وقت القراءة 26 دقيقة
702 عدد المشاهدات

آخر تحديث: ١٥ أغسطس ٢٠٢٢م

تمهيد تاريخي:

كانت حركة التقنين المتزايدة بالإضافة إلى الامتيازات الأجنبية من أهم العوامل التي أدت إلى اختلال بنية علاقة الدولة بالقانون القائم، ولا نكاد نخطئ إذا قلنا إن الإصلاحات القانونية في أوروبا كانت أيضًا من الأسباب – غير المباشرة – لتسريع وتيرة انهيار النظام القانوني في العالم الإسلامي، فتحْتَ تأثير الرغبة في الإصلاح ومحاكاة النموذج الغربي الذي بدا مستقرًا حيال مسائل الأقليات وسيادة القانون وغيرها، طولب الخلفاء والولاة بإجراء إصلاحات شبيهة، ونجم عن ذلك ظهور ما يُعرف بـ “التنظيمات” و “المحاكم النظامية” و “القانون الأساسي”.

ارتبط اصطلاح “التنظيمات” بعهد السلطان عبد المجيد الأول (١٨٢٣: ١٨٦١م)، وقد أُطلق على عمليات تحديث الدولة وتمدنها على النسق الغربي، وعُرفت بـ “التنظيمات” لأنها كانت تنظم علاقة الدولة بالمجتمع على أساس القانون، وعُرفت كذلك بـ “الإصلاحات” لأن الدولة تبنتها بُغية إصلاح الوضع الفوضوي الذي آلت إليه أمور الدولة، إذ ظن عبد المجيد ورجاله أن العلة في القوانين! وهي كما قال القاضي محمد سليمان عنّارة (- : 1936م) [1]: “غلطة تاريخية من الغلطات التي أودت بالدولة والملة، ولا نظير لها في عثرات التاريخ” [2].

وكان مرسوم “التنظيمات” الأول هو “خط كولخانة” الصادر سنة ١٨٣٩م [3]، وتبع ذلك مرسوم “الخط الهمايوني” سنة ١٨٥٦م، وكان المنطلق الأساسي لهذين المرسومين: إدخال قيم الحضارة الأوربية الناشئة – وبالأخص الثورة الفرنسية – إلى الإمبراطورية العثمانية.

وكان من بين أهم ما أفرزته هذه المراسيم هو إنشاء محاكم نظامية متعددة، مثل محاكم الصلح، والجنايات، والمحاكم البدائية (الابتدائية)، والاستئنافية، والتمييز (النقض)، والطائفية، إلى جانب المجالس الأجنبية أو القنصلية التي تتولاها سفارات الدول الأجنبية على رعاياها في الدولة العثمانية بموجب الامتيازات التي حصلت عليها.

وقبلها بقليل كان السلطان محمود الثاني قد أنشأ عام ١٨٣٨م ما يُعرف بالمجلس الأعلى للأحكام العدلية، وكان يُشرف على جميع أنشطة المحاكم، وهو المؤسسة التي مهدت بعد ذلك إلى ظهور المحاكم النظامية في السلطنة العثمانية بعدها بسنوات قليلة.

وبالطبع انتزعت هذه المحاكم والمجالس اختصاصاتها من المحاكم الشرعية والقضاء الشرعي، والتزمت في نُظمها بالمعايير والترتيبات الأوروبية التي تنافرت مع الذاتية الثقافية للمجتمع، بالإضافة لانتزاع السلطة القانونية من العلماء، وسلب مؤلفاتهم كل قوة قانونية كانت قد حصلت عليها في الماضي، ضمن منهجية عامة لتقزيم المجتمع لصالح الدولة وحصر أدوراه الأساسية، فتم إقصاء النُخب المجتمعية التي كانت موجودة من قبل واحتفظت بنفوذها فترة طويلة لحساب نُخب أخرى جديدة مختلفة كل الاختلاف عن نُخب الأُمة الأصلية.

وتحت تأثير الوثيقتين المشار إليهما أيضًا، صدرت بعض التقنينات متأثرةً بالقوانين الأوروبية، أهمها: قانون الجزاء (العقوبات) سنة ١٨٤٠م ثم سنة ١٨٥١م، وقانون الأراضي سنة ١٨٥٨م، وقانون أصول المحاكمات التجارية سنة ١٨٦١م، وقانون التجارة البحرية سنة ١٨٦٣م، وقانون الصحافة سنة ١٩٦٥م.

وكان أكثر هذه القوانين يُقتبس من القوانين الأوروبية بطريقة فوضوية اعتباطية دون دراسة لفلسفتها وتبعاتها، ويُشير “سهيل صابان” إلى هذا الآمر من خلال قانون الأراضي الصادر سنة ١٨٥٨م، حيث أدى تطبيقه إلى إيقاع أضرار جسيمة بالزراعة في الدولة العثمانية، فقبل إصدار هذا القانون كانت ملكية الأراضي إما أميرية تعود للدولة، فيزرعها المزارعون ويدفعون عنها الخراج مع بقاء حق الانتفاع بالأرض متوارثًا داخل الأسرة، وإما ملكية خاصة للقرية أو القبيلة، وتوزّع بالتساوي داخل القرية أو بين أفراد القبيلة من خلال فكرة “إحياء الموات” الشرعية، ويُعد جميع المزارعين متساوين في حقوقهم فيها، بما فيهم رئيس القبيلة، ولكن تطبيق القانون المذكور، ونتيجة للفوضى والفساد الإداري الذي وصل ذروته في عهد التنظيمات، تمكن الأعيان والأغنياء من تسجيل الأراضي بأسمائهم.

