كان الإسلام نقطة فاصلة في تاريخ العلوم عند العرب، وهذا الفصل بين الحقبتين قبل مجيء الإسلام وبعده، لم يكن متعلقًا بالمنتج العلمي في الأساس، إذ المنتج العلمي كان تبعًا للاختلاف في المنهجية الحاكمة للنظام المعرفي، أي جملة الإجراءات والمبادئ والمفاهيم التي أعطت للعقل العربي بنيته الخاصة في الكتابة والبحث والتعليم والتعلُّم.
وقد تكونت هذه المنهجية من خلال عدد من الممارسات العلمية في التعامل مع مصادر التشريع أولًا، ومصادر الفِكر ثانيًا، فأما مصادر التشريع فمن خلال: القرآن الكريم والسُّنة النبوية، وأما مصادر الفِكر فمن خلال: أصول الدين وأصول الفقه.
من هنا أتت أهمية علم الحديث، وتشكَّل دوره في توطين المنهجية العلمية وتفعيلها بصورة عملية خاصة مميزة في الحضارة الإسلامية، وليس المقصود السُّنة كأحاديث ومرويات، إنما المقصود فنيات مصطلح الحديث، أي ما تعلق بالإجراءات العلمية المتبعة في الرواية، والجمع بين الروايات، والترجيح بينها ونقدها.
لقد أسهمت هذه الإجراءات في تأكيد دور الحُجَّة في حسم الاجتهاد، وأهميتها الحقيقية تنبع من قابليتها للدحض والمصادقة، من أجل إثبات جدارتها في الدلالة على مضمونها، من خلال آليات محددة، ما أسهم بشكل كبير في تحديد السلوك العلمي لأفراد الجماعة العلمية في العالم الإسلامي، ونشأة الثورة العلمية في الطب والهندسة والرياضيات والفلك وغيرها، عبر آليات النظر والاختبار والحُجَّة، التي طهرت العقول وأنقذت البشرية من الوثنية والأساطير والخرافات، وهيأ الفِكر في القرون الأربعة الأولى من الهجرة لإحداث التطور الحضاري الذي انطلق في نحو ألف عام بعد ذلك.
كشاف الموضوعات:
مداخل أولية: لماذا حُفظت السُّنة؟
أولًا: الطاعة والتعظيم: مرتبة النبي صلى الله عليه وسلم في الأُمة
ثانيًا: مفهوم “السُّنة”: الصيغ والحدود
ثالثًا: منزلة السُّنة في البنية الإسلامية وأهدافها
رابعًا: التعهد الإلهي: حفظ السُّنَّة من عند الله لا من صنع البشر
الفصل الأول: تاريخية السُّنة ومنهجية البناء: كيف حُفظ الحديث في التاريخ الإسلامي؟
- تمهيد تاريخي
أولًا: الحفظ: الذات والملكة والإمكانيات:
(1) ارتباط قيمة الحفظ بمكانة الدين
(2) علو إسناد الرواة والاستذكار
(3) صيرورة الحفظ ميدانًا للمنافسة العلمية
(4) ظهور الفرق وتمييز أي دخيل
(5) التقاليد العلمية الموروثة
ثانيًا: التقييد والتدوين والتصنيف: الكتابة وظهور دولة الإسلام ونظام الشريعة:
- الصحائف
- حول موطأ مالك
- حركة التصنيف بين مالك والبخاري
- حول صحيح البخاري وصحيح مسلم
- علم الدراية: فقه الحديث وشروحه
ثالثًا: حركة العلم والرحلة في طلب الحديث
رابعًا: دقّة المسلمين في أخذ الأخبار عن أسلافهم:
- الاتصال
- العدالة
- الضبط
- السلامة
الفصل الثاني: علم الحديث وتوطين المنهجية: تأسيس التقاليد العلمية الحديثة من منطلقات العلوم الشرعية
- تمهيد حول علاقة علم الحديث بباقي العلوم
(١) تقنيات المعارضة والترجيح
(٢) السبر والتقسيم: تحمل الشهادة نموذجًا
(٣) تعددية القيم
(٤) نقد المصادر: علم العلل والنقد الحديثي نموذجًا
(٥) الشك الحديثي:
- إيقاف عمل الأصل
- ليست كل معرفة قابلة للشك
- الإحالة إلى معرفة أخرى
(٦) الصلاحية للاعتبار
(٧) الأخلاق كمرتكز للنشاط العلمي
مقدمة الكتاب
بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد..
