل من إزالة الضرورة ضرورة.
وتعدل بين الناس كافةً ولا تُمايز بينهم، حقًا وصدقًا وليس ادعاءً، ولا تتعدى مع ذلك علو الإسلام في مظان العلو، وهي بعدُ تترك للناس أن يضعوا لأنفسهم القواعد الضابطة لدُنياهم فيما لم يرد فيه نص، إذ النصوص تتناهى والحوادث لا تتناهى، ولكن مع مراعاة أن يكون ذلك وفق هدايات الله ومقاصد شرعه ليكون تشريع الناس ابتناءً على شرع الله لا ابتداءً من عند أنفسهم .
ولكونها من عند الله اللطيف الخبير، فإن صلةَ المُسلم بها ليست كصلة من عداه بقانونه الذي يحكمه، فإن المُسلم يتعبد لربه بتطبيق شرعه، ويُوقن أنه الرقيب عليه مهما كثر الرُقباء، ولا أحسب أن صلةً تجمع المرء وقانونه أرقى من هذه الصلة .
وهذا الكتاب يُجلي بعضًا من جوانب الإعجاز التشريعي في الإسلام، واضعه قاض من قُضاة مصر النابهين، وأشهد أن القاضي الزميل محمد وفيق زين العابدين قد حمل من اسمه بنصيب وافر، ولا أُزكيه على خالقه، وأحسبه كذلك، فقد عهدته باحثًا في القانون والشريعة، ضاربًا في كل خير وعلم بسهم، وإذا قرأت لقاض نابه عن إعجاز الشريعة فلا يُنبِئك مثل خبير، أدعو الله أن ينفع الكاتب بما كتب، والقارئ بما قرأ، وأن تكون مثل هذه الأبحاث ذُخرًا يُمهد للشريعة أن تعود لمكانها الذي أراده لها واضعها سبحانه، حاكمةً لأوضاع البشر تهديهم إلى صراط الله العزيز الحميد، إنه ولى ذلك والقادر عليه.
أ. محسن محمد فضلي
تقديم أ. د. عبد الله بن عبد العزيز المُصلح
الحمد للّه بما حمد به نفسه في كتابه، والصلاة والسلام على نبيه وآله وأصحابه، أما بعد..
اتفقت كلمة العلماء على أن الإعجاز في القرآن الكريم لا ينحصر في جانب واحد، كما اتفقوا على أن العقول لم تصل حتى الآن إلى إدراك نواحي الإعجاز كلها وحصرها في وجوه معدودات، وأنه كلما ازداد التدبر في آيات القرآن وكشف البحث العلمي عن أسرار الكون وسننه، تجلت نواح من نواحي إعجازه وقام البرهان على أنه من عند الله.
ومن أهم أوجه الإعجاز التشريعي في القرآن الكريم تشريعه لنظام متميز في التجريم والعقاب حيث أحدث الإسلام انقلابًا في المُجتمع العربي، وتحويل الظاهرة الإجرامية فيه من أصل إلى استثناء، فيه دليل قاطع على أن آلياته في مكافحة الجريمة كانت ناجحة جدًا.
وقد ذكرتْ مصادر التشريع في علم الجريمة أن عدد الأيدي التي قطعت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وعمر وعثمان وعلى لم تزد عن ستة أيدٍ، رغم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أقام دولته من قوام مجتمع حياته القتل والسلب والنهب واستحلال الأموال والأعراض، فنقله إلى مُجتمع جديد وعهد جديد، بل حتى المُجتمعات الإسلامية الحديثة لم يصل فيها مستوى الجريمة ليكون أصلًا كما كان عند العرب قبل الإسلام، فكان منهج الإسلام هو الأقدر على مكافحتها بفعالية وبثمن أقل، لذا فإن الكشف عن هذا المنهج أصبح من قبيل الواجب الذي ينبغي أن يوضع موضع التنفيذ، خصوصًا مع استفحال الظاهرة الإجرامية في العالم وعجز المناهج والأساليب الوضعية عن مكافحتها.
وباحثنا جزاه الله خيرًا عن الإسلام والمسلمين قام باستقراء نصوص الوحي المتعلقة بالموضوع والواردة في القرآن والسُّنة، وبالتأمل في أحداث السيرة النبوية وما صاحبها من أخبار، وما حكم به الخلفاء الراشدون، وما قاله بعض الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ووجد أن منهج الإسلام في مكافحة الجريمة يقوم على أسلوبين رئيسيين:
الأول: هدفه منع وقوع الجريمة أصلًا.
أما الثاني: فهو يأتي بعد وقوعها وهدفه منع تكرارها سواء من فاعلها أو من غيره.
وسمي الأسلوب الأول: وقاية، والثاني: سماه علاجًا أو عقابًا، وأثبت أن النجاح لا ينسب إلى أي تشريع فيما وضع لأجله إلا إذا تحققت فيه أربعة عناصر:
أولها: أن يُؤدي الغرض الذي وضع من أجله.
وثانيها: أن يتم له ذلك في أقل زمن.
وثالثها: أن يكون ذلك الغرض قد تحقق بأقل ما يُمكن من التكاليف.
وآخرها: ألا تكون سلبياته أكثر من إيجابياته.
فإذا انعدم عنصر واحد من هذه العناصر لم يكن التشريع ناجحًا ولا فعالًا فيما وضع من أجله، وفي موضوع الإعجاز التشريعي في الجريمة والعقاب فإن النجاح مرهون بالتقليل من نسب الجريمة في زمن قياسي مع اجتناب التكاليف الباهظة والإفرازات السلبية التي تخلفها عملية المكافحة.
ولم يجد الباحث من خلال دراساته المتعددة لأنظمة التجريم والعقاب من العصور القديمة القائمة على المنهج البشري إلى اليوم هذه العناصر الأربعة قد تحققت كلها ولا حتى نصفها إلا في تشريع واحد هو التشريع الذي جاء به القرآن الكريم في ميدان مكافحة الجريمة، والموجود في نصوص القرآن، والمبين في السُّنة الشريفة، والمفسر في أقوال الصحابة الكرام وتطبيقاتهم وأقوال العلماء من بعدهم، ورب سائل عن حقيقة توفر هذه العناصر في التشريع القرآني ومدى تفرده في ذلك، وأثبت أن التشريع القرآني قد تفادى جميع هذه السلبيات وغيرها مما لم يذكره في هذا البحث، والعقوبات التي نص عليها لا تفوت على المعاقب بها حقًا ولا واجبًا، فإذا عوقب بالجلد أو بالقصاص فيمكنه على إثرها مباشرة أن يلتحق بعمله وبأسرته دونما حاجة إلى بناء يضمه وحرس يقومون على خدمته، وفوق هذا كله فهو عقاب رادع زاجر جابر مكفر عن الإثم الناتج عن الجُرم.
وهذه الأحكام التي نص عليها القرآن الكريم على سهولتها وبساطتها وقلة تكاليفها قد حققت من النتائج في وقت وجيز ما لم يحققه غيرها بإمكانيات ضخمة في وقت طويل مما يدل على إعجاز القرآن التشريعي في مكافحة الجريمة.
أسأل الله تعالى أن ينفع به المؤلف وقارئه وناشره والدال عليه في الدارين، وأن يجعلنا من يدينون لله تعالى وحده في كل شئون حياتهم المادية والمعنوية.
د. عبد الله بن عبد العزيز المُصلح
مقدمة الكتاب
بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد..
قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [سورة المائدة: الآيات 48: 50].
اختص الله هذه الأُمة بشريعة محكمة مباركة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، شريعة ربانية سماوية ثابتة لا تتبدل ولا تتغير، شريعة دائمة مرنة عامة تتسع لحاجات البشر في كل زمان ومكان مهما تعددت ومهما تنوعت وكيفما تطورت، شريعة سامية راقية غنية بالمحاسن ووجوه الإعجاز، ومن أحسنُ من الله حُكْمًا لقوم يوقنون.