وهكذا تحول المزارعون فجأة من ملاك للأراضي ومنتفعين بها، إلى أُجراء عند رؤساء القرى والقبائل، الذين تحولوا بدورهم إلى إقطاعيين، ونتيجة هذه العلاقة الاستغلالية البشعة هجر كثير من الفلاحين قُراهم وأراضيهم، وإلى جانب ذلك شاعت في هذه الفترة ضريبة “الالتزام” التي كانت تُؤجر للأغنياء والمتنفذين من الدولة، ولهم بدورهم فرضها على المزارعين حسب ما شاءوا، فكانوا يفرضون عليهم أقصى حد من الضرائب ويستغلونهم أسوأ استغلال [4].

ونستطيع أن نُلخص سمات النظام القانوني والتنظيم القضائي الذي آلت إليه الأمور في الدولة العثمانية فيما يلي:

١. فصل السُّلطة الإدارية عن السُّلطة القضائية، وتقييد السُّلطة الإدارية في محاسبة وتأديب وعزل القضاة.

٢. تحديد نطاقات اختصاصات القضاء وحصرها في المسائل القانونية، فتم سلب الاختصاصات الشرعية والرقابية من القضاء.

٣. عدم الترابط القُطري في النظام القانوني والتنظيم القضائي، وحدوث الخلاف الشديد في تنظيم القضاء في البلاد التابعة للإمبراطورية العثمانية.

٤. وجود فوضى في إصدار الأحكام وفي الاختصاص القضائي.

٥. تعدد درجات التقاضي بشكل نظامي، واتساع دائرة الطعن في الأحكام.

٦. بداية تغلغل الشكليات والبيروقراطية في التنظيم القضائي.

٧. الانحسار النسبي في الإنتاج العلمي [5] للقضاة مقارنةً بأقرانهم في العهود السابقة، وقد زاد هذا الانحسار مع مرور الوقت، وتحدد الإنتاج العلمي لهم بالمجال القانوني والقانوني فحسب.

السلطان عبد الحميد: الإصلاح في اتجاه مقاومة الأوربة:

جاء السلطان عبد الحميد الثاني (١٨٤٢: ١٩١٨م) إلى الخلافة سنة ١٨٧٦م، وكان الإبقاء على النظام القانوني الشرعي يستلزم عددًا من الإصلاحات القانونية العنيفة، التي وإن بدت أشد تعقيدًا لكنها كانت أحكم منطقًا وأرجى في النتائج، في سبيل الحفاظ على تماسك الدولة وهويتها ومقاومة حركات التغريب والقوى الاستعمارية.

والحقيقة أن جزءًا كبيرًا من هذه الإصلاحات وملابساتها بقي مجهولًا حتى بين المتخصصين في تاريخ القانون أنفسهم، لضعف التوثيق والتأريخ العثماني في المجال القانوني من جهة، وضعف البحث والكتابة المعاصرة فيه من جهة أخرى.

أولًا: تعليق العمل بالقانون الأساسي (الدستور العثماني):

رغم أن السلطان عبد الحميد الثاني هو الذي قام بإعلان القانون الأساسي (الدستور) المسمى بـ “المشروطية الأولى” سنة ١٨٧٦م إلا أن الحقيقة أنه لم يكن إلا موقعًا عليه معلنًا عنه في السنة الأولى من حُكمه بل بعد أربعة أشهر فقط من توليه السلطنة، والفضل في ترتيبه وإصداره إنما يرجع إلى الصدر الأعظم مدحت باشا (١٨٢٢: ١٨٨٤م) الذي كان قد سافر كثيرًا إلى أوروبا واطلع على أساليبها في الحكم والإدارة وحاول الاحتذاء بها، فخرج الدستور محاكيًا للدساتير الغربية بشكل كبير، ولعل حركات العصيان التي شاعت في الدولة هي التي دفعت السلطان عبد الحميد إلى عدم الامتناع عن إصدار الدستور.

ومع إقرار الدستور تم الإعلان عن تشكيل هيئة تشريعية وهي المجلس العمومي (البرلمان)، ويُؤلف من هيئتين: الأولى يُعينها السلطان، والثانية تُعين بالانتخاب وتُعرف بـ “هيئة المبعوثان“، وقد وسّع الدستور في سُلطاتها واختصاصاتها، وكان عدد أعضائها من اليهود والنصارى يوازي أكثر من ثُلث الأعضاء بما لا يعكس نسب السكان الحقيقية في الدولة.

دبت معارضات “هيئة المبعوثان” لتوصيات واقتراحات عبد الحميد تقع شيئًا فشيئًا، معارضة تلو أخرى، حتى بلغت حدتها في أزمة مطالب روسية انتهت بوقوع الحرب بين روسيا والدولة العثمانية وسيطرت الأولى على بعض البلاد الواقعة تحت سلطان الأخيرة حتى كادت تدخل إسطنبول ذاتها، مما دعا عبد الحميد إلى حل “هيئة المبعوثان”، وتعليق العمل بالدستور، سنة ١٨٧٨م أي بعد عامين فقط من إقرارهما.