كان الإسلام نقطة فاصلة في تاريخ العلوم عند العرب، وهذا الفصل بين الحقبتين قبل وبعد مجيء الإسلام لم يكن متعلقًا بالمنتج العلمي في الأساس، إذ المنتج العلمي كان تبعًا للاختلاف في المنهجية الحاكمة للنظام المعرفي، أي جملة الإجراءات والمبادئ والمفاهيم التي أعطت للعقل العربي بنيته الخاصة في الكتابة والبحث والتعليم والتعلم.
وقد تكونت هذه المنهجية من خلال عدد من الممارسات العلمية في التعامل مع مصادر التشريع أولًا، ومصادر الفكر ثانيًا، فأما مصادر التشريع فمن خلال: القرآن الكريم والسُّنة النبوية، وأما مصادر الفكر فمن خلال: أصول الدين وأصول الفقه.
فمن خلال القرآن الكريم ترسخت فكرة القيمة لدى المسلمين، التي مثلت أخص ما في المنهجية الإسلامية، ورغم تنوع القيم في القرآن بحسب العلاقة التي يتفاعل من خلال الفرد، تارةً مع ربه، وتارةً بغيره، وتارةً بالمادة والعالم، إلا أنه يُمكن ردها كلها إلى قيمة رئيسية مركزية واحدة هي “التوحيد“، وكل ما عداها بعد ذلك إنما هو فرع عنها، كالاستخلاف والصلاح والاستقامة والأمانة والنضال والعمران والحرية وغيرها عشرات القيم، التي لا تنفك عن سلوك الفرد في أي مرحلة من حياته، بما فيها سلوكه في البحث العلمي والمعرفة.
إن الحكمة من إرسال الرسل وإنزال الكتب عامةً كانت تهدف إلى “التوحيد”، ومن ثمراته رفع الاختلاف بين من أرسل لهم الأنبياء وغرس الصلاح فيهم، لكن دعوته صلى الله عليه وسلم ورسالة القرآن خاصةً كانت عامة شاملة، غيرت العالم وأيقظته من سُباته، وسَمت بالبشرية بالنفوس من حضيض العبودية للبشر والجمادات، إلى مُرتقى التوحيد الخالص الذي لا يليق بنفوس البشر وعقولهم غيره، فكان إيذانًا لأُمم الأرض أن تتحول عن خرافاتها وأكاذيبها وخساساتها إلى التفكير والعلم والخير.
وما كان هذا شأنه، فلابُد له من مراحل ودرجات، لذلك استغرقت دعوة الإسلام نحو ثلاثة وعشرين عامًا في مرحلة التأسيس (النبوة)، لأن سُنة الله في خلقه التدرج والنماء، وتحقيق الإصلاح لا يكون إلا بالتدريب والتربية والمعاهدة، وإلا لثقُلت التكاليف على الناس، ولضيعوا بعضها من كثرتها، لأن حالهم في الجاهلية يستدعي التهذيب الكامل والإصلاح الشامل، فالعادات الفاسدة والتقاليد الباطلة متجذرة في النفوس يلزمها التنبيه مرةً بعد مرة، ولو أتتهم الأوامر والنواهي دفعةً واحدة لزال معنى التربية، ومعنى التنبيه، ومعنى التدرج في إلزامهم بسائر التكاليف التعبدية والعملية والأخلاقية من أخفها إلى أثقلها لتكون أدعى للقبول بهذا التدرج والمطابقة لمقتضى الحال والمناسبة.
ومن هنا لزم وجود مثال حي وقدوة حسنة محملة هي ذاتها بتكاليف هذه الدعوة، ومزودة بقدرات خاصة تُهيئها لتبليغ الدعوة وإقناع الناس بها بتفهُّم وتعقُّل، وتزكيتهم بتطهير نفوسهم من خبائث الصفات، وتعليمهم كافة المعارف الجديدة التي يحتاجون إليها، وتزويدهم بوسائل جديدة للفهم والعمل واستخلاص الدروس والعبر، باختصار قادرة على توطين المنهجية الجديدة المتكاملة في حياتهم ومعارفهم.
لذلك كانت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من ناحية، وبذلك ثبُتت نبوته من ناحية أخرى، لأن شأن الصحابة بل وأهل الكتاب والمشركين أنهم كانوا لا يسألونه صلى الله عليه وسلم عن شيءٍ إلا أجابهم عنه، وهذا لا يكون إلا من نبي.
وعلى هذا الأساس يُعلم قدر السُّنة النبوية وأهميتها، لأنها كانت بمثابة الموضح والشارح والمرشد لتعاليم ومبادئ الدعوة الإسلامية الأساسية المُتمثلة في القرآن الكريم، ولولاها لما ثبُتت هذه التعاليم والمبادئ في النفوس والقلوب ولاستشكلت على العقول والأفهام، فالسُّنة كما قال ابن تيمية لا تخالف كتاب الله، بل توافقه وتُصدقه وتُفسره وتُبينه لمن قَصر فهمه عن فهم القرآن، فإن القرآن فيه دلالات خفية تخفى على كثير من الناس، وفيه مواضع ذكرت مجملة، تفسرها السُّنة وتُبينها.
من هنا أتت أهمية علم الحديث، وتشكَّل دوره في توطين المنهجية العلمية وتفعيلها بصورة عملية خاصة مميزة في الحضارة الإسلامية، وليس المقصود السُّنة كأحاديث ومرويات، إنما المقصود فنيات مصطلح الحديث، أي ما تعلق بالإجراءات العلمية المتبعة في الرواية، والجمع بين الروايات، والترجيح بينها ونقدها.
لقد ساهمت هذه الإجراءات في تأكيد في دور الحُجَّة في حسم الاجتهاد، وأهميتها الحقيقية تنبع من قابليتها للدحض والمصادقة، من أجل إثبات جدارتها في الدلالة على مضمونها، من خلال آليات محددة مثل: التلاقي بين الرواة أو تعاصرهم، وسلامة السند من الانقطاع، ودقتهم في أخذها عن بعضهم بما يحفظ الدليل نفسه من أي تبديل وتغيير، وخضوعهم جميعًا للفحص عبر الجرح والتعديل لإثبات عدالتهم التي هي شرط أساسي لقبول أخبارهم، ومقارنة طرقهم بغيرها من خلال المقارنة بين أحوال الرواة أنفسهم أولًا، لمعرفة أضبطهم وأوثقهم في حال الاختلاف، ثم المقارنة بين الطرق أنفسها وتتبع مخارجها وأطرافها وسبر متونها للتأكد من سلامتها من العلة القادحة.
وكل هذا تطلب جهدًا علميًا عظيمًا خارقًا للعادة، ومن أجله أُلفت بلا مبالغة آلاف الكتب في تواريخ الرواة، ومواليدهم، ووفياتهم، ورحلاتهم، وأسماء شيوخهم وتلاميذهم، ومتى وأين وكيف التقوا وتتلمذوا على بعضهم، والتغيرات التي طرأت على محفوظاتهم، ومقارنة مروياتهم، وهذا فيما يخص الرواة حتى يُمكن أن يُقال إن علم الحديث بفروعه المختلفة شَكل مادة خصبة الأساسي لتاريخ الأجيال الأولى من المسلمين.
وفي المقابل ألفوا مثلها وأكثر في الحديث، وترتيبه، وتهذيبه، وطرقه، وعلله، وشرح غريبه، وغيرها من الفنون التي يكاد يُخطئها العد ولا يضبطها الحساب، وبعبارة الأكاديمي الأمريكي دانييل براون Daniel W. Brown المختصرة: “طور المسلمون نظامًا دقيقًا ومعقدًا لنقل الحديث ودراسته وتقييمه” [1].
ثم يأتي دور أصول الفقه في إبراز عنصر الاستنباط في المنهجية الإسلامية، من خلال التأكيد على قيمة المصدرية، وبيان درجاتها وأنواعها وكيفية توظيفها، وحدود عمل كل نوع وعلاقته بالآخر، ثم علاقات النص نفسه المختلفة عبر عمليات التفكيك والتركيب والتحليل، والبحث في علاقة الألفاظ بالدلالات والسياقات بالمدلولات، والأهم من ذلك كله تأكيد قيمة الاجتهاد، بناء على أصول وأُسس وقواعد محددة، ترد المُتغير إلى الثابت، وتقوِّم اللاحق بالنظر إلى السابق.
هذه المنهجية بعناصرها الثلاثة: القيمة، البرهان، الاستنباط، ما يمكن أن نطلق عليه التقاليد العلمية في الثقافة الإسلامية؛ مثلت النموذج الإرشادي في مسيرة العلم في الحضارة الإسلامية، الذي طهر العقول وأنقذ البشرية من الوثنية والأساطير والخرافات، وهيأ الفِكر في القرون الأربعة الأولى من الهجرة لإحداث التطور الحضاري الذي انطلق في نحو ألف عام بعد ذلك.
فتوطين هذه المنهجية في الأُمة الإسلامية بصورة تراكمية عبر الأجيال، من خلال ممارسات البحث والتعلم في القرآن والحديث والأصول، ساهم بشكل كبير في تحديد السلوك العلمي لأفراد الجماعة العلمية في العالم الإسلامي، ونشأة الثورة العلمية في الطب والهندسة والرياضيات والفلك وغيره، عبر آليات النظر والاختبار والحُجَّة، فلا غرابة أن نجد أحد أكبر وأهم الباحثين في فلسفة العلوم عند المسلمين وهو رشدي راشد يُقرر أن الخوارزمي والذي لم يكشف عن مصادره في وضع علم الجبر صاغ علم الجبر من المنهجية العلمية عند الأصوليين واللغويين، وكذلك أرجعت يُمنى طريف الخولي أستاذ فلسفة العلوم توطين المنهجية العلمية عند المسلمين بشكل رئيس إلى فكرتي العلية في أصول الفقه، والجرح والتعديل في الحديث.
فالتآزر بين العلوم الاجتماعية والعملية في المنهجية العلمية لخدمة قضية التوحيد والاستخلاف بمضامينها الكلية التي تستقطب جميع أبعاد المعرفة والوجود الإنساني، أحد أهم أسباب الحضارة الإسلامية كما عُرفت من خلال العلاقات الأربعة للتفاعل مع العالم: رؤيته، وفهمه، وتقييمه، وتغييره، والتي تُمثل زوايا الاختلالات المنهجية التي تُصيب أي حضارة.
وهذا الكتاب ما هو إلا مساهمة في إبراز المنهجية الإسلامية في مصدر المعرفة الإسلامية الثاني، بينتُ فيه كيف نُقلت السُّنة وحُفظت جُملةً وتفصيلًا، بالأدلة المادية التاريخية والعقلية، فضلًا عن الشرعية النقلية، وجعلتُ له مدخلًا لازمًا في بيان تعظيم الصحابة والسلف لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ تعظيم السُّنة من تعظيمه، والإيمان بحفظها وثبوتها في الجملة أدنى مراتب إجلاله وتوقيره.
وقسمتُ الكتاب إلى أربعة أجزاء:
الأول: مداخل أولية حول عظمة النبي صلي الله عليه وسلم، والأمر الديني بحبه وطاعته وتعظيمه وتعزيره وتوقيره وتفضيله سائر الأنبياء، ومدى تعظيم الصحابة له صلى الله عليه وسلم مع ذكر ما يكفي من الأمثلة والشواهد على ذلك، ثم الكشف عن جوانب غير عادية من تعظيم حملة الحديث من التابعين والسلف له صلى الله عليه وسلم، انطلاقًا من فكرة أن تعظيم السُّنة من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وأن علامة المحبة الاتباع، ثم عرضتُ لمفهوم السُّنة: الصيغ والحدود قبل الانتقال للسببية في حفظها، ببيان منزلتها في الاسلام وأهميتها لصحة العبادة وضرورتها لفهم القرآن الكريم ليتوج كل ذلك بالتعهد الإلهي في حفظ السُّنة.
الثاني: عن تاريخية السُّنة ومنهجية البناء، وهو محور عمل الكتاب والصلة اللازمة للوصل بين جزئيه الأول والثاني، ويدور حول كيف حُفظت السُّنة، والتضحيات العظيمة التي قدمها المحدِّثون من أجل ذلك، من خلال مراحل عملية وزمنية؛ الحفظ، والتدوين، والرحلة، والتدقيق، عبر عشرات الشواهد العجيبة والفريدة والنادرة في الحفظ المتقن للأعداد الهائلة من الأحاديث بأسانيدها ومتونها والذي عبرتُ عنه بـ “الذات والملكة والإمكانيات” حيث ارتباط قيمة الحفظ بمكانة الدين وصيرورة الحفظ ميدانًا للمنافسة العلمية والتقاليد العلمية الموروثة وغير ذلك من العوامل، ثم انتقلتُ لتفرق حملة الحديث في البلاد وهو ما عبرتُ عنه بـ “حركة العلم”، وكان تفرقًا غير منظم في زمنيته وحركته فيما بدا لكنه كان منظمًا في ترتيبه الإلهي، ثم عرضتُ للتصنيف في الحديث، الذي كان لازمًا لظهور دولة الإسلام ونظام الشريعة، والذي بدأت بواكيره منذ عهد النبوة قبل أن يشيع في القرنين الثاني والثالث ويصير فذًا فريدًا مستوعبًا لآلاف الكتب والمصنفات المبتكرة في طريقتها وأنواعها، والتحري الدقيق عند نقل الأخبار ووضع المعايير الصارمة في ذلك، ولأجل كل ذلك وُسم أهل الحديث بأهل السُّنة.
الثالث: وهو الأهم وبه خُتم الكتاب حول منهجية علم الحديث وتوطين هذه المنهجية إجابةً عن سؤال هل يمكن تأسيس تقاليد علمية حديثة من منطلقات العلوم الشرعية، وتحديدًا “علم الحديث”؟! فركزت في البداية على علاقة علم الحديث بباقي العلوم؛ الشرعية في بنائها، الاجتماعية في طبيعتها، ثم تناولت بعض منهجيات علم الحديث مثل: تقنيات المعارضة والترجيح، والسبر والتقسيم: تحمل الشهادة نموذجًا، ثم تعددية القيم، فنقد المصادر: علم العلل والنقد الحديثي نموذجًا، ثم فصلت أكثر في موضوع الشك الحديثي المنهجي وأهم الاختلافات بينه وبين الشك الديكارتي أو الأكاديمي، والصلاحية للاعتبار، وأخيرًا الأخلاق كمرتكز للنشاط العلمي.
وتفاديت ما أمكن المدخل المقاصدي والأخلاقي العام الذي يتم تناوله دومًا عند الحديث عن المنهجية أو بالأصح تبيئة المنهج إسلاميًا وتوطين المنهجية الإسلامية [2]، فهي وإن كانت ذات قيمة ومدخل ضروري لا غنى عنه، إلا أن توطين المنهجية الحقيقي والفعلي لن يتم إلا بتجاوز هذه المداخل لما بعدها، بالاشتباك أكثر بالنظريات والقواعد ومحاولات البناء التي تحمل للهوية الإسلامية صيرورتها، والتي تَعبر فكرة أسلمة العلوم وتطرحها جانبًا، والتي يشملها المعنى الواسع غير المتناهي لقوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [سورة المائدة: الآية ٤٨] [3]، فهذا دليل على اختصاص كل أمة بنظام يناسب خصائصها، وأن تميز الأُمة رهن معرفتها ما اختصت به وتمسكها به.
وهو ما حاولتُ أن أسبر غوره في الفصل الأخير من هذا الكتاب قدر ما أمكن، وأُقر بأنها محاولة تحتاج لتطوير كبير، فكان المهم في نظري هو إثبات أن لدينا أصول للمنهجية كامنة في العلوم الشرعية، هذه المنهجية التي لا هي تجريبية ولا استقرائية ولا وصفية ولا هي أي منهجية أخرى حداثية الوصف غربية النشأة – فإن الغاية الكبرى من جرنا لهذه التصنيفات هو بناء هويتنا داخلها أو بالنظر إليها من موضع رد الفعل على أحسن تقدير – إنما شيءٌ آخر مستقل، يلزمنا البحث فيه وعنه، وسبر أغوار جهود أكثر من ألف سنة واستنطاقها بلا تحيزات ومصادرات مسبقة، يضع في الاعتبار محورية النص، والاجتهاد في ضوء النص، ومفاهيم الأمر والنهي والحق والواجب والمسئولية والجزاء، وأفكار الطاعة والعلية والقوادح وغير ذلك من مفاهيم وأفكار مثلت ديناميات محركة للبحث والدرس الشرعي المحض والشرعي الاجتماعي، والتي تم التنكر لها في المناهج الحديثة أو تجاهلها على أحسن تقدير؛ تحت وطأة تحديث العلم والمنهج وتأطيرهما بأطر العلمانية وتقييدهما بقيودها وقوانينها أخذًا من محورية العلم الطبيعي ومركزية الطبيعة ومركزية الإنسان!
وعنيتُ بتوطين المنهجية هنا على وجه الخصوص منهجية علم الحديث باعتباره موضوع الكتاب، ليتم تطويرها بعد ذلك من خلال آليات محدثة عبر استنطاق مكونات التراث الإسلامي، ففيما بدا لي كان علم الحديث علميًا منهجيًا بامتياز، إلى جانب علم أصول الفقه، يُمكن أن يناط بهما تأسيس الفاعلية المنهجية التي هي موضوع توطين المنهجية في الفصل الأخير من هذا الكتاب.
ولم أهتم كثيرًا بذكر الأمثلة والتطبيقات والمسائل الحديثية في المفاهيم والمبادئ المذكورة في الكتاب حتى لا يطول الكتاب ولا يكون مادة مكررة لما في كتب علوم مصطلح الحديث، إنما كان غرضي بالأساس تناولها تناولًا تاريخيًا وبيان الفلسفة التي بني عليها علم الحديث وإيضاح منطقه والمنهجية العلمية التي تضمنها وهو ما آمل أن يكون الجديد الذي يقدمه الكتاب.
كما حرصت في معرض هذا التناول والبيان والإيضاح الرد على مطاعن المستشرقين والحداثيين ومنكري السُّنة في منهجية علوم الحديث، وحاولت في هوامش الكتاب ذكر أبرز هذه المطاعن منسوبة لأهم أصحابها بقصد إيضاح تناقضها وعدم منطقها، فبضدها تتميز الأشياء.
والله أسأل أن يوفقني لإتمام هذا العمل على الوجه الذي يحبه ويرضاه.
ــــــــــ
[1] Daniel W. Brown; The Wiley Blackwell Concise Companion to the Hadith, First Edition, 2020 John Wiley & Sons Ltd., p2.
[2] من ذلك على سبيل المثال:
يمنى طريف الخولي: نحو منهجية علمية إسلامية: توطين العلم في ثقافتنا، المؤسسة العربية للفكر والإبداع (بيروت)، الطبعة الأولى ٢٠١٧.
رشدي راشد: “الوطن العربي وتوطين العلم”، مركز دراسات الوحدة العربية (بيروت)، مجلة المستقبل العربي، السنة 31، العدد 354، أغسطس 2008.
[3] على أنه لا يُفهم هنا أن لفظة “منهاجًا” بمعنى المنهج العلمي المعروف، إنما معناها أوسع من ذلك بكثير، وهو الطريق الواضح المستقيم.