وقت القراءة 13 دقيقة
4٬276 عدد المشاهدات

آخر تحديث: ٢٨ يناير ٢٠٢٣م

المركز لغةً: المحور أو البؤرة، أي جزء رئيسي أو أساسي تتجمَّع حوله الأجزاء الأخرى، و”المركزية” في عالم الأفكار خاصية في المفهوم الذي يحمل قيمة جوهرية في ذاته تنبني عليها الأحكام والموضوعات، فلا يمكن فهم الأحكام المترتبة دون اعتبار الفكرة أو المفهوم الذي استندت عليه، لأنها تستمد قيمتها من علاقتها بالقيمة الجوهرية لهذا المفهوم أو هذه الفكرة.

وللشريعة مفاهيم تمثل قيمًا جوهرية Intrinsic Value تتمحور أحكام الشريعة حولها، بوصف هذه القيم موضوعًا أساسيًّالأحكام الشريعة وحاكمًا عليها، ومن ثمَّ لا يمكن فهم هذه الأحكام جيدًا دون إدراك هذه المفاهيم ومغزاها.

الجماعة” مثلًا فكرة مركزية في الشريعة، لا يمكن أن تُفهم كثير من الموضوعات العملية بشكل كامل بعيدًا عنها، مثل: الحسبة أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنع التعسف في استعمال الحق، والشُّفعة، والزكاة، والقوامة، والعِدة، والتكافل، وغير ذلك، وكذلك الأحكام الأخلاقية مثل: الشورى، والاعتصام، والاختلاف وأدب الخلاف، والتعاون على البر، والطهارة (النظافة)، والحِداد، وغيرها، فضلًا عن الأحكام التعبدية المحضة مثل: صلاة الجماعة، وصلاة العيدين، والحج، ونحو ذلك.

و”التوبة” فكرة مركزية في الشريعة، لا يمكن أن تُفهم كثير من الموضوعات العملية دون اعتبارها، مثل: السَّتر، والدية، والكفارة، وضمان (رد) الحقوق، والاستتابة، والتغريب، وغير ذلك، فضلًا عن الأحكام التعبدية المحضة مثل: الاستغفار، والندم، والعزلة، والمخالطة، ونحو ذلك.

و”الاستطاعة” لا يمكن أن نفهم كثيرًا من الموضوعات العملية بعيدًا عنها أيضًا، مثل: منع الغرر، وبيع ما لا تملك، والكفارات، وتعدد الزوجات، والطلاق، وغيرها، وكذلك الأحكام الأخلاقية مثل: الرشد (الاعتدال)، والقناعة، والتواضع، والإحسان، والكرامة، والثقة بالنفس.

فالجماعة والتوبة والاستطاعة وغيرها؛ مفاهيم تحمل في ذاتها قيمة جوهرية، وكل الأحكام والموضوعات التي تنبني عليها تستمد قوتها وحكمها من هذه القيمة، وبالطبع تتفاوت هذه المركزيات في الأهمية وفي قيمتها بالنسبة لبعضها وعلاقاتها ببعضها فيما يشبه الهرم المقلوب، فـ “لتوحيد” هو مركز المركزيات أجمع، وعليه تستند “الطاعة” التي تعتمد عليها كل المركزيات الأخرى، التي يمكن تقسيمها إلى قسمين: مركزيات الفرد ثم مركزيات الأُمة، فلا يمكن أن نفهم هذه المركزيات إلا من خلال قيمتَي التوحيد والطاعة.

فالمركزيات وإن كانت كلية في طبيعتها، إلا أنها ليست قواعد ولا أصولًا فقهيةً تُستنبط من خلالها الأحكام، وليست بديلًا لها، إنما هي أصول فطرية ومفاهيم حاكمة ملهمة قامت عليها الشريعة، ووظيفتها فهم فلسفة الشريعة في الأحكام ومنهجية بناء الأحكام، فهي موارد فكرية في الحقيقة أكثر منها موارد للأحكام ذاتها، وإذا كانت الأحكام تخاطب العقل العملي، والأخلاق تخاطب العقل القيمي (الضمير الإنساني)؛ فإن المركزيات تخاطب العقل النظري الذي يكتشف به الإنسان علاقات الأشياء ببعضها.

يمكن أن نفهم ذلك أكثر من خلال المقارنة بالمركزيات المادية الوضعية العلمانية، مثل: “الذات” كقيمة جوهرية تستند عليها كل المركزيات الأخرى، مثل: السعادة، والجمال، والخيال، والخصوصية، وغير ذلك.

مثلًا “السعادة” كفكرة مركزية في ذاتها، ترتبط بها العديد من الموضوعات مثل: الثروة، والشهرة، والشهوة، والربا، والإباحية، ونحو ذلك، إذ يُنظر إلى قيم الملكية والمال والفضيلة من جهة أنها – من المفترض أن تكون – مصدرًا للسعادة لا من جهة أنها تحمل في ذاتها قيمة جوهرية على غرار السعادة، بغض النظر عن أنها تحققها بالفعل أو بالضرورة أم لا.

مثال آخر؛ “الحرية” كفكرة مركزية ترتبط بها العديد من الموضوعات العملية مثل: الإجهاض، والتبني، والشذوذ الجنسي، وأيضًا القيم مثل: شيوع العلاقات، والتعددية المطلقة، والاستقلال، ونحو ذلك.

مثال آخر؛ “الجمال” كفكرة مركزية تدور حولها قيم مثل: الفن، والزينة، وعمليات التجميل، وتحديد النسل، ومسابقات الجمال، والموضة، وعروض الأزياء، وغيرها.

وليس معنى هذا أن بعض هذه المركزيات الغربية، مثل: الحرية؛ لا تُعرف في النسق الإسلامي، بل هي موجودة أيضًا لكن ترتيبها في هذا النسق وأولويتها هو الذي يختلف، فبينما هي حاكمة على الأحكام والأخلاق في النسق الوضعي، فهي محكومة بغيرها من المركزيات في النسق الإسلامي، فالحرية تطبيق من تطبيقات التوحيد والطاعة ولازمة من لوازمهما، إذ بقدر ما يتبع الإنسان الشرع؛ يتحرر من عبودية نفسه وشهواته، وبقدر ما يطيع الله تعالى؛ يتحرر من عبادة غيره.

والإنسان في التصور الوضعي هو الذي يخلق القيم كما يخلق الأحكام، أي يمنحها الواقعية والمكانة التي لم تكن لها من قبل.

فحين غابت مركزية “الدين” تمكنت “الذات” كمركز لسائر المركزيات، وهو ما عبر عنه بوضوح الألماني لودفيغ فويرباخ Ludwig Feuerbach (١٨٠٤: ١٨٧٢م) الذي أثر بشدة في كارل ماركس، فقال بأن: الدين نوع من الاغتراب، فبتقدم معرفة الإنسان وعودته إلى ذاته؛ ترتفع قضية الدين وتنتفي تلقائيًّا، فكلما ازدادت معرفة الإنسان بنفسه وقدراته انتفت حاجته لافتراض وجود إله، فيكون أحق بالعبادة من عبادة أي إله!

فالعلمانية في منطقها الداخلي ترى أن الإنسان كامل لكنه حين لا يعرف نفسه جيدًا يعطي كماله لما وراء وجوده وهو الإله، فكل الصفات التي أضفاها على ذلك الإله إنما هي صفات الإنسان، ومن هنا نعلم سرًّا من أسرار بطلان المسيحية، لأن تصوير الإله على أنه بشر أو امتداد للبشر؛ هو الذي أنتج هذا التصور الفاسد في التفكير، فالمسيحية في الحقيقة هي التي أنتجت الإلحاد والعلمانية.

ولنفس السبب أيضًا، تكمن فلسفة رفضنا “الإنسانية” كقيمة جوهرية كما ساد في الفترات الأخيرة، لذلك لا نستغرب أن تكون الإنسانية في القرآن موضع ذم ونقص في الغالب؛ {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [سورة الأحزاب: الآية ٧٢]، {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [سورة النساء: الآية ٢٨]، {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [سورة إبراهيم: الآية ٣٤]، {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [سورة العاديات: الآية ٦]، {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى} [سورة العلق: الآية ٦]، {وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} [سورة الإسراء: الآية ١١]، {وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا} [سورة الإسراء: الآية ١٠٠]، {وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} [سورة فصلت: الآية ٤٩]، {فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} [سورة الزمر: الآية ٤٩]، وهكذا، لماذا؟!

لأن هذه هي حقيقة الإنسان، نقصٌ نعم، لكنه كمال في حق الله، فكل كمال في حقه تعالى نقصٌ في حق الإنسان، وكل نقصٍ في حق الإنسان كمالٌ في حقه عز وجل، فمن حيث جَهْل الإنسان؛ لا غنى له عن علمه تعالى وحكمته، ومن حيث ضعف الإنسان؛ لا غنى له عن قوَّته وعزته، ومن حيث ضلال الإنسان؛ لا غنى له عن رحمته وهدايته، ومن حيث فقر الإنسان؛ لا غنى له عن رزقه، ومن حيث ضياع الإنسان؛ لا غنى له عن تدبيره، وهذا هو جوهر فكرة التوحيد.

لذلك قيل في تفسير {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [سورة النساء: الآية ٢٨]؛ أي عاجزٌ عن مخالفة الهوى، يستميلُه هواه وشهوتُه ويستشيطُه خوفُه وحُزنُه، قال ابن تيمية: “الأصل في بني آدم الظلم والجهل، ومجرد النُّطق بالشهادتين لا يُوجب انتقال الإنسان عن الظلم والجهل إلى العدل.. والجهل والظلم هما أصل كل شر”، فالعالم؛ العالم بحجة الشرع، والقوي؛ قوي بالله، والمرحوم مرحوم بالتسليم والطاعة، والغني غني بالافتقار إلى الله، والواصل واصل بتدبير الله، ومَن جعل الإنسانية قيمة مركزية؛ جعل الإنسان إلهًا على الحقيقة!

فكل إنسانية تعارض الدين؛ انحطاط، وكل حق لا يعتبره الشرع؛ باطل، وكل منظومة سوى منظومة الشرع لا قيمة لها ولا وزن، الصواب ما صوَّبه الإسلام ولم يعارضه، والأخلاق ما أمر بالتخلق به الإسلام ولم يناقضه، وما دون ذلك انحرافٌ وخرافاتٌ وأوهام.

فيمكن اعتبار المركزيات نوعًا من المعرفة الارتكازية التي تؤدي إلى معارف فنية تفصيلية هي الأحكام العملية والأخلاقية والتعبدية المحضة، فكل منها لا بد وأن يستبطن قيمة مركزية أو أكثر، ومن ثمَّ لا تشكل الأحكام في ذاتها مهما حملت من قيمة؛ فكرة مركزية، بل الفكرة المركزية هي موضوع الحكم العملي أو الأخلاقي أو التعبدي المحض، لأن الأحكام قد تتغير باختلاف الزمان والمكان والظروف، مثلًا “الشورى” تمثل قيمة مهمة لا شك، لكن هل يمكن عدها قيمة مركزية؟!

لا، ليس تقليلًا من قيمتها، ولكنها رهن قيمة جوهرية مركزية أهم هي “الجماعة”، لذلك لا نستغرب أن يجيز الفقهاء ولاية المتغلب رغم عدم استنادها للشورى التي هي شرط الخلافة، ذلك أن القيمة المركزية هي الجماعة المستندة للطاعة والتوحيد.

وأول ما نلحظه على مركزيات الشريعة:

أولًا: أنها غريزية، أي مركوزة في الفطرة والتكوين العقلي والنفسي للإنسان، لذلك تميل لها الطبائع بحسب استعدادها للخير، وتصدر عنها الصفات الذاتيَّة، وهذا معناه بالضرورة أن الدين – الذي هو مصدرها – مركوز في الفطرة.

ثانيًا: أنها لا تقبل أن يكون لضدها قيمة في ذاته، فالجماعة والعمران والعدل والاستطاعة ونحوها من المفاهيم لا تقبل أن يحمل ضدها بدوره أي قيمة.

ثالثًا: أنها لا تختص بنظام أو مجال معين من نظم الحياة ومجالاتها، إنما هي أقرب للبدهية تُلاحَظ من خلال النص الديني، وتنعكس تطبيقاتها على كل نظم الحياة ومجالاتها، فهي تستمد ذلك من طبيعة الدين الذي تألفه النفوس، فالمعرفة الدينية المركزية معرفة عامة ليست تخصصية ولا تُعرف بالفلسفة المعمقة أو النظريات الغامضة أو تُنال بالمكاشفات والرياضات النفسية.

رابعًا: أنها متناهية مُدرّكة، بعكس المركزيات الغربية غير المتناهية، وهو ما يجعل مركزيات الشريعة أدعى لتحقيق السعادة التي تتسع لها الدنيا، وهي ليست سعادة من ذلك النوع المركزي الغربي، إنما هي بتعبير أدق “طمأنينة” و”سكينة”، وهذا من طبيعة المفارقة بين الدنيا والآخرة، وسر من أسرار الشعور بلذات الجنة المتجددة غير المتصورة [1].

أما مركزيات الغرب فقيمها وأحكامها عصية على تحقيق تلك الطمأنينة، لأن الإنسان بطبيعته يسعى للحصول على الأشياء والرغبات سعيًا حثيثًا، لكن بمجرد ما ينالها تفتر حرارته وتتلاشى رغبته فيها وربما ملَّها بالتدريج وتضجر منها [2].

لذلك لا يمكن فهم كل مركزيات الشريعة بعيدًا عن فكرة أساسية مفصلية – كما ذكرنا من قبل – هي “الطاعة“، ويعد مفهومها في الشريعة أحد أهم مركزيات الشريعة، فالطاعة هي “الامتثال”، أي الامتثال لأوامر الله عز وجل ونواهيه فرع عن غاية الوجود الإنساني وهي “التوحيد“، فالطاعة هي مثابرة الإيمان، حيث يتخلى المؤمن فيها تمامًا عن إرادته ويُخضع أقواله وأفعاله وأفكاره لإرادة الله وتعاليمه، وكل مركزيات الشريعة إنما تستمد قوتها وقيمتها بفعل جاذبية هذه المركزية الأساسية، فيما يمكن أن نعتبرها جاذبية المصدر.

وهو ما نفهم به تأثير المعرفة الدينية على معارف الناس فضلًا عن نظمهم الاجتماعية، فالتوحيد في ذاته من جهة طبيعته غير مادي فلا يتسق في نظم التفكير والحياة المادية في مرجعيتها وطبيعتها، فهنا تظهر قيمة وأهمية بناء علاقات المفاهيم المركزية والأحكام الشرعية بالتوحيد كمركز للمركزيات من خلال مفهوم مركزي مفصلي آخر له طبيعة مادية، هو “الطاعة”، باختصار نفهم: كيف يُبنى نظام معرفي من التوحيد؟!

وهي المسألة التي غفل / تغافل عنها كثير من المنظرين الذين تكلموا في قضية التوحيد كمرتكز التصور الإسلامي، فظلت تصوراتهم فلسفية بعيدة عن حيز الواقع وتطبيقاته.

ويمكننا التمييز بين نوعين من الطاعة:

الأول: الطاعة القلبية التي يمكن التعبير عنها بـ “التسليم“، أي الانصياع المعنوي والقبول المتعمد، ويجد فلسفته في فكرة مهمة هي “التقديس” وهو التأدب المشوب بالرهبة والتبجيل، وهو جوهر الطاعة القلبية، فنحن نتكلم هنا عن عاطفة لها أثر حاسم في قمع رغبة الإنسان في التحدي الذي يميل له بطبعه، والتحدي المقصود هو التحدي بجميع صوره ومستوياته، مثل: المناقشة والجدال والسَّخط والضغينة والعداء، ونحو ذلك.

الثاني: الطاعة السلوكية التي يمكن التعبير عنها بـ “الاستجابة“، التي تحفز عليها بالضرورة الطاعة القلبية (التسليم)، فكل سلوك إنساني إنما هو استجابة لتسليم ذهني متعلق به، ويترتب على الطاعة السلوكية أمر في غاية الخطورة في البنية الإيمانية هو الإيمان بالقضاء والقدر، لأن الإنسان بالطاعة لن يكون مسئولًا عن النتائج ولا ضامنًا لها، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: «احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز، وإن أصابك شيء، فلا تقل: لو أني فعلت كذا، لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل».

فالطاعة الدينية إذن تسليم مع سلوك، وهو ما يميزها عن أي صور أخرى من الطاعة كالطاعة القانونية في الدولة الحديثة، وهي بهذا الوصف عنصر أساسي في بنية الحياة الاجتماعية عند المسلمين.

لذلك سنجد الشريعة لا تساوي بين الطاعة الدينية وغيرها من الطاعات مثل: الطاعة السياسية، رغم أي أهمية للطاعة السياسية أو غيرها من الطاعات، بل تخضع كل هذه الطاعات لهيمنة الطاعة الدينية عبر مبدأ “لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق” و”لا طاعة إلا في المعروف”، قال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} [سورة العنكبوت: الآية ٨]، فإن الوالدين وإن كانا تاليَين في استحقاق التعظيم وأعمال البر بعد الله تعالى، إلا أنهما لم يستحقا نفس التعظيم إذا عارضت طاعتهما؛ طاعته تعالى، فكيف بما هو دون الوالدين؟!

في حين تساوي النظم الوضعية بين الطاعة القانونية والطاعة السياسية، لأن العلمنة تنظر للطاعة على أنها “خضوع لسلطة” في النهاية.

لذلك لا تعتمد الطاعة الدينية في الشرع على الإقناع العقلي بقدر ما تعتمد أكثر على الإقناع الوجداني، لأن الدين قوامه توحيد الله وتصديق ما أمر به، وإدراك الله وغيبيات الدين كالآخرة والقبر والروح والأحكام التعبدية غير معقولة المعنى؛ فوق مستوى العقل، ما يستوجب الإذعان، وإن بدت مخالفة لمجريات وحسابات العقل.

لذلك كانت التزكية بمضامينه الإيمانية والوجدانية مكونًا رئيسيًا في كل العلوم والتصورات الإسلامية، وبدونها يحدث الخلل إما في فهم العلوم وإما في فاعليتها.

ومن هنا كان “التسليم” و”الاستجابة” قوام الطاعة، وليس معنى ذلك أن الشريعة ترفض التعقل، بل تحث على التفكر، وتعتبر التدبر عبادة، وتأمر بالأخذ بالأسباب، وتُقدم البينة، وتعتبر الذكرى والأمثال، لكن فلسفة الشريعة تقوم على إزالة الحواجز النفسية أولًا لاعتبار هذه الأشياء على نحو سليم، وهذا لا يمكن أن يتم إلا من خلال الإقناع الوجداني، وهو ما عبرت عنه النصوص القرآنية: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [سورة آل عمران: الآية ٧]، {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [سورة البقرة: الآية ٧]، {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ} [سورة الحديد: الآية ١٤]، وغيرها.

والطاعة في الشريعة؛ ضرورة، فكون الطاعة هي العلة الأساسية لأي حكم شرعي؛ يجعل تلك الأحكام متضمنة في منطقها الداخلي لأسباب صلاحيتها الدافعة لالتزامها والوثوق بها، وهو ما يُعبر عنه ديانةً بـ “العبودية”.

ولا تقتصر نتيجة “الطاعة” على تحقيق الهدف الأساسي من الدين وهو “العبودية”، بل أيضًا المصالح المشتركة للناس، إذ يترتب عليها في البنية الاجتماعية أمران في غاية الأهمية:

(١) الحد من الرغبات الذاتية، ومن ثمَّ التقليل من الفردانية، لأن الأصل أن الإنسان ككائن حي يميل لأقوى الرغبات، فالشريعة تحد هذه الرغبات لصالح الطاعة، وبهذا تتحقق الفاعلية البشرية وتتميز عن سلوك الحيوان، لأن الحيوانات تتبع تلقائيًّا رغباتها القوية.

(٢) توجيه السلوك، فالطاعة في ذاتها حافز توجيهي، لأن الشريعة لا تسمح بتحديد السلوك بالرغبات، فالطاعة تعيد توطين السلوك، وإعادة التوطين: عملية التخلص من أنماط سلوك قائمة أو مرغوبة لصالح أنماط سلوك جديدة كجزء من التحول في حياة الفرد وتشكيل هُويته.

هذان الأمران يمكن فهم أثرهما بشكل أكبر عندما نضع الطاعة في إطارها كسلوك للجماعة، فهي تمثل قدرًا مشتركًا بين أفراد الجماعة المسلمة؛ يتيح توافقًا في الثقافة والعوامل الظرفية والمحفزات المختلفة ومعايير الجماعة ومؤثراتها الأخلاقية.

يمكن أن نلمس أثر هذا الاختلاف في التصور الإسلامي / العلماني حول الطاعة من بعض الأمثلة، فبينما القانون في المجتمعات الغربية يستمد قيمته من “السعادة” كفكرة مركزية كما قدمنا، فغايته كما يقول فلاسفة القانون تحقيق السعادة للمجتمعات؛ نجده يستمد قيمته في الشريعة من “الطاعة” كفكرة مركزية، فغايته تعبيد الناس لرب العالمين.

مثال آخر؛ الملكية، بينما تستمد قيمتها في المجتمعات العلمانية من “السعادة” كفكرة مركزية، فغايتها تكوين الثروة؛ نجدها تستمد قيمتها في الشريعة من “الطاعة” كفكرة مركزية، فغايتها تحقيق الاستخلاف.

مثال ثالث؛ العلاقة بين المرأة والرجل، بينما تستمد قيمتها في المجتمعات العلمانية من “الحرية”، فغايتها الشعور بالحرية؛ نجدها تستمد قيمتها في الشريعة من “الطاعة”، فغايتها الإعانة على العبادة وتحقيق التماسك الاجتماعي.

ولكل من هذه المفاهيم والأفكار الفرعية؛ القانون، والعلاقة بين الرجل والمرأة؛ مئات الاختلافات في التطبيقات بين التصورين الشرعي والعلماني.

لذلك سنلحظ في الخطاب القرآني في تقريره الأحكام والنُظم للناس، وبين الخطاب الوضعي (العلماني)؛ أن الأخير دائمًا ما يوجه الأمر والنهي مباشرةً بـ “افعل”، “لا تفعل”، بينما الأمر والنهي في الخطاب القرآني يبدأ في الغالب بـ “أيها الذين آمنوا”، أو ينتهي بـ “المؤمنون”، “المؤمنين”، هذا الفارق له معانٍ عظيمة في غاية الأهمية، منها:

– فكرة الجماعة المؤمنة وأهميتها في تحقيق “عبودية” الأفراد، ويكأن تحقق العبودية والطاعة وكمال دين الفرد؛ مرتكزه الجماعة المؤمنة، فحركة الجماعة؛ حركة للفرد، ولتتأكد مع كل أمر ومع كل نهي؛ مركزية “الولاء والبراء”، فالإيمان يجمع كل الفضائل الموجبة للولاء والبراء، فيعرف المسلم مَن أخوه ومَن عدوه.

– عظمة الله عز وجل ورأفته ووُدِّه ورحمته بالمؤمنين، إذ رغم الأهمية الكبيرة لأوامر الله تعالى، ورغم فداحة معصيته عز وجل وعدم الامتثال له؛ فإن القرآن ببراعة عجيبة يحوِّل الخطاب التكليفي (القانوني في طبيعته من منظور الغربيين) إلى خطاب محبة ووُدّ وحرص، ويكأن المتكلِّم والمخاطَب قريبان في المنزلة؛ مرفوع ما بينهما من حواجز كالبنوة والأخوة!

– تذكير الناس بأن الشرف الحقيقي؛ في “الإيمان”، الإيمان الموجب للتسليم والسمع والطاعة، ومنه نُدرك منزلة الصحابة وقَدر تشريفهم ولماذا؟! نفهم “التسليم” العجيب الذي ملأ نفوسهم ولم يجدوا أي غضاضة في البذل لأجله، فلا مجال لجدال مع أمر الله تعالى، ولا حاجة لمعرفة العلة أو فهم الحكمة إذا كان الأمر أمر النبي صلى الله عليه وسلم!

– تأكيد فكرة أن الامتثال لأوامر الله ونواهيه؛ رهن “الإيمان”، بقدر ما يزيد؛ تتحرك الاستجابة، وبقدر ما يضْعُف؛ تزيد الممانعة، فعلى قدر رسوخ الإيمان في دواخل النفس وانشغال القلب به؛ يكون الانقياد.

———-

المقال جزء من الفصل الثالث المعنون: “فرص أسلمة العلوم وتوطين الذاتية الثقافية”، من كتاب “أسلمة العلوم أم أسلمة العقول؟!”، يصدر في نهاية عام ٢٠٢٣م عن مركز أركان للدراسات والأبحاث والنشر إن شاء الله.

[1] لتقريب هذا الأمر، كان ثمة رواية لجاك روسو Jacques Rousseau (١٧١٢: ١٧٧٨م) عنوانها (أميل)، يُقر فيها بأن الذين يربون أولادهم على النعم الكبيرة والدائمة؛ لا يتركون لهم في الحقيقة فرصة تذوُّق مشاعر اللذة وإدراكها بعمق، بل يفتحون المجال ليكونوا سريعي التأثر بالألم، فلا يشعرون بأبسط لذة في حين يعانون من أقل ألم، بخلاف الأطفال الذين يتربون منذ الصغر على العناء والسعي والاجتهاد والصعاب، فهؤلاء لا تؤثر فيهم إلا الآلام الحقيقية الصعبة في حين يتمتعون بأقل اللذات وينعمون بها.

[2] ولا مجال هنا للقياس مع لذات الجنة غير المتناهية أيضًا ولا المتصورة، لأن الملل والضجر يُنتزعان فيها من النفوس بقوة الله تعالى، ضمن سائر الصفات السلبية التي تُنتزع مثل الكراهية والحقد، لقول الله عز وجل: {لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [سورة فاطر: الآية ٣٥]، أي تعب وكلل وفتور، لذلك قال تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} [سورة الكهف: الآية ١٠٨].

Share via
Copy link