ويرى عدد من المؤرخين أن السبب الرئيس الذي دعا عبد الحميد لإعلان حل “المبعوثان” وإيقاف العمل بالدستور، هو تسببهما في توريطه سياسيًّا وعسكريًّا [6]، الأمر الذي لم يكن في استطاعته أو استطاعة الدولة تحمله في ظل سخط شعبي عام وفراغ خزانة الدولة وكثرة المؤامرات التي أحاطت بها.

فضلًا عن أن التنظيمات الجديدة ساهمت بشكل كبير تدريجيًا في إعادة تشكيل النخب المجتمعية في العاصمة العثمانية والولايات القريبة، لاسيما مع اتساع سلطة الحكومة والبرلمان الذين سيطر عليهما مع الوقت رجال الاتحاد والترقي في مواجهة النخب الدينية ونخب العلماء التي كان لها القوة الاجتماعية الأكبر قبل ذلك، وهو ما حاول عبد الحميد مقاومته وإعادته إلى ما كان عليه من خلال تقوية سلطة العلماء والتعليم الديني.

والحقيقة أن عبد الحميد لم يُؤمن يومًا بأن “التنظيمات” وإجراءاتها وآلياتها يُمكن أن تخلق هوية مشتركة بين مواطني الإمبراطورية العثمانية، بل كان اعتقاده الراسخ أن الإسلام هو الأيدولوجية الوحيدة القادرة على توحيد شعوب الإمبراطورية شاسعة الامتداد، وجمعها وصهرها في بوتقة واحدة.

وما دُمنا بصدد الحديث عن النظام القانوني وتأثيراته القضائية في عهد السلطان عبد الحميد، فمن الجدير بالذكر أن إيقاف العمل بالدستور ظل حبرًا على الورق بشأن هذا النظام، فكل بند من البنود العشرة التي تناولت فكرة سيادة القانون، لم تَمسها دولة عبد الحميد، فلم يكن من المقرر عزل القضاة من منصبه ما لم توجه لهم تهم جنائية، وكانت المحاكمات علنية باستثناء بعض الحالات الخاصة التي نص عليها القانون، ولم يُسمح للمحاكم بالامتناع عن نظر القضايا التي تدخل في ولايتها القضائية، بما في ذلك القضايا التي تضمنت دعوى قضائية بين الأفراد والدولة، وظل المبدأ العام الذي يحكم العلاقة بين السلطتين التنفيذية والقضائية هو الفصل، وأن المحاكم مستقلة تمامًا، وكان من المحظور بشكل حاسم التدخل في قراراتها – سواء كانت شرعية أو نظامية، ولم يُسمح للقضاة بالقيام بأعمال غير قضائية [7].

ثانيًا: إعادة ترتيب الكِيانات القضائية:

كان “قاضي العسكر” بمنزلة قاضي القضاة أو رئيس الهيئة القضائية في الدولة العثمانية [8]، ولم يكن عسكريًّا أو ما شابه، إنما سُمي بذلك لطبيعة الدولة الحربية وتعاهدها وظيفة الجهاد، وكان السلطان مراد الأول (١٣٢٦: ١٣٨٩م) هو أول من أحدث منصبه بهذا الوصف [9].

ولهذه الطبيعة لقاضي العسكر التي استمدها من طبيعة الدولة؛ حظي بمكانة مرموقة في الدولة ونفوذ كبير لم يظفر به قاضي القضاة ولا أي قاضٍ من قبل، وكان من اختصاصه تعيين القضاة والإشراف على محاكم السلطنة، بالإضافة لأدوار سياسية مهمة تطلبتها مكانته بين رجالات الدولة، وكان يُحضر ويُشارك في ديوان السلطان العثماني وهو ما لم يكن لشيخ الإسلام نفسه؛ أكبر منصب ديني في الدولة، وكان يُشرف على المساجد ومؤسسات التعليم والطوائف الحرفية والأوقاف، ويُراقب هذه الجهات ويُعين موظفيها. 

وقد أدى التوسع في سُلطات قاضي العسكر في أزمنة مختلفة قبل عهد السلطان عبد الحميد إلى فساده وانحرافه بصورة لم تكن في الحسبان، ونستطيع أن نعد ذلك بدايات تجريد العلماء من قوتهم القانونية بعد أن سُلبت مؤلفاتهم هذه القوة من قبل مع اتساع حركة التقنين.

حاول السُّلطان عبد الحميد إدخال صلاحيات قاضي العسكر ضمن كيان باب المشيخة الإسلامية بعد أن كان يتمتع بصلاحيات كبيرة مطلقة أهمها توجيه الأوامر باسم السُّلطان إلى جانب إصدار الأحكام الشرعية، حيث كان يأتي مقامه بعد الوزير بروتوكوليًّا.

ومن أهم نتائج ذلك:

١. لم يعد من اختصاص قاضي العسكر تعيين القضاة، وإنما مجرد ترشيحهم لشيخ الإسلام وهو يُقرر تعيينهم من عدمه، مما أعاد لسُّلطة العلماء اعتبارها داخل المنظومة القضائية زمنًا يسيرًا في أواخر عهد الدولة العثمانية، بعد أن كانت قد أوشكت شرعيتها على الضمور في نظر القوى المجتمعية المختلفة ومراكز القوى الأجنبية، وقبل أن تهدر تمامًا مع انهيار الدولة.

٢. مد المحاكم – النظامية والشرعية على حد سواء – بقضاة لهم ما لهم من المرجعية الشرعية العلمية، وهو من أهم الأسباب التي أدت إلى إعادة تماسك الهيئة القضائية الشرعية وعدم التعجيل بانهيارها لحساب المحاكم النظامية.

فلا غرابة أن نجد دراسة غربية هي الأهم على الإطلاق حول التاريخ القضائي العثماني خلال فترة “التنظيمات” المتأخرة وعهد السلطان عبد الحميد – وهي الدراسة التي أجراها إيفي روبين Avi Rubin ونُشرت سنة ٢٠١١م تحت عنوان: المحاكم العثمانية النظامية: القانون والتحديث Ottoman Nizamiye Courts; Law and Modernity [10] – تنتهي إلى أنه حتى سنة ١٩٠٨م – أي نهاية عصر عبد الحميد – كان أغلبية القضاة الذين يترأسون المحاكم النظامية ينتمون إلى طبقة العلماء ويخضعون لسُّلطة شيخ الإسلام [11].

ليس ذلك بحسب، بل يُؤكد روبين أنه وإبان عهد عبد الحميد كان يتم التشديد على التحقق من مؤهلات من يتولى رئاسة المحاكم النظامية، حتى أنه في عامي ١٨٧٩ و١٨٩٤م تم إخضاع القضاة لاختبارات لقياس مدى معرفتهم بـ (مجلة الأحكام العدلية) والفقه الإسلامي ولحل بعض المشاكل المتعلقة بالسلوك ومخالفات التعيينات وسوء استخدام السُّلطة وحالات الفساد والرشوة [12]، وهذا من أندر ما حدث في التاريخ القضائي بصفة عامة.

ويُضيف Rubin أنه لا يوجد من منظور مقارن ما يُشير إلى أن الفساد بين القضاة العثمانيين قد وصل بحال من الأحوال إلى مستوى أعلى من أي نظام قضائي معاصر [13].

والحقيقة أن عبد الحميد لم يكن ضد التوسع في التنظيم الهيكلي والتوسع التحديثي، وخلافه مع سابقيه إنما كان في ضرورة اقتران هذا التوسع الهيكلي بالمرجعية الغربية.

ففي حين رأى رجال التنظيمات – كعالي ورشيد ومدحت باشا وغيرهم – أنه إذا كانت النظم المؤسسية الجديدة مقتبسة من أوروبا – لاسيما فرنسا التي كانت على قمة هرم التنظيم القانوني آنذاك – فلا بُد من اقتباس القوانين الفرنسية لإدارة هذه المؤسسات [14].

أما عبد الحميد فكان يرى أن ذلك ليس بلازم، وفي شأن ذلك يقول: “لقد حكمت ثلاثة وثلاثين عامًا، وكنت أثناء مدة سلطتي مع حرية الفرد وكرامته، ولكن لم أستسغ في أي يوم من الأيام الحرية التي لا ضابط لها.. وأنا أُقدر المَدَنية الأوروبية.. ولم أستحسن تقليد الآخرين تقليدًا أعمى، فالمهارة تكون في تكييف بيئتنا وتقاليدنا، لذا فإنني لم أكن أُمانع من إدخال الجوانب الإيجابية لهذه المَدَنية إلى قَصري” [15].

وهذا ما يفُسر تأسيس بعض الكِيانات القانونية والقضائية في عهد عبد الحميد مثل: مجلس شورى الدولة سنة ١٨٨٦م الذي اختص بالفصل في المنازعات الإدارية، وهو مأخوذ في هيكله وتنظيمه من النظام الفرنسي، وتشكيل بعض المجالس القضائية التي تقوم بأدوار شبيهة بأدوار اللجان القضائية الخاصة في بعض الوزارات حاليًا، وكانت منبثقة عن مجالس إدارات الولايات التي أسسها مدحت باشا سنة ١٨٥١م، وكانت تقوم بوظائف إدارية تطورت لقضائية بعد تأسيس محكمة خاصة بها في سنة ١٨٩١م والتي سُميت بـ “محكمة مجلس إدارة الولاية” ولحقتها تعديلات عدة في التشكيل والاختصاص فيما بعد، لكن بشكل عام خضعت المجالس القائمة والمُنشأة لهيمنة المؤسسات الدينية ولو شكليًا أو رسميًا، وهو ما زاد من احتقان الحداثيون والعلمانيون وسرع وتيرة إسقاط عبد الحميد.

وكذلك تم تأسيس أول نقابة للمحامين سنة ١٨٧٦م، وكانت مكونة من ٦٢ محاميًا، وكانت الدولة تدعم حضورهم عن الخصوم (مجانًا) أمام المحاكم الشرعية خلافًا للمحاكم النظامية، وهو ما سمح بتفضيل الناس اللجوء للمحاكم الشرعية.

وتم تأسيس مدرسة الحقوق التي عُرفت بـ “كلية الحقوق السلطانية” في الأستانة سنة ١٨٧٨م، والتي كانت تعتمد في مناهجها على الفقه وعلوم الشريعة، ولم تعني كثيرًا بالمناهج القانونية الأوروبية أو ذات الصياغة العلمانية المتميزة.

وبشكل عام يُمكننا القول إن دولة عبد الحميد حاولت الحفاظ على المركزية الإسلامية للمنظومة القضائية دون اعتبار كبير لبنيتها الهيكلية، الأمر الذي أوجد حالة من المقاومة للتحديث القضائي على النسق الغربي، أو بعبارة أدق للتغيرات الجذرية في القوانين والأنظمة القضائية – كما حدث في بعض البلاد العربية التي خرجت من السلطة العثمانية كمصر التي انهارت فيها المنظومة القضائية الشرعية تمامًا مبكرًا – ولا أقصد بالمركزية هنا القوانين والأنظمة فحسب، بل أعني بصورة رئيسية الفاعلين في المنظومة.

لكن لم تكن التركة القانونية التي ورثها السلطان عبد الحميد أحسن حالًا مما ورثه من مشكلات مالية وعسكرية وسياسية، حيث وقعت الدولة تحت تأثير الغرب، وأدى النفوذ الأوروبي فيها إلى اقتباس عدد من القوانين الغربية لأول مرة في التاريخ الإسلامي، الأمر الذي أدى إلى ازدواجية في المرجعية.

وكشأن المحاولات الإصلاحية لكِيانات الدولة القضائية في العهد الحُميدي، جرت عدة محاولات إصلاحية في القوانين والأنظمة، لعل أهمها “مجلة الأحكام العدلية“.

وقد يقول قائل إن المجلة بدأت في الصدور سنة ١٨٦٩م أي قبل تولي عبد الحميد السلطنة، وهذا حق، لكنها لم تدخل حيز التنفيذ في صورتها النهائية إلا بعد توليه زمام الأمور سنة ١٨٧٦م، بموجب الإرادة السنية السلطانية في ٢٦ شعبان ١٢٩٣م [16] بلزوم العمل بها وتطبيق أحكامها في محاكم الدولة، فأصبحت منذ هذا التاريخ قانونًا مدنيًّا عامًا منتخبًا من الأحكام الفقهية، فما وجد فيه لا يعول على ما يُخالفه في أي قانون أو كتاب أو اجتهاد لاقترانه بالأمر السُّلطاني.

ورغم أنها كانت تقترب في هيكلها من المدونات الأوروبية من حيث الترتيب والترقيم وتبسيط العبارة وإيجازها وصياغتها القانونية الملزمة دون استفاضة في الشرح والتسبيب، إلا أن مرجعيتها كانت للشريعة.

جُمعت المجلة على هيئة مواد وبنود ضمت 1851 مادة قانونية تعريفية وشرعية على مذهب أبي حنيفة [17] في ستة عشر كتابًا هي: البيوع، الإيجارات، الكفالة، الحوالة، الرهن، الأمانات، الهبة، الغصب والإتلاف، الحجر والإكراه والشفعة، أنواع الشركات، الوكالة، الصلح والإبراء، الإقرار، الدعوى، البينات والتحليف، القضاء.

ودخلت المجلة المؤسسات التعليمية ذات الطابع الحقوقي، وأصبحت جزءًا من المقررات القانونية الأكاديمية التي يتم تدريسها، وليس ذلك فحسب، بل اُختبرت بها قدرات القضاة العلمية ومعرفتهم بالفقه والقضاء.

وتعاهدها الفقهاء والقضاة في أقطار الدولة العثمانية بالشروح، وكان من أهمها:

١. درر الحكام شرح مجلة الأحكام: وهو أهم شروح المجلة وأوفاها، لعلي حيدر (ت ١٣٥٣هـ) – وزير العدلية في الدولة العثمانية، والأستاذ بكلية الحقوق في الأستانة، ورئيس محكمة التمييز (النقض)، وأمين الفُتيا – وكان من أفذاذ زمانه وأعلامهم [18].

٢. جامع الأدلة على مواد المجلة: لنجيب هواويني – وكيل دعاوى منحته وزارة المعارف العمومية امتياز تنسيق المجلة وطبعها – وهو ليس بشرح بالمعنى المتعارف عليه، إنما هو توضيح لمصطلحات مواد المجلة من خلال الإحالة للمواد التي تشرح هذه المصطلحات وتوضحها وتبين الأحكام الأُخرى المتعلقة بها في المجلة، فهو شرح لمواد المجلة من خلال مواد المجلة، وقد طبعت هذه الإحالات مع المجلة ذاتها.

٣. شرح مجلة الأحكام العدلية: لمحمد خالد الأتاسي مفتي حمص (1837: 1908م)، ألفه بالعربية ووافته المنية قبل أن يُكمله، فأكمله بعده ابنه الشيخ طاهر الأتاسي مفتي حمص من بعده، ويتميز هذا الشرح بذكر أقوال فقهاء المذاهب الأُخرىلاسيَّما الشافعية مع بيان أدلتهم.

٤. شرح المجلة: لسليم رستم الباز اللبناني.

٥. مرآة المجلة: ليوسف آصاف.

٦. مرآة مجلة الأحكام العدلية: لمفتي قيصري مسعود أفندي.

ويُنسب لأحمد جودت باشا ناظر ديوان الأحكام العدلية (1822: 1895م) شرح للمجلة، لكن لم يثبت بشكل قاطع أن له شرحًا لها.

ومن الذين شرحوا المجلة أيضًا: عاطف بك، ضياء الدين، رشيد باشا، عمر حلمي، عبد الستار أفندي، وشروح أخرى ربت على المائة منها المطبوع ومنها المخطوط ومنها المفقود، ومعظم المطبوع منها أُلف باللغة التركية وتُرجم إلى العربية فيما بعد.

كانت “مجلة الأحكام العدلية” وشروحها أمارة على أوج الازدهار والحضارة التي بلغتها الدولة العثمانية، وقد ظلت بمنزلة قانون للتقاضي فيها، حتى أُقصيت مع انهيار الدولة، واستعيض عنها بالقانون الوضعي التركي والمستمد من القانون المدني السويسري سنة ١٩٢٦م، لكنها ظلت مطبقة في بعض الولايات العثمانية التي دخلتها إلى ما بعد ذلك [19] بفضل تماسكها وفاعليتها، باستثناء مصر التي لم تطبق فيها يومًا، إضافةً إلى الجزيرة العربية التي لم تكن تابعة للدولة العثمانية أنذاك.

ويُلخص القاضي عبد العزيز القاسم الدور المؤثر لمجلة الأحكام العدلية في حماية مرجعية الشريعة مُبينًا آثارها في النظام القانوني العثماني ومن بعده النظام القانوني المعاصر، فيما يلي:

١. تقديم بديل شرعي أدى إلى ضمان مرجعية الشريعة في النظام القانوني العثماني والبلاد التابعة له مُدة طويلة في وجه التغريب، كما أسهمت في حماية عدد من البلدان من هجمات التغريب القانوني نوعًا ما حيث ورثت التشريعات العربية مكان المجلة بعد عودة روح الاستقلال والعودة للشريعة كما في الأردن وسوريا والعراق والإمارات، وإن كانت العودة في مراحلها الأولية.

٢. إقامة الصلة الوثيقة بين المحاكم الحديثة والفقه الشرعي في المسائل المسكوت عنها في القوانين الحديثة وهي مسائل واسعة.

٣. إعادة تدوين مسائل الفقه الإسلامي المتناثرة في مراجع الفقه الحنفي في مرجع واحد سهل المأخذ، منظم وفق الهيكل المعتاد في الدراسات القانونية الحديثة، مما أقام الصلة بين خبراء القانون والفقه الحنفي.

٤. توفير لبنة أساسية لإقامة مشروعات القوانين المدنية في الدول الإسلامية بعد انفراج ضغوط الاستعمار – وإن لم تبلغ تلك القوانين مستوى التحرر المطلوب – وكان للمجلة أثر ملموس في التعبئة المعنوية للأمة في مراحل الانبهار بالغرب الغازي.

٥. تخليص الفقهاء من الجمود المذهبي الذي كاد أن يُؤدي إلى إحلال القوانين الغربية إحلالًا شاملًا، وخاصة مع تضييق الفقه الحنفي في أبواب المعاملات والشروط بوجه خاص، فتقرير وضع المجلة أظهر صعوبة مواجهة التقليد المذهبي الذي كاد يعصف بمشروع المجلة كله، ويبين التقرير أمثلة على المسائل المذهبية التي اختيرت في المجلة مما قرره الفقهاء مما يخالف المذهب الحنفي، وقد صدرت تعديلات للمجلة توسع بعض الجوانب، مثل مجال الشروط الذي أُخذ فيه بما قرره ابن تيمية من جواز الشروط وإجراءاتها [20].

ولم يقتصر الجهد المبذول في مجال التقنين القانوني وفق المنهج الشرعي على (مجلة الأحكام العدلية)، بل صدر سنة ١٣٢٦هـ قانون حق العائلة، الذي قنّن الأحكام الشرعية للزواج والطلاق والتفريق.

لكن يظل النجاح الكبير حقيقةً للمجلة هو انعكاسها على حركة الثقافة في المجال القانوني، فإضافةً لذيوع فكرة تناول “المجلة” بالشرح والتعليق والاختصار، شاعت فكرة قابلية الشريعة بشكل عام للتقنين والإلزام، مما دفع عددًا من العلماء أن يقوموا بمحاولات تقنين شبيهة، كان أبرزها محاولات محمد قدري باشا، الذي وضع مشروعًا لتقنين الشريعة في مسائل الأوقاف وفق المذهب الحنفي على هيئة “مواد” على غرار القوانين الوضعية سماه “قانون العدل والإنصاف في مشكلات الأوقاف” اشتمل على 646 مادة، وقد طُبع على نفقة نظارة المعارف سنة 1893م.

كما وضع مشروعًا لتقنين الشريعة في المعاملات المالية وفق المذهب الحنفي على شاكلة (قانون العدل والإنصاف) عنون له بـ (مرشد الحيران إلى معرفة أحوال الإنسان) احتوى على 914 مادة، وطبع أيضًا على نفقة نظارة المعارف سنة 1895م، ووضع مشروعًا آخر لتقنين الشريعة في مسائل الأحوال الشخصية على ذات النسق عنون له بـ (الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية) واشتمل على 647 مادة.

فشل مشروع المقاومة الحميدي وأثره في انهيار المركزية الإسلامية في الولايات العربية:

رغم أنه كان لمحاولات الإصلاح / المقاومة في العهد الحميدي تأثيرها بالغ الأهمية على قيام عدد من المؤسسات والأساتذة بمحاولة تقنين الأحكام الشرعية في مختلف المجالات، إلا أن الأثر الأهم من الصراع التقنيني بين اتجاهي الأوربة ومحاولات استعادة الذات الثقافية كان بروز إشكالية “الازدواجية القانونية” التي مثلت أزمة مصدرية خطيرة في تلك الفترة، إذ كان النظام القانوني هجينًا من القوانين الأوروبية التي خَلفها دولة “التنظيمات” واستمرت حتى انهيار الامبراطورية العثمانية، ومن الأحكام الشرعية التي قننتها دولة عبد الحميد واجتهدت في تفعيلها والحفاظ عليها إلى جانب القوانين المستحدثة من قبل أو فيما بعد على ذات النسق مثل قانون أصول المحاكمات الجزائية الصادر سنة ١٨٧٩م، وهو ما يصعب معه فهم ردود الفعل التشريعية والتوجيه القضائي المركزي حيال هذه “الازدواجية”.

والحقيقة أن السبب وراء ذلك؛ أن الفرمانات كانت تصدر بلا فتوى دينية كما نقل نور الله أردش، وظلت الشريعة مسألة خطابية في كل من البروتوكول والفرمان بوصفها مصدرًا للتشريع في سن القوانين، كما أن التحديثات القانونية على النمط الأوروبي تغلغلت في البداية في القوانين والنظم التجارية بدءًا من قانون التجارة عام ١٨٥٠م، فلم يكن ثمة مؤشر مباشر لعبد الحميد وأعوانه على أن الشريعة يتم تقويضها [21].

إن قوة القضاء ونظمه وأوضاع القضاة مرتبطة دائمًا بقوة الدولة، فإذا كانت الدولة ضعيفة وهزائمها متكررة، انعكس ذلك على قوانينها وأوضاع القضاة ونظم التقاضي، وكلما كانت قوية عصية على الانكسار كانت أوضاع القضاة مستقرة ونظمها القانونية مستقرة.

لقد كانت فاعلية النظام القانوني في الدولة العثمانية – في غالب الأحوال – منذ بداية قيام الدولة وحتى أواخر القرن السادس عشر، كغيره من أنظمة الدولة، عرضة لكثير من تحولات الانحلال والتفسخ والتفريغ ابتداءً من القرن السابع عشر، بل ساهم بشكل كبير في انحلال السُّلطة العثمانية، ورغم أن محاولات السلطان عبد الحميد كان لها من أثر بالغ في تأجيل هذا الانحلال ما لها، إلا أنه وقع ما كان يُخشى منه في النهاية، فاتساع نطاق الدولة وتنوعها السكاني وما أُحدث في نظامها القانوني والقضائي من انقسام مؤسسي – صراعيًّا كان أو تكامليًّا – خلق فضاءً رماديًّا سمح باستمرار التعددية القانونية التي أجلت انهيار النظام، لكنه ما كان ليكون فاعلًا في حسم هذا الانقسام لصالح المركزية الإسلامية.

والنتيجة التي يُمكن أن نستخلصها من هذه التجربة الفريدة في غاياتها وتفاعلها مع مراكز القوى المختلفة، هي أن المشروع الإسلامي لا يصلح معه المنهج التوفيقي / التلفيقي للإصلاح، لكنه قابل لابتكار معرفة ومشروعات تنفيذية ذات رؤية كلية متوافقة منهجيًّا مع الماضي، غير مشتركة معه في جزئياتها.

ولذلك لم تنجح التجربة الحميدية في النموذج العثماني / العربي، رغم أن الممانعة المجتمعية الناشئة عن مأسسة الحقوق والواجبات في النظام الديني للدولة العثمانية “الإسلامي” على أساس قيمة الفرد “كمسلم” وليس كـ “مواطن”، كان لها أبلغ الأثر في تعطيل مسار الأوربة في ظل التنظيمات العثمانية، وبروز صراع عنيف على مستوى الهيئات الوسيطة في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، وتحديدًا في نطاقات التقنين (القانون / الشريعة) ونطاقات النفوذ (رجال التنظيمات / العلماء).

وثمة أسباب أخرى لفشل النظام السياسي الحميدي في الاستفادة من تطوير النظام القانوني العثماني، أهمها؛

١. الجمود الفكري لعلماء الدين.

٢. كثرة الوقائع مع ضمور حركة الاجتهاد.

٣. اتساع الدولة وترامي أطرافها مع عدم وجود صيغة سياسية تربط بينها.

هذه الحالة كانت ركيزة أساسية في التحول في صورة الدولة السياسية، على مستوى الحاجة والدواعي، وعلى مستوى التمدد السياسي على حساب الهيئات الوسيطة، وعلى مستوى التوحيد البنيوي وتقويض التنوع في المجتمع.

ولنفس الأسباب السابقة كان فشل النظام السياسي الحميدي على مستوى الولايات العربية أسبق وأكبر مما كان عليه في مركز الخلافة العثمانية، حيث ساهم ضعف المركزية السياسية في نهاية الدولة العثمانية واستقلال بعض الولاة بنظم الحكم في الولايات الخاضعة لهم، لاسيما أبناء محمد علي في مصر والأقطار التابعة لها؛ في تفكيك النظام القانوني القائم والاتجاه بسرعة نحو الأوربة عبر نماذج “مجالس القناصل” و “المحاكم المختلطة”، صاحبتها تحولات ضخمة في البنية الثقافية / العلمية القانونية للمجتمعات العربية تسببت فيها عوامل عدة كان من أهمها: عمليات الابتعاث للخارج وعمليات استقدام أساتذة القانون والقضاة وكبار المحامين من أوروبا لاسيما فرنسا، وتعيين المبتعثين عند عودتهم والمستقدمين الأوروبيين في الوظائف السيادية.

فالثابت الذي يمكن معه فهمُ التأثيرات الأوروبية في الحركة العلمية القانونية العربية؛ ارتباط المجتمع العلمي العربي بالمدارس الفرنسية منذ نهاية القرن التاسع عشر، هذا الارتباط لم يكن على المستوى البنيوي فحسب، بل على المستوى الوظيفي أيضًا، أي ليس على أساس العناصر الأساسية المكونة للنظام لغةً وثقافةً وعلاقاتهما الأساسية، بل أيضًا على أساس الوظيفة وطريقة العمل، حيث كانت الكليات والمعاهد في بيروت ودمشق ومعظم بلاد شمال إفريقيا بما فيها مصر الراضخة للاحتلال الإنكليزي، تعتمد على أغلبية من الأساتذة الفرنسيين، وكان من أوائل المعينين في المؤسسات التعليمية أساتذة تلقوا دراسة جامعية في باريس.

وعلى سبيل المثال، حين أُنشئت “مدرسة الحقوق” في مصر في عهد الخديوي إسماعيل سنة ١٨٦٨م، وهي الأقدم في تدريس القانون في البلاد العربية؛ عُهدت نظارتها إلى الفرنسي فيكتور فيدال Victor Vidal، فتولى تنظيمها ووضع مناهجها، وكان يعاونه نحو عشرين مُدرسًا أجنبيًّا، واستمر في نظارتها حتى سنة ١٨٩١م أي لنحو ثلاثة وعشرين عامًا؛ وأعقبه ثمانية نظار من الفرنسيين والإنجليز، وكان العنصر الأوروبي مستحوذًا على أكثر كراسي التدريس فيها، ولم تصبح اللغة العربية لغة الدراسة الأساسية في المدرسة إلا بعد تحويلها إلى كلية وضمها للجامعة بعد إعادة تأسيس الجامعة المصرية كجامعة حكومية عام ١٩٢٥م، مع بقاء التعمق في اللغة الفرنسية شرطًا في مرحلتي الليسانس والدكتوراه [22].

وحتى بعد تحول “المدرسة” إلى “كلية” بعد إنشاء الجامعة المصرية؛ فقد اعتمدت اعتمادًا كبيرًا على الأساتذة الأجانب في عهودها الأولى، وكان الفرنسي ليون ديجي Léon Duguit (١٨٥٩: ١٩٢٨م) عميد كلية حقوق بوردو بفرنسا هو أول من تولى عمادتها من نوفمبر 1925 حتى مارس 1926م.

وتاريخ مدرسة الحقوق في بيروت لا يقل عن مدرسة الحقوق في القاهرة؛ حتى أنها كانت تُعرف بمدرسة الحقوق الفرنسية ثم كلية الحقوق الفرنسية حتى سنة ١٩٥٨م.

———-

*  أصل الدراسة ورقة عمل نوقشت ضمن أعمال المؤتمر الدولي “السلطان عبد الحميد الثاني في الذاكرة العربية” الذي نظمته جامعة دوملوبينار بمحافظة كوتاهيا بتركيا في الفترة من ١٢ حتى ١٤ ديسمبر ٢٠١٨م، ونُشرت في الكتاب الذي تمخض عن المؤتمر تحت عنوان (السلطان عبد الحميد الثاني في الذاكرة العربية) باللغات العربية والتركية والإنجليزية، وصدرت الطبعة العربية عن دار الأصول العلمية (إسطنبول) عام ٢٠١٩م، وأُعيد تناول الدراسة بتوسع في كتاب (كيف صنعنا القانون؟: حول علاقة القانون بالدولة) في الفصل الخامس: “تحول الشرق”، الذي يصدر في نهاية عام ٢٠٢٣م عن مركز أركان للدراسات والأبحاث والنشر (القاهرة) إن شاء الله.

[1] قاض وأديب مصري تعلم بمدرسة القضاء الشرعي، وولي القضاء في (ببا) من أعمال محافظة بني سويف، ثم كان نائبًا في المحكمة الشرعية العُليا بالقاهرة، ومولده ووفاته بها، من مصنفاته وأعماله: (رسائل سائر من بلاد العرب إلