وقت القراءة 21 دقيقة واحدة
247 عدد المشاهدات

آخر تحديث: ١٥ أغسطس ٢٠٢٢م

كان من العوامل الرئيسية التي ساهمت في الانتقاص من الولاية العامة للمحاكم الشرعية، ظهور ما يُعرف بالامتيازات الأجنبية، والتي نشأت في بداية الأمر كنوع من أنواع الاتفاقات التجارية، ولعل من أشهرها: الامتياز الممنوح من السلطان سليمان القانوني لفرنسا عام 1535م لسكان الثغور التجارية [1]، وكانت الدولة العثمانية في هذا الوقت في أوج قوتها وعظمتها.

وأصابت دول أوروبا الأُخرى امتيازات من طراز اتفاق فرنسا مع الدولة العثمانية، وكانت حكومات الدول الأجنبية على علم بقيمة هذه الامتيازات وأهميتها، لذا فقد حرصت على تجديدها تباعًا كلما مضى خليفة وأتى خليفة.

حتى إذا دب الضعف في الدولة العثمانية وكان عام 1740م مُنحت فرنسا امتيازًا أكثر سخاءً وعطاءً، حيث شمل ثلاثة جوانب: الأول خاص بالشئون التجارية، والثاني يتعلق بحقوق الإقامة وحماية الفرنسيين وتوفير الحرية الشخصية لهم، والثالث ­ وهو الأخطر ­ يتعلق بالقضاء والسماح للفرنسيين وللأجانب بصفة عامة بعرض منازعاتهم مع بعضهم على قناصل فرنسا في الدولة العثمانية، وبقي اختصاص المجالس والمحاكم العثمانية قاصرًا بشأن الأجانب فيما يثار من منازعات بينهم وبين العثمانيين، غير أن الحكومات الأجنبية اشترطت فيما بعد ألا تسمع الدعاوى أمام المحاكم العثمانية إلا في حضور مندوب القنصل التابع لها الذي كان يُعرف بالترجمان.

وكان أخطر ما في هذا الامتياز أنه كان مثبتًا للحقوق الممنوحة للفرنسيين بشكل نهائي دون حاجة لتجديد، وكانت الامتيازات السابقة تنتهي بوفاة الحاكم الذي منحها، إلا أن يجددها من يخلفه.

ولم تلبث الدول الأُخرى أن انتفعت بأحكام الامتياز الممنوح لفرنسا بموجب مبدأ الدولة الأفضل معاملة الذي كان الأوربيون يخدعون به سلاطين آل عثمان وولاتهم على الأمصار الذين افتُتن بعضهم بالأوربيين فأكثروا من الامتيازات الأجنبية في عموم الدولة، وازداد الأمر سوءًا في عهد السلطان عبد العزيز الأول (١٨٣٠: ١٨٧٦م) الذي قوّى الروح الأجنبية في الدولة وأثقلها بالديون الخارجية.

والحق أن العثمانيين كان لهم أيضًا امتيازات في بلاد الغرب بموجب مبدأ المعاملة بالمثل، غير أن الأمر سُرعان ما تحول في بلاد الغرب واتجهت نُظم الحكم هناك إلى الأخذ بسيادة القانون وامتداد سلطانه إلى جميع القاطنين في البلد الواحد دون أية تفرقة، ولم تعدو الامتيازات سوى أن تكون مجرد نوع من أنواع الاتفاقات التجارية التبادلية، ورغم هذا فلم يتغير الأمر في الدولة العثمانية، بل امتد سلطان القناصل الأجانب فيها على حساب سيادة سلاطين وولاة ذلك العهد، الذين لم يتبرموا ولم يشعروا بغضاضة في شأن تعدد النُظم الإدارية والقانونية وتعدد الجهات السيادية بقدر تعدد أجناس الأجانب في دولتهم، أو يرون في هذا مغمزًا في عزتهم أو انتقاصًا من سلطانهم وهيبتهم، والواقع يُظاهرهم.

فالأقليات والتعددية في حد ذاتها لم تكن مصدرًا للأزمة في الحقيقة، بل إدارة هذه التعددية من الداخل وتوظيفها من الخارج هو ما أحدث الأزمة.

وازداد الأمر سوءًا بمجيء أسرة محمد علي للسُّلطة، فقد بدأ الأجانب في ظل الأمان الذي وفرته الدولة العثمانية لهم في التوافد بكثرة على الأقطار الإسلامية، لاسيما المصرية والشامية، فاستقروا في كل مكان واختلطوا بالأهالي اختلاطًا شديدًا ودخلوا معهم في شتى المعاملات، ومع اقتران ذلك بفساد الحكام والولاة، ولجوئهم للاقتراض من الحكومات الأجنبية، زادت امتيازاتها، ولم تعد مجرد نظام سياسي يُمكن تحمل ضرره، بل اتخذها الأجانب موئلًا يعتصمون به كلما زُيِّن لهم أن يرموا السلطات العثمانية بالعبث أو الاستبداد.

واتخذت الحكومات الأجنبية الامتيازات الممنوحة لها ذريعة للتدخل في شئون الدولة الداخلية، وكان جديرًا بما غشي سلاطين الدولة العثمانية وولاتها من الضعف والغفلة التي شغلتهم عن توغل الأجانب أن يُغري ذلك ممثلي الدول صاحبة الامتيازات بالتوسع فيها، وبالضغط على العثمانيين لنيل ما لم يكن لينالوه بالحق، وليتبوءوا المناصب العزيزة في الدولة، وقد عمدوا في سبيل ذلك إلى تأويل الاتفاقات المكتوبة بطريقة فاسدة وبتعسف ظاهر.

وكان القضاء هو المجال الخصب لهذا التأويل الفاسد، وذلك على المستويين الجزائي والمدني، فقد انتقل الأمر من مجرد إعفاء الأجانب من الضرائب والرسوم، والسماح لهم بعرض منازعاتهم مع بعضهم على قناصلهم، إلى حظر دخول بيوتهم وتفتيشها بمناسبة وقوع جرائم منهم أو في بيوتهم إلا بمعرفة القناصل التابعين لهم، وأن يكون الفصل في الدعاوى المدنية بين الأجانب المختلفي الجنسية من اختصاص القنصليات الأجنبية فحسب، ثم جعل الاختصاص بالفصل في الأقضية الجزائية بين الأجانب المختلفي الجنسية على هذه الشاكلة أيضًا، ثم جعل حضور مندوب القنصل المعروف بـ “الترجمان” واجبًا في كل أدوار التحقيق في هذه الأقضية بين الأجانب والعثمانيين، بل اشترط توقيعه على كافة القرارات والأحكام وإلا اعتبرتها القنصليات باطلة وامتنعت عن تنفيذها على رعاياها، وكذا فقد أوَّل السفراء والقناصل ما نصت عليه الامتيازات من حرمة مسكن الأجنبي وشخصه؛ على نحو امتنعوا معه من تنفيذ الأحكام المدنية الصادرة من المجالس والمحاكم العثمانية قِبل رعاياهم، أو اشترطوا أن تكون تلك الأحكام موافقة لأحكام بلادهم كما اشترط الروس، أو ألا تكون مخالفة لأحكام بلادهم كما اشترط الفرنسيون، أو أن يتولوا بأنفسهم تطبيق القانون العثماني كما اشترط الألمان والإيطاليون، غير أن هذه الاشتراطات لم تتجاوز الأحكام المدنية، فقد ظل سفراء وقناصل الدول الأجنبية دائمًا يُنفذون ما تصدره المجالس والمحاكم العثمانية من الأحكام الجنائية على الأجانب فيما يرتكبونه من جرائم ضد غيرهم.

وفي عام 1850م صدر قانون التجارة العثماني الذي كان مستمدًا من القانون التجاري الفرنسي الصادر عام 1807م، وكان هو القانون الواجب التطبيق في الديار المصرية، وقد نصت المادة (40) منه على أنه إذا لم يوجد نص فيه بخصوص المسألة المعروضة وجب تطبيق القانون الفرنسي.

ثم صدر قانون الجزاء (العقوبات) العثماني عام 1858م الذي كان مستمدًا أيضًا من القانون الفرنسي [2]، فقانون الأراضي الأميرية في ذات العام، ثم قانون التجارة البحرية عام 1861م، وقانون أصول المحاكمات التجارية عام 1864م.

ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل إن ديوان الحقانية الذي أُنشئ عام ١٨٦٣م وأُحيلت إليه إدارة أعمال المجالس القضائية المختلفة، فصار هو الذي ينظر قي حاجاتها ويقضي في المسائل الإدارية المتعلقة بها، فكان بمثابة وزارة العدل في الدولة المصرية، منح سلطة سن اللوائح والقوانين للمجالس، وإصدار التعليمات الدورية لها وصدرت فيما بعد مجموعةً باسم (تعليمات الحقانية) واشتملت على قواعد الاختصاص وأصول المحاكمات كإيجاب المرافعة الشفهية ونحو ذلك؛ كانت هذه التعليمات تستقى جميعها من القوانين والنظم الفرنسية [3]، وكان جهل موظفي الدواوين والمجالس بما يطبقونه من تلك القوانين والنظم ظاهرًا معروفًا [4].

ونتيجة ضعف الخلافة الإسلامية وتزايد الامتيازات الأجنبية في الدولة العثمانية بصفة عامة وفي مصر بصفة خاصة، فقد قويت سُلطة سفراء وقناصل الحكومات الأجنبية حتى حالت دون محاكمة رعاياها أمام المحاكم المصرية، ومع تزايد الافتئات على سيادة العثمانيين وسُلطانهم، ضاقوا بالأمر ذرعًا وسعوا جاهدين للتخلص من الامتيازات الأجنبية فعرض ممثلو الدولة العثمانية في مؤتمر باريس المنعقد عام 1856م على الدول الأجنبية إلغاء الامتيازات، بيد أن طلبهم قوبل بالرفض، لاسيَّما وأن العثمانيين لم يقدموا العربون الكاف والمناسب من وجهة نظر الأوربيين لإلغاء الامتيازات.

وإزاء هذا الرفض؛ حاولت السُّلطات العثمانية تقنين العُرف الفوضوي السائد في الدولة، فحرصت على جمع ما تم سنُّه من إجراءات بشأن محاكمة الأجانب في لائحة عُرفت باللائحة السعيدية أو لائحة البوليس السعيدية، والتي صدرت في الخامس عشر من أغسطس عام 1857م، فصار الأجانب بموجبها رسميًا يحاكمون أمام القناصل التابعين لهم.

لكن التوجهات التشريعية والقضائية في عهد الخديوي إسماعيل (1830: 1895م) [5] الذي تولى حكم مصر والأقطار التابعة لها مُنذ يناير 1863م حتى يونيو 1879م؛ أخذت منعطفات في غاية الخطورة، والسبب في ذلك أن إسماعيل سار على نهج جده محمد علي باشا في الإصلاح على الطريقة الأوروبية، ولم يكن لديه من الإمكانيات المادية ولا الفكرية ما كان لجده، لا على المستوى الشخصي ولا على المستوى المجتمعي أو الوطني، فأدى هذا إلى تورطه في الامتيازات الأجنبية بعنف، فاستفحل أمرها في مصر في عهده أكثر مما كان عليه الوضع سابقًا، وأسوأ مما كان في باقي الخلافة العثمانية، وذلك للأسباب الآتية:

أولًا: تلقي إسماعيل تعليمه في باريس وتأثره وانبهاره بالتقدم الأوروبي وبالنظام المؤسسي في فرنسا، لاسيَّما في مجال التعليم.

ثانيًا: استعانته بوزراء ومعاونين أجانب في إدارة حُكم البلاد، وأخطرهم على الإطلاق وزير خارجيته نوبار باشا الأرمني الأصل، ذلك أن محمد علي وبنيه كانوا مفتونين بالأوربيين فحرصوا على استيفادهم وتشجيعهم على الإقامة بمصر بتمييزهم عن الأهالي وتيسير سبل الإقامة لهم في سبيل الاستفادة من خبراتهم.

ثالثًا: لم يكن للحكومة النائبة عن الدولة العثمانية في مصر ما للحكومة المركزية في الأستانة من الشوكة وعزة الجانب.

رابعًا: السير في إصلاح الإمبراطورية العثمانية على النهج الغربي، وقد التقى إسماعيل في باريس مع السلطان العثماني عبد العزيز الأول (١٨٣٠: ١٨٧٦م) [6] عام 1867م حينما لبَّيا معًا دعوة الإمبراطور نابليون الثالث لحضور المعرض الفرنسي العام، وتباحثا هناك سبل إصلاح الإمبراطورية العثمانية على النهج الغربي.

وأدى ذلك مع الوقت إلى استدانة إسماعيل من المصارف الأجنبية مبالغ مالية ضخمة في أعقاب الأزمة الاقتصادية التي أصابت مصر، نتيجة التوسع في إصلاح البنية التحتية وتطويرها مما اضطره للاستدانة، مما أدى إلى بسط نفوذ الدائنين وسيطرتهم على الاقتصاد المصري، ثم سيطرة الدول الدائنة على الحكومة المصرية.

وانعكس كل هذا الوضع السيء بالطبع على مجال القضاء، حيث كانت آثار الامتيازات في مصر فيما يخص هذا المجال أبلغ مما كانت عليه في الأستانة، فقد كان القناصل يرفضون تنفيذ الأحكام المدنية الصادرة من المحاكم العثمانية لصالح المصريين قِبل الأجانب، إلا أن تُنظر الدعوى من جديد أمامهم، ولم يمنعهم من انعدام ولايتهم في المسائل العقارية من تنظيم العقود الخاصة بها والقضاء في المنازعات التي تثور بشأنها، بل من إنشاء مكاتب رهون عقارية وفق قوانين بلادهم، بحيث كان النظام العقاري في مصر تتنازعه التشريعات الأجنبية المختلفة، ولم يكن الأمر في النظام الجزائي يختلف كثيرًا عما كان عليه في النظام العقاري، فقد عمد القناصل إلى الاستئثار بالنظر فيما يرتكبه الأجانب التابعون لهم من الجرائم ولو ارتكبت ضد غيرهم من الأجانب أو المصريين [7]، ولم يختلف الأمر في سوريا ولبنان وغيرهما من البلاد العربية كثيرًا عن مصر.

وكان هذا التوسع والافتئات على سيادة المسلمين وسُلطانهم داخل بلدهم يوفر للقناصل والجاليات الأجنبية نفوذًا كبيرًا جعلهم يعضون على ما في أيديهم بالنواجذ، ويحرصون على دوام هذه الحال، فناضلوا دونها، ورفضوا التنازل عن شيء منها، ونتيجة ذلك ولتعدد المحاكم القنصلية تعددت القوانين المُطبقة وتعارضت الأحكام، فشاعت الفوضى التي لم تغن فيها شكوى، وحسبنا في وصف هذه الفوضى ما ذكره تقرير اللجنة التي شكلتها الحكومة الفرنسية نفسها عام 1867م بشأن النظام القضائي في مصر، حيث جاء فيه: (إن الجهات التي تلي القضاء بالنسبة للأوربيين في مصر والتي تحدد علاقتهم بالحكومة وبسكان القطر لا أساس لها من الامتيازات، فلم يبق من الامتيازات إلا الاسم، وقد حل محلها أوضاع عرفية لا ضابط لها يكيفها ممثلو الدول الأجنبية كلٌ بحسب طبعه، وتستمد من سوابق تعسفية أحدثتها الضرورات والضغط من ناحية، والتسامح والرغبة في تسهيل الإقامة على الأجانب من ناحية أخرى).

فإذا أضفنا إلى ذلك، أن الحكومة المصرية من عهد محمد علي وما بعده إلى زمن سعيد لم يكن لها دخل في القضاء، بل وصل الحال بالقضاء في القُطر المصري [8] مُدة من الزمن أن يُباع بالمزاد العلني كالسلع فيما يُشبه “نظام الالتزام” كما كانت تعطى أموال الخراج، فمن يرسو عليه المزاد يكون قاضيًا في الجهة التي اشترى فيها الالتزام، فيبيعه فيها كما شاء كلًّا أو بعضًا، ويُبقي لنفسه ما شاء كلًّا أو بعضًا، فلا نظام فيه ولا تعيين من جهة ولي الأمر، بل يدور تخصيصه حسب الأهواء، فإذا اشترى شخص قضاء جهات متعددة، أصبح هو بمقتضى ذلك صاحب الحق في جميعها، وحل محل ولي الأمر، فتصرف في قضاء تلك الجهات كيف شاء، شأنها شأن المنافع التي تُباع مدة من الزمن، كما نقل الشيخ علي أحمد الجرجاوي (ت 1961م) عن الشيخ محمد بخيت المطيعي (1856: 1935م) القاضي بمحكمة مصر الشرعية العليا والمفتش بوزارة الحقانية (العدل) ومُفتي الديار المصرية السابق [9].

فعمت الفوضى الممقوتة من بيع ما لا يجوز شرعًا، وكان أكثر ما وقع فيه المطامع هو الأوقاف والمواريث، واستمر الحال على هذا المنوال حتى أوائل زمن سعيد، حيث ضمت الحكومة المصرية لنفسها جميع المحاكم بالقطر المصري عام 1880م بموجب لائحة متوَّجة بأمر عالي، تتضمن نظامًا للقضاء يُقسم المحاكم ويُعين دوائرها [10].

والحق أن إسماعيل كانت لديه رغبة قوية في إصلاح الوضع الفوضوي في التنظيم القضائي في المملكة المصرية، لكن عصبيته ضد العثمانيين ورغبته في الاستقلال عنهم حال دون ذلك، من ذلك رفضه استجلاب (مجلة الأحكام العدلية) رغم ما لاقته من نجاح وقتها في الأقطار العثمانية!

وازداد الأمر سوءًا، حيث أصدر عام 1871م الأمر العالي بإنشاء مجالس قضائية محلية في المراكز والبلاد الصغيرة، بعد أن كانت متركزة في المحافظات والمدن الكبرى، وشملت خمسة أنواع: مجلس الدعاوى، المجالس المركزية، المجالس الابتدائية، المجالس الاستئنافية، مجلس الأحكام.

ولكل من هذه المجالس اختصاصها بحسب نوع الجزاء في المواد الجنائية، وبحسب قيمة الدعوى في المواد المدنية، وكانت تحكم وفقًا لما يظهر لها دون التقيد بأي قانون أو عُرف حتى أُطلق عليها (محاكم قانون همايوني) [11]، كما أن حالة قُضاة تلك المجالس من العلم ومن اللغة ومن الكتابة كانت من أضعف ما يكون.

كما أن العقوبات التي كانت توقعها هذه المجالس كانت تتفاوت وفق قدرة الجاني المالية وبحسب منزلته ما إذا كان رفيعًا أو وضيعًا؛ فإذا ما وقعت الجريمة على المال وكانت لا تستوجب إلا التعزير فقط: يُنظر إلى حال الجاني وشأنه [12]!

وقد دفع الهَرْج الشديد في محاكمة الأجانب ­ الذين تعددت جهات محاكماتهم بحسب تنوع قناصلهم، واختلفت أحكامهم واضطربت اضطرابًا شديدًا رغم تقارب ظروف منازعاتهم وجرائمهم ­ للتفكير جديًا في إخضاع الأجانب للنظام القضائي المصري بدلًا من خضوعهم لقوانين بلدانهم، وظهرت هذه الرغبة أيضًا عند إسماعيل، لكن لم يكن لديه الإرادة الحازمة لإمضائها وتحويلها لواقع ملموس، وقد حال بينه وبينها نوبار باشا وزير خارجيته ­ الأرمني الأصل ­ الذي استطاع إقناعه بأنه لا سبيل له إلى ذلك، إلا أن يُنشئ المحاكم المختلطة، ورفع له في عام 1867م تقريرًا يعرض فيه إصلاح الوضع الفوضوي القائم بإنشاء محاكم مصرية مختلطة لمحاكمة الأجانب بصفة خاصة، على أن تُؤلف من قُضاة أجانب ومصريين، تمتد ولايتهم لجميع المسائل المدنية والتجارية والجزائية، باستثناء المسائل المتعلقة بالعقارات تظل خاضعة للمحاكم الشرعية، وأوصى بإصدار قوانين تقوم المحاكم الجديدة بتطبيقها.

فالمحاكم المختلطة إذًا كانت أثرًا من آثار الامتيازات الأجنبية، وفي نفس الوقت وسيلة لتقويضها، أثرٌ من جهة وراثتها نظام المجالس القنصلية، ووسيلة من جهة حلولها كمؤسسة وطنية محل هذه المجالس، ومنه يُعلم عدم دقة أكثر القانونيين العرب الذين عدوها أثر من آثار الامتيازات فحسب، وكذلك المؤرخين الغربيين والعرب الذين عدوها وسيلة لتقييد هذه الامتيازات مثل: ناثان براون وعِزة حسين وخالد فهمي وغيرهم.

وقد أثار هذا التقرير خلافات شديدة، من جهة بين رجال الحكومة، لكن ضيقهم بنظام الامتيازات حملهم على الموافقة على اقتراح نوبار باشا، ومن جهة أخرى بين الدول صاحبة الامتيازات، لكن في النهاية وافق جميع الأطراف على الفكرة، بعد مفاوضات دامت سنتين قضاها نوبار باشا في التنقل بين الدول صاحبة الامتيازات، وفي النهاية استطاع الحصول على موافقة على تشكيل لجنة استشارية من ممثلي بعض تلك الدول [13]، عقدت اجتماعاتها في القاهرة عام 1869م بمناسبة احتفال افتتاح قناة السويس، وانتهت إلى الموافقة على تأسيس المحاكم المختلطة بشرط سن قوانين خاصة مستقاة من القوانين الفرنسية تطبقها هذه المحاكم، وأن يكون قضاتها خليط من المصريين والفرنسيين والألمان والإنجليز.

ورغم أن توصيات اللجنة المُشَكَّلة لم تكن مُلزمة لحكومات الدول التي مثلت فيها، إلا أنها كانت لها أبلغ الأثر بعد ذلك في موافقة الحكومات على إنشاء المحاكم المختلطة، وكانت الحكومة الفرنسية هي أكثر الحكومات اعتراضًا على إنشاء هذه المحاكم، حتى أنها لم تبد موافقتها صراحةً إلا في عام 1876م بعد إنشاء المحاكم المختلطة بالفعل في نهاية العام السابق عليه، وذلك بالطبع لأنها كانت أكثر الدول استفادةً من نظام الامتيازات الأجنبية، والعجيب أنها لم تعلن موافقتها إلا بعد أن حصلت على تعديل لائحة ترتيب المحاكم المختلطة بعد صدورها في أكثر من موضع.

ورغم التنازلات التي قدمتها الحكومة المصرية، فإن حكومات الدول صاحبة الامتيازات اشترطت عدم المساس بالمعاهدات المكتوبة في شأن الامتيازات، بل وما أُضيف إليها بالعُرف، بالرغم من عدم وجود جدوى لها بإنشاء المحاكم المختلطة، ولعل خوف هذه الحكومات من عدم نجاح تجربة المحاكم المختلطة هو الذي دفعهم للتمسك بالمعاهدات المكتوبة، واشتراط أن يكون إنشاء المحاكم المختلطة لمدة خمس سنوات قابلة للتجديد، والاحتفاظ بحقها في الرجوع عنها وتعديلها بحسب ما توحي به التجربة، حتى نصت المادة (40) من لائحة ترتيب المحاكم المختلطة على أنه: (لا يسوغ تغيير أدنى شيء في هذا النظام المتفق عليه في أثناء مُدة الخمس سنوات، وبعد انتهاء هذه المُدة، إذا اتضح من العمل عدم الحصول على الفائدة المقصودة من تشكيل المحاكم فللدول الخيار: إما أن ترجع لما كان جاريًا من قبل، أو تتفق مع الحكومة المصرية على طريقة أخرى يستحسنونها).

وبعد إنشاء المحاكم المختلطة بالفعل في نهاية عام 1875م [14]؛ وضعت لها عدة تقنينات في مجالات: المرافعات المدنية والتجارية، المعاملات المدنية، تحقيق الجنايات، العقوبات، التجارة، التجارة البحرية، بواسطة محام فرنسي يُدعى مونوري – وكان بمنزلة أمين سر نوبار باشا وزير خارجية الخديوي، وكان له دور كبير في صياغة مشروع المحاكم المختلطة والتوسط لدى الدول صاحبة الامتيازات للموافقة على المشروع – وآخرين، حيث قاموا بنقلها جميعًا عن القوانين الفرنسية نقلًا مشوهًا يخدم الامتيازات الأجنبية ومصالح الأوروبيين في مصر، وصدرت في ذات العام، واستمر العمل بقانونها في العقوبات حتى عام 1937م، وبقانونها المدني حتى عام 1949م.

وهنا سنجد ليونارد وود وغيره يقعون يقعون في خطأين:

الأول: عد المحاكم المختلطة نظام قضائي موازٍ للمجالس القنصلية، وفيما بعد الأهلية، والشرعية، وبناء عليه اعتبار وجود أربع سلطات قضائية [15] وهذا غير صحيح، بل حلت المحاكم المختلطة محل المجالس القنصلية، وهو سبب إنشائها أصلًا.

الثاني: شكلي متعلق بتسميات هذه المحاكم ما يوحى بوجود خلط حول هذه المحاكم وغيرها، حيث عبر عن المحاكم الأهلية في أكثر من موضع بمحاكم السكان الأصليين، وفي مواضع أخرى بالمحاكم المحلية، فيما عبر عن المحاكم المختلطة بالمحاكم النظامية [16]، والمحاكم الشرعية بالدينية وفي مواضع أخرى بالإسلامية أو محاكم الشريعة الإسلامية، وبالتأكيد الترجمة العربية زادت المشكلة، حتى ليبدو للقارئ لأول وهلة أن سبعة أو ثمانية نظم كانت مطبقة في المحاكم المصرية!

ولم تحل المحاكم المختلطة مشكلة المصريين، بل وسَّعَت منها، إذ ظل الأجانب ­ سواء المتمتعون بجنسيات الدول صاحبة الامتيازات أو غيرهم ­ غير خاضعين لسلطان التشريع والقضاء الوطني، وإنما حلت هذه المحاكم مشكلة الأجانب ورفعت عنهم الحرج الذي كانوا دائمًا ما يقعون فيه مع بعضهم بسبب تنازع الاختصاص القانوني والقضائي بينهم إذا اختلفت جنسياتهم، لذا فإنه لم تكد تنقضي مُدة الخمس سنوات الأولى على إنشاء المحاكم المختلطة حتى بادرت بتجديد المُدة، وتلك القوى التي كانت زاهدة فيها مُصرَّة على توقيتها والاحتفاظ بحق الرجوع فيها، هي التي باتت جد حريصة على استدامتها بالحالة التي نشأت عليها.

وكانت أحكام المحاكم في ذلك العهد تُصدِر حيثياتها مدبجة باستشهادات القضاء الفرنسي والفقهاء الفرنسيين والمصطلحات والتعبيرات الفرنسية، حتى لا يكاد يُفهم أهي أحكام عربية، أم فرنسية مكتوبة بحروف عربية، وكثير منها منشور في مجلة المحاماة الأهلية والمجموعة الرسمية للأحكام، فالنظام الجديد في مصر، وقبله في السلطنة العثمانية بل في العالم الإسلامي؛ لم يُنتِج فقط محاكم جديدة وقوانين جديدة، بل أنتَج معهما لزومًا ثقافة قانونية جديدة مستقاة بالكلية من أوروبا وهو ما ظهر جليًا وانعكس بوضوح على دراسة القانون في مدارس الحقوق وكلياتها بعد ذلك.

ولم تَسلم حتى المحاكم الشرعية من التأثر بالقانون الفرنسي، حيث تألفت في عهد الخديوي محمد توفيق في أواخر عام 1880م لجنة لإنشاء محاكم أهلية للمصريين على غرار المحاكم المختلطة، وهنا ظهرت ولأول مرة فكرة واصطلاح “القضاء الشرعي” في دلالة على كونه استثناءً لا أصل بعد أن كان ذكر “القضاء” و “المحاكم” عامةً ينصرف فقط إلى الشرعي، وليُحصر في نطاق محدد محدد بعد أن كان عامًا شاملًا جميع أنواع القضايا، وفي نوفمبر 1881م وضعت اللجنة لائحة ترتيب المحاكم الأهلية، بيد أن قيام الثورة العرابية حال دون دخول هذه المحاكم حيز التنفيذ.

حتى إذا كان إبريل عام 1937م وانعقد مؤتمر مونترو في سويسرا بين الحكومة المصرية وحكومات الدول صاحبة الامتيازات [17] وافقت هذه الحكومات على إلغاء الامتيازات الأجنبية في مصر مقابل تمديد مُدة بقاء المحاكم المختلطة اثني عشر عامًا، وتعهد الحكومة المصرية بأن تكون القوانين التي تسري على الأجانب لا تتنافى مع مبادئ القانون المعمول بها في التشريع الحديث، وألا يتضمن التشريع المصري أي تمييز مُجحف بالأجانب أو الشركات أو المؤسسات الأجنبية، ففي النهاية كانت المحاكم المختلطة أداة للتغلغل الأوروبي شأنها شأن المجالس القنصلية، فبينما كانت المجالس أداة تغلغل مباشر؛ كانت المحاكم المختلطة أداة تغلغل غير مباشر.

وهنا نلحظ كيف ترتبط فكرة القوانين في الدولة والنظام القضائي باستقلال النظام السياسي، وقوة الاقتصاد، فهي ليست قضية مستقلة عن سائر الظواهر، وليست بعيدة التحكم عن أدوات القوة وموازين القوى والصراع السياسي، بل هي مندمجة فيها رهينة بها خاضعة لها. 

وهكذا، استطاعت مصر أيضًا شأنها شأن تركيا ­ بعد ذلك ­ التخلص من الامتيازات الأجنبية لكن بثمن باهظ هو تقليص دور القضاء الشرعي وانتزاع اختصاصاته لصالح المحاكم المختلطة، واستبدال القوانين الأجنبية بأحكام الشريعة الإسلامية.

————

* أصل الدراسة نُشر في موقع “الألوكة” الإلكتروني بتاريخ ٤ مايو ٢٠١٣م، قبل أن يتم توسيعها وإعادة تناولها ونشرها في كتاب (الشريعة والتحديث: مباحث وحقائق تاريخية واجتماعية في قضية تطبيق الشريعة وتقنينها) ضمن سياقات الفصل الأول: إقصاء الشريعة وتمكين القوانين.

[1] وفي عام 1569م جدد شارل التاسع ملك فرنسا المعاهدة مع السلطان سليم الثاني وزاد عليها امتيازات أخرى، غير أن السلطان العثماني محمد خان الرابع رفض تجديد الامتيازات بسبب معاونة فرنسا لأعداء الدولة العثمانية، فكادت الحرب تقع بين الدولتين عام 1667م.

[2] ومن غرائب الأمور أن اللجان التي تشكلت لوضع القانون الفرنسي استمدت كثيرًا من بنوده من (الموسوعة القانونية الكبرى للرومان) المعروفة بمدونة جستنيان آخر أباطرة الرومان، وهي بمنزلة القانون الروماني القديم، والمصدر الرئيسي لهذه المدونة كان قانون الألواح الإثنى عشروهو أول قانون دون في روما، ويذكر د. محمود السقا في كتابه (فلسفة وتاريخ القانون المصري ومراحل تطوره، ص 22) أن قانون الألواح المُشار إليه اعتمد في قواعده على قانون صولون الذي اعتمد بدوره على قانون بوكخوريس القانون المصري الفرعوني المدون قبل عام 595 ق.م.

[3] أحمد فتحي زغلول: المحاماة، الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية (القاهرة)، الطبعة الثانية ٢٠١٥م، ص ٢١٢: ٢١٣.

[4] عزيز خانكي بك المحامي: التشريع والقضاء قبل إنشاء المحاكم الأهلية، الكتاب الذهبي للمحاكم الأهلية، نادي القُضاة (القاهرة)، الطبعة الثانية 1990م، ج ١ ص ٨٢.

[5] إسماعيل بن إبراهيم بن محمد علي باشا: ولد في قصر المسافر خانه، وكان الابن الأوسط بين ثلاثة أبناء لإبراهيم باشا، حصل على تعليمه في باريس، ثم عاد إلى مصر حيث أصبح وريثًا شرعيًا للعرش بعد وفاة أخيه الأكبر محمد سعيد باشا في منتصف يناير 1863م حصل على السُّلطة دون معارضة، وفي نحو عام 1866م حصل علي لقب خديوي من السلطان العثماني بموجب فرمان مقابل زيادة في الجزية، وتم بموجب هذا الفرمان أيضًا تعديل طريقة نقل الحكم لتصبح بالوراثه لأكبر أبناء الخديوي سنًا، كما حصل عام 1873م على فرمان آخر يتيح له استقلال أكثر عن الدولة العثمانية وعرف بالفرمان الشامل، وكان منحه حق التصرف بحرية تامة في شئون الدولة ما عدا عقد المعاهدات السياسة وحق التمثيل الدبلوماسي وصناعة المدرعات الحربية مع الالتزام بدفع الجزية السنوية، وفي 1879م عُزل من حكم مصر ونُفي إلى خارجها، فأقام في نابولي بإيطاليا ثم انتقل بعدها للإقامة في الأستانة، حيث توفي هناك في قصر إميرجان في استانبول.

[6] الذي تولى السلطنة العثمانية في ذات فترة ولاية الخديوي إسماعيل على مصر تقريبًا، إذ وليها خلفًا للسطان عبد المجيد الأول في يونيو 1861م، واستمر بها حتى وافته المنية في مايو 1876م.

[7] للاستزادة من آثار الامتيازات على التشريع والقضاء في الدولة العثمانية بصفة عامة وفي مصر بصفة خاصة يُمكن الرجوع للمصادر الآتية: أثر الامتيازات في القضاء والتشريع في مصر للدكتور عبد الحميد بدوي، مذكرات السلطان عبد الحميد الثاني، أصول تاريخ القانون للدكتور عمر ممدوح، الأوضاع التشريعية للدكتور صبحي محمصاني.

[8] فيما عدا محكمة مصر القاهرة ومحكمة مدينة السويس، حيث كانت محكمتهما خارجتين عن سُلطة الحكومة المصرية.

[9] علي أحمد الجرجاوي: حكمة التشريع وفلسفته، دار الفكر (بيروت)، الطبعة الرابعة 1429هـ / 2009م، ج 2 ص 159، 161.

غير أن القاضي محمود محمد عرنوس (- : ١٩٥٥م) في تاريخه حول القضاء؛ أنكر هذه الدعوى، وقال أن “الالتزام” إنما كان في جبايةالأموال المترتبة على القضايا والغرامات والقسمة وما أشبه ذلك فحسب، لا القضايا ذاتها.

محمود عرنوس: تاريخ القضاء في الإسلام، مكتبة الكليات الأزهرية (القاهرة)، ص ٢٢٦.

ولا شك أن بخيت أقدم وأقرب عصرًا للحوادث المذكورة من عرنوس، وأيًا ما كان الأمر، فالثابت أن الفوضى في القضاء بلغت في ذلك التوقيت مبلغًا عظيمًا، من ذلك ما ذكره محمد عبده (1849: 1905م) في تقريره حول القضاء الشرعي عام ١٨٩٩م – وسيأتي ذكر مناسبته في الفصل الثاني من هذا الكتاب:

“وجدتُ كثيرًا من قضاة المحاكم الشرعية – خصوصًا في المراكز – لا تسر معارفهم الشرعية والنظامية ولا يرضى العدل سيرهم في أعمالهم، ولذلك وجدتُ الحاذق منهم يحول جميع القضايا تقريبًا إلى محاضر صلح تجنبًا للحكم، ولا يلبث المتصالحان لديه أن يختلفا لأن الصلح غير حقيقي!

ووجدتُ فيما يوجد من الأحكام خطأً كثيرًا، وفي الأكثر يعولون في تطبيق اللوائح على الكتبة، ومنزلتهم من العلم ما وصفناه سابقًا، وقد كان المشايخ على بعد تام من العالم وشئونه أيام إقامته في الأزهر أو المدرسة ولا يعرف من القضاء إلا ما قرأه في كتب الفقه، ولم يشهد مجلسًا من مجالسه، ولم يعرف شيئًا عن نظامه الشرعي المعمول به في بلده، ولا يمكنه تحرير رقيم حسن الأسلوب مفهوم المضمون في أدنى شئونه، وربما لا يعرف أرقام الأعداد الحسابية؛ ثم يفوض إليه الحكم وهو على هذه الحالة فيلتجئ إلى الكاتب الذي يجده في المحكمة؛ فإن كان ذكيًا أمكنه أن يتعلم في سنة أو ما يزيد عليها، وإن كان دون ذلك بقى تلميذًا للكاتب إلى ما شاء الله، فمن كانت بدايته أن يكون تلميذًا للكاتب؛ فكيف تكون نهايته؟! وإني لا أنكر أن بعض القضاة صار بعد التمرن من أحسن رجال القضاء، ولكن لا يصلح أن تكون الآحاد قواعد يُبنى عليها العمل لمن يريد إحكامه.

وقد شاهدتُ بإحدى الجلسات كاتبًا يقطع على القاضي الكلام في سؤال الشاهد، ويسأله بنفسه مرات متكررة، ورأيتُ من سلطة الكاتب في هذه الحالة ما لا يحتمله إلا هؤلاء القضاة وأمثالهم، على أن هذا جميعه مما لا يليق بحرمة القضاء الإسلامي الذي كان يعد مجلسه أوقر المجالس وأعظمها هيبة في النفوس، حيث كان يجلس الخليفة فمن دونه بين يدي قاضيه، ولو أن نفوس القضاة استشعرت حقًا واحدًا من حقوق دينهم ما نزلوا به إلى هذه الدرجة التي وصل إليها بهم”.

[10] عدا محكمتي مصر القاهرة ومدينة السويس، فهاتان المحكمتان بقيتا خارجتين عن الحكومة المصرية إلى أواخر زمن الخديوي إسماعيل حيث ضمت وقتها أيضًا للحكومة المصرية، وشُكِّلت محكمة مصر تشكيلًا جديدًا.

[11] كلمة تركية بمعنى التحكم الجبري.

[12] فإن كان من يستوجب التعزير من أصحاب الرتب أو السادات الكرام وجب إحضاره إلى مجلس الأحكام وتعزيره بما يليق، وإن كان من أوساط الناس لزم تعزيره بالحبس أو النفي بحسب ما يقتضيه الحال، فإن كان من آحاد الناس فإنه يؤدَّب بالحبس أو النفي أو الضرب بالعصا بحسب ما يقتضيه الحال، وإذا وقعت الجريمة على العرض: فإن كان الفاعل من الأهالي أو الخدمة الصغار فإنه يؤدَّب بالضرب من خمسين إلى خمسمائة كرباج، وإن كان من وجوه الناس فإنه يُحبس بمحل خدمته مُدة تتراوح من شهر إلى سنة بحسب الأحوال، وفي الجرائم التي تقع على النفس: إذا كان الجرح والضرب شديدًا تزيد مُدة علاجه عن عشرين يومًا، وكان الجاني من وجوه الناس يُحبس مُدة تتراوح من ثلاثة أشهر إلى سنة، وإذا كان الجاني من عوام الناس فيُضرب من ثلاثمائة إلى خمسمائة كرباج، وإذا كان الجرح والضرب بسيطًا لا تزيد مُدة علاجه عن عشرين يومًا، وكان الجاني من وجوه الناس يحبس مُدة تتراوح من خمسة عشر يومًا إلى ثلاثة أشهر، وإذا كان الجاني من عوام الناس فيُضرب من خمسين إلى ثلاثمائة كرباج.

ذكر هذه العقوبات وغيرها عزيز خانكي المحامي في مقال التشريع والقضاء قبل إنشاء المحاكم الأهلية، الكتاب الذهبي للمحاكم الأهلية، مرجع سابق ، ج 1 ص 87، 88.

[13] وهي انجلترا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا والنمسا وروسيا.

[14] في حين تأخر إنشاء المحاكم المختلطة في الشام، وتحديدًا في سوريا ولبنان، إلى عام ١٩٢١م.

[15] ليونارد وود: إحياء التشريع الإسلامي، ترجمة: د. بدر مصطفى، نهوض (الكويت)، الطبعة الأولى، ص ٦٩.

[16] وهو نفس الخطأ الذي وقعت فيه عِزة حسين، اجترارًا لتجربة المحاكم النظامية في السلطنة العثمانية.

[17] وهي: الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، بلجيكا، أيرلندا، الدانمارك، إسبانيا، اليونان، إيطاليا، النرويج، هولندا، البرتغال، السويد.

Share via
Copy link