إن قانون أي أُمة هو مرآة أحوالها المادية والفكرية والاجتماعية، وإذا كان من المفترض أن يكون القانون هو مصدر سعادة كل مُجتمع ونهضته كما يقول فلاسفة القانون [1]، فإنه لن يكون كذلك إذا لم يُحقق متطلباتهم وآمالهم الثقافية والفكرية والمادية التي تمليها طبيعة بيئتهم الدينية والاجتماعية [2]، بل سيكون وبالًا عليهم، وسيكون مصدرًا لتعاستهم وشقاوتهم لا إسعادهم ونهضتهم، فالتشريع الصحيح وليد روح المجتمع ونتيجة أعرافه وثقافته، فالذاتية الثقافية القانونية متجذرة في السلوك الجمعي للمجتمع الذي تطور من خلال العادة والتقليد وفقًا لقيم المجتمع الأخلاقية والدينية كما يقول رواد المدرسة التاريخية القانونية، إذ كل فرد أسير قيمه ومبادئه الاجتماعية، وهي التي تحدد معايير فضائل المجتمع وأهمها العدالة، وهي أعلى عنده من أي تقنين وتشريع، وما يدفعه إلى احترام أي قانون عادل سوى موافقته لها، ولا يدفعه إلى انتهاك أي قانون ظالم جوره عليها، لذا كانت ضرورة الرجوع إلى الشريعة الإسلامية ضرورة قصوى حتى لا تكون ثمَّة فجوة بين طبيعة تاريخ / واقع الأفراد الاجتماعي وبين القوانين التي تحكمهم.
فلا غرابة أن نجد فلاسفة القانون المقارن يقررون أن المُقارِن بين القوانين يجب أن يفهم الظاهرة الأجنبية ووصفها قبل المضي في صياغة نظام للأشباه والفروق لإنشاء قاعدة التحليلات، وتأتي المقارنة في المرحلة الثانية وحدها لتبدأ العمل بالتحليل وفق أي من منهجي النقل أو الاستزراع، واعتبر القانونيون المقارنون لفترة طويلة أن مشكلتهم المنهجية تكمن في تحصيل المعرفة بالنظام الآخر وفهم طريقته في النظر إلى تطبيق المفاهيم، أو القواعد أو السوابق القضائية وكذلك في الأساس معرفة المصادر ذات الصلة بالمعرفة، وصعوبة فهم النظام القانوني الأجنبي لأن القواعد والنصوص القانونية عميقة الجذور على نحو نموذجي في الخلفية الاقتصادية والسياسية والأخلاقية والثقافية الخاصة التي يمكن غالبًا شرحها بالرجوع إلى المنظور التاريخي فقط [3].
وهنا يمكن فهم فكرة “خصوصية القوانين” والتي تجعله أحيانًا عصي على الفهم أو الترجمة في ظل الخصوصية الثقافية للمجتمعات، ولذلك يصلح النظر للقانون على أنه منهج وليس مجالًا معرفيًا، فمن السذاجة الاعتقاد أن مقارنة القواعد والنصوص بحثًا عن الخصائص المشتركة أو الفارقة يمكن أن تقدم حلولًا وظيفية إلى مشكلات المجتمعات الأخرى، بعيدًا عن تحليل هذه القواعد والأحكام في إطارها الثقافي وفي إطارها التاريخي، لأنه لا يمكن وضع فرضيات عامة على الشعوب والثقافات.
لذلك يعبر فلاسفة القانون عن تلك القواعد إذا كانت أصيلة في مجتمعاتها بـ “التقاليد القانونية” في إشارة إلى تميزها وعدم نمطيتها وارتباطها بالثقافة والهوية، وإذا كانت متشابهة في نظم مختلفة يعبرون عنها بـ “العائلة القانونية” كنايةً عن الملامح المشتركة للقانون وأنها تنحدر من أصول ثقافية واحدة، لا أنها واحدة بالفعل أو متطابقة، إذ يستحيل تطابق النطم القانونية مهما تقاربت نطاقاتها جغرافيًا أو اتحدت في اللغة أو تشابهت في الثقافة، لأن الثقافات نفسها يندر أن تتماثل، ولو تشابهت النصوص القانونية أو تطابقت فإن الممارسة القانونية أو القضائية ستكون فارقة بكل تأكيد.
ولذلك فالتربية القانونية هي فرع عن التربية الاجتماعية، لا شيئًا مستقلًا عنها ولا يمكن أن تكون كذلك، فمصيرها في ترويض المجتمع الفشل دائمًا إذا انفصلت عن التربية الاجتماعية أو كانت بعيدة عنها، لأن الأخيرة هي التي تشكل الملامح الأساسية والمشتركة للأفراد، فـ “المجتمع يصوغ نموذجه” بتعبير مالك بن نبي.
فالذين يقولون بأن المجتمع يعتمد على القانون، مخطئون بلا ريب، فالقانون هو الذي يعتمد على المجتمع، وعليه أن يُعبر عن المصالح والحاجات المشتركة لهذا المجتمع، وليس عن مشيئة فرد أو مجموعة أفراد يَفرضون مصالحهم الخاصة عبر قوانين يُلزمون بها باقي أفراد المجتمع بالقوة، وهذا هو الأساس الذي يستمد منه القانون شرعيته، وهنا تكمن القيمة الحقيقية للشريعة التي تعلو في مصدرها ومبادئها على جميع الأفراد.
فالعقول التي مُنحت للبشرية لتقودها لمعرفة ربها وللاهتداء إلى سبُل السعادة التي خطها لها، أصبحت وبالًا عليها حين حادت عن فطرتها الوظيفية، حين جحدت فضل الله عليها، وأنكرت حكمته، وبطرت حُسن تقديره، وأساءت الظن بتدبيره، فاستعاضت بقوانينه الكاملة قوانينها القاصرة، واستبدلت بشريعته المُحكمة شرائعها المُنحلة، فسبحت بعجرفتها ضد تيار الفطرة السوية وهي تحسب أنها تُحسن صنعًا، ومضت بغرورها في دروب الانسياق لبرك الانحراف الآسِن، فبدلت نعمة الله كُفرًا وأحلت بأقوامها دار البوار، وتركها الله عز وجل لزيغها حتى تعلم مآل انقلاب العقول على بارئها، وعاقبة انتكاس فطرتها، لا من جهة العاقبة الدينية أو الأخروية فحسب، بل من جهة العاقبة المادية والمَغَبَّة الدنيوية في المقام الأول، فماذا جنت البشرية من القوانين الوضعية؟!
لقد أثبت الواقع بما لا يدع مجالًا للشك أن تطبيق القوانين الوضعية كان ولا زال هو أهم أسباب انتشار الجريمة وازدياد معدلاتها وتنوعها على نحو لم يكن في أسلافنا، وأن تلك القوانين لم تؤد دورها في الوفاء بمتطلبات المُتقاضين، وحل خصوماتهم، وفض نزاعاتهم، فلا هي زجرًا حققت، ولا هي قضايا أنجزت، ولا هي حقوقًا لأصحابها سلمت، بل أدت الثغرات التي تملأ عباءتها إلى اللدد في الخصومات، والمماطلة في الإجراءات، وكثرة الاستئنافات، والامتناع عن أداء الحقوق والواجبات، وزيادة البغي والعدوان، وشيوع الفقر والبُؤْس والحِرمان، وإثارة الفوضى والهمجية، وبث روح الانتقام والثأر لدى المتخاصمين.
إن صلاحية أي تشريع تُقرر على أساس صلاحية قيمه ومبادئه وتجانسها مع الواقع، فالسياسة التشريعية الرشيدة يتعين أن تعتمد على عناصر متجانسة مع البيئة التي تضبطها، فإن قامت علي عناصر متنافرة معها افتقدت الصلة بين النصوص ومراميها بحيث لا تكون مؤدية إلى تحقيق الغاية المقصودة منها، باعتبار أن أي تنظيم تشريعي ليس مقصودًا لذاته، وإنما هو مجرد وسيلة لتحقيق أهدافه المتعلقة بضبط الحياة وإسعاد الناس، وفي هذا الإطار تبرز محاسن الشريعة التي هي من وضع الخالق عز وجل الذي هو أعلم بأحوال عباده، وأدرى بما فيه صلاحهم وما إليه عاقبة أمرهم، والتي تفردت عن التقنينات الوضعية بسمات وخصائص تجعلها أجدر بالاتباع وأولى بالتطبيق، إذ لا تتحكم في سنها الآراء، ولا تعبث في وجهتها الأهواء، فلا يوجد فيها أية مبدأ معيب، أو حكم غير مُصيب.
إن أهم إفرازات الواقع ودلالاته عدم صلاحية العقل البشري لِئن يكون مصدرًا للتشريع، فالتاريخ يُثبت لنا يومًا بعد يوم أن بِنْيَة العقل ضعيفة وَهْنَة يسهُل غشها وخِداعها والاحتيال عليها، إذ يُمكن تزويد جمع من العقول بمعلومات خاطئة معيبة، أو إغوائها بضلالات فاسدة مُنحرفة، فتقع في الخطأ الفاحش بكل سهولة، وتنقاد للضلال البين بلا أدنى مُبالاة !
بل أثبت الواقع أن العقول مع اجتماعها قد تكون غير قادرة على البحث في الأدوات والأساليب والصفات وظواهر الحوادث وهيئات الناس ومظاهرهم، وعلى مقدار ما أَبْدته هذه العقول من براعة في التعامل مع كم الأحداث، فقد أَبْدت في المقابل عجزًا غير محدود في التعامل مع كيفها، وعلى قدر ما كان يُفترض أن تقوم به إذا تعاضدت مع بعضها من تفكير منطقي رشيد، فقد انزلقت في مهاو وحفر التفكير العاطفي الانفعالي والخيالي الوهمي بلا أدنى حكمة أو بصيرة.
سألتُ يومًا د. طارق البشري حول التناقص بين القانونيين في موقفهم من الشريعة الإسلامية بين معظم شديد التعظيم لها في التنظير [4] وبين مهمل جاف محيد لها تمامًا في كل أثر قانوني، رغم وحدة التأسيس القانوني لهم ووحدة الشريعة، فأجاب: “إن القانوني الذي يدرس الفقه الإسلامي؛ لا بُد أن يخضع له”، فالذي يدرس الشريعة لا يجد بدًا من تعظيمها، واستصغار كل ما دونها من القوانين، إذ تجيبه على كل الأسئلة والألغاز التي تخلفها دراسة القانون الوضعي، وبها يملأ كل الفراغات والثغرات الاجتماعية التي لم تستطع القوانين الوفاء بها.
إن مشكلة القوانين الوضعية ليست درجة تحضُّرها ورُقيها، فمهما تفاوتت في ذلك، ومهما ارتقت، فمصدرها النهائي هو العقل البشري الذي يحول قصوره دون الوصول إلى غاية الكمال التشريعي لاستحالة خلوه من الهوى، لذلك فالعقل في الشريعج مصدر تابع لا مصدر أصيل.
وليس أدل على ذلك من تعارض القوانين وتناقضها، فالذين يُقدسون القانون ويُدافعون عنه، لا يُقدسون شيئًا واحدًا ولا يدافعون عن شيءٍ واحدٍ، إنما هو متعدد في كلياته فضلًا عن جزئياته، بل متناقض في كلياته فضلًا عن جزئياته، فأي قانون يدعون الشعوب لاحترامه وتقديسه؟! القانون الذي يُجيز زواج الشواذ أم القانون الذي يمنعه؟! القانون الذي يُبيح الطلاق بين الزوجين أم القانون الذي يُقيده أم القانون الذي يمنعه؟! القانون الذي يُبيح التبني أم القانون الذي يُقيده أم القانون الذي يمنعه؟! القانون الذي يُطلق يد المورث في اختيار من يرثه ولو كان كلبًا أم القانون الذي يُقيد سلطته ويُحددها؟! القانون الذي يأخذ بعقوبة الإعدام أم القانون الذي يُقيد صورها وطرقها أم القانون الذي يمنع مطلقًا الأخذ بها؟! القانون الذي يُجيز شرب الخمر أم القانون الذي يُقيده أم القانون الذي يمنعه؟! القانون الذي يصل بالضرائب والرسوم إلى الثلث أم الربع أم العشر؟! الذي يقر بمنح الخاضعين له فوائد على أموالهم وودائعهم مقابل حفظها لهم أم الذي يقتطع منها نظير حفظها؟!
وهكذا عشرات ومئات الأمثلة المتعارضة والمتناقضة من القوانين، وكلها يُؤسس لها واضعوها تارةً بالعقل وتارةً بالتجربة، إننا لسنا إزاء قانون واحد يُمكن أن يُحترم أو يُدافع عنه، بل أمام عشرات ومئات القوانين المختلفة باختلاف النُظم، بل لا يكاد يوجد جُرم واحد تتفق كل الأنظمة على عقوبة مشتركة له فضلًا عن تجريمه، وهذا في حد ذاته ينقض فكرة القانون وضرورته.
أما الشريعة فهي ليست سوى موضوع واحد، يحمي مصالح واحدة متعلقة بالاجتماع البشري في حد ذاته، هذا الاجتماع الذي لا يُمكن أن يصلح إلا بتعاون وتمانع من خلال حدود فاصلة وأحكام جازمة، فهي أي الشريعة وإن اختلفت المدارس الفقهية حول كثير من جزئياتها، لكنها لا تحتلف أبدًا حول كلياتها، لأن وحدة الكليات تضمن قيمة الثبات، والاختلاف في الجزئيات يضمن قيمة المرونة، والجمع بينهما جد عسير، وهنا تكمن صعوبة فكرة التقنين الشرعي عند الرافضين لها حتى قال البعض باستحالتها.
إن الشريعة ليست تاريخ حضارة بادت أو تراث أقوام ماضين، بل هي نظام صالح للحياة وللتطبيق في كل مكان وفي كل زمان، لقد قامت فلسفة القانون الحديث على أساس انفصال القاعدة القانونية عن الدين، وظللنا في بلادنا نلتزم هذا المبدأ أكثر من قرن من الزمان، ظللنا نفصل بين إصلاح القانون وبين الدين والأخلاق، فما أحوجنا الآن إلى وقفة نستعرض فيها نتائج ذلك وحصيلته إزاء هذا الكم الهائل من مشكلات التشريع ومشكلات القضاء ومشكلات المجتمع كله، لقد طغى في بلادنا الاستعمار السياسي والعسكري فجاءنا معه الاستعمار الثقافي والفكري والتشريعي، ولما رحل الاستعمار العسكري والسياسي لم يرحل الاستعمار الثقافي والفكري والتشريعي، لقد عاش هذا النوع من الاستعمار في داخلنا، وما زلنا نقيس الأمور – أو الكثير منها – بمقياس الدولة الأوروبية والأمريكية، كلما كانت الفكرة من هناك فإننا نقف عندها، وكلما كان الحل التشريعي من هناك فإننا نميل إلى تقريره واحترامه، والصحيح ألا نتخذ الأنظمة الأوروبية والأمريكية الحديثة أو المعاصرة مقياسًا نقيس عليه أنظمة الشريعة، هذه الأنظمة الحديثة المذكورة ليست حتمًا صالحة، إن صلاحيتها وجدواها محل نظر أو هي محل شك هناك، وكثيرًا ما تختلف هناك النظريات اختلافًا جذريًا، ومن باب أولى فإن صلاحيتها وجدواها وملاءمتها لنا هي محل شك عندنا، إن أنظمة الإسلام تتوافر بذاتها على أسباب الصلاحية ومقومات الجدوى والملائمة، إن شريعة الإسلام لا تقاس على غيرها، بل غيرها يقاس عليها، فهي نظام مستقل قائم بذاته متكامل شامل [5].
فمن القضايا العقلية أن نوع الإنسان يحتاج إلى اجتماع على نظام وصلاح، وأن ذلك الاجتماع لن يتحقق إلا بتعاون وتمانع؛ تعاون لتحصيل ما ليس للفرد مما يحتاج إليه، وتمانع لحفظ ما له من نفسه وماله [6]، من خلال حدود وأحكام موافقة لحدود الله وأحكامه، وليس لكل من دب ودرج أن يُغير في حدود الله وأحكامه، ولا أن يضع من عند نفسه حدودًا وأحكامًا، فلزم العقل ضرورةً أن يكون بين الناس شرع، يفرضه شارع، يُتلقى من الله وحيًا وينزله على عباده تنزيلًا [7].
والذي يفرضه علينا واجب الوقت هو تعريف المسلمين ببعض وجوه إعجاز شريعتهم، وتبين علو كعبها على باقي الشرائع، بل على أرقى تلك التقنينات، لأن ما لا يُدرك كله لا يُترك كله، وهذا الكتاب ما هو إلا مساهمة في تعريف المسلمين ببعض وجوه تميز النظام القانوني الإسلامي مقارنةً بالنظم القانونية الوضعية في القديم والحديث، وهو لا يعني ببيان الأحكام الفقهية بقدر ما يعني ببيان فلسفة التشريع الإسلامي وحكمته، ولا يهتم بالتفصيل في الاختلاف بين الإسلامي والغربي إلا بالقدر الذي يُظهر ذاتية كل منهما، لن أحاول أن أصطنع التقريب على أسس موهومة ولا إظهار المفارقة بتوصيفات خاطئة، فمن وجوب معرفة القبائح والمحاسن؛ وجوب معرفة مكامن قُبحها ووجوه حُسنها، على ألا يظن أنني قد فرغت وسعي في هذا العمل، فالكلام في فلسفة الشريعة في كل جزئية من جزئيات الكتاب يطول، لكني عمدت إلى الاختصار وبيان ما يلزم فيها بما اعتقدتُ أنه يكفي لتحقيق رسالة الكتاب ووصولها للقارئ.
محمد وفيق زين العابدين
—-
[1] على سبيل المثال يقول بنتام: يجب أن تكون وظيفة القوانين هي تحقيق أعظم قدر من السعادة لدى أكبر عدد من الناس.
دياس: فلسفة القانون، ترجمة هنري رياض، دار الجيل (بيروت)، الطبعة الأولى 1406هـ / 1886م، ص 90.
[2] وإذا أردنا أن نعبّر عن العوامل التي يخضع الإنسان لها في حركته تعبيرًا بسيطًا قلنا إنها ثلاثة أنواع: أولها وأشدها تأثيرًا عامل الأجداد، والثاني تأثير الوالدين، والثالث تأثير البيئة، وقد ظن بعضهم أن هذا الأخير هو أشدها فعلًا وهو في الحقيقة أضعفها، لأن البيئة وما يندرج تحتها من المؤثرات المادية والمعنوية التي تعمل في الإنسان مُدة حياته وعلى الأخص في زمن التربية لا تُؤثر فيه إلا أثرًا ضعيفًا، وإنما يعظُم أثرها إذا توالى بالتناسل زمنًا طويلًا، وعلى ذلك فالرجل ابن أمته دائمًا مهما كان عمله، ومجموع الأفكار والمشاعر التي يأتي بها أفراد كل أمة يوم يولدون هي روح تلك الأمة، وهي خفية في ماهيتها، لكنها ظاهرة ظهورًا كليًا في آثارها، لأنها هي الحاكمة في الحقيقة على تطور الأُمة.
غوستاف لوبون: سر تطور الأُمم، ترجمة أحمد فتحي زغلول، تحقيق أسعد السحمراني، عدنان حسين، دار النفائس (بيروت)، الطبعة الأولى 1407هـ، ص 20: 21.
[3] نيلز جانسن: القانون المقارن والمعرفة القانونية، ضمن: كتاب أكسفورد للقانون المقارن، تحرير: ماثياس ريمان، رينهارد زيمرمان، ترجمة: د. محمد سراج، الشبكة العربية للأبحاث (بيروت)، الطبعة الأولى ٢٠١٠م، ص ٤٧١.
[4] بالطبع واقع التطبيق مختلف تمامًا، ذكرتُ أسباب ذلك في كتاب:
الشريعة والتحديث: مباحث وحقائق تاريخية واجتماعية في قضية تطبيق الشريعة وتقنينها، مركز أركان للدراسات والأبحاث والنشر (القاهرة)، الطبعة الأولى، ٢٠٢١م.
[5] عثمان حسين عبد الله: تطبيق الشريعة الإسلامية، مجلة القضاة، نادي القضاة (القاهرة)، عدد خاص بمؤتمر العدالة الأول، إبريل 1986م، ص 40: 43.
[6] أبو حامد محمد بن محمد الغزالي: معارج القدس في مدراج معرفة النفس، دار الآفاق الجديدة (بيروت)، الطبعة الثانية 1975م، ص ١٣٣.
[7] محمد بن عبد الكريم المعروف بأبي الفتح الشهرستاني: نهاية الإقدام في علم الكلام، تحقيق: الفرد جيوم، ص 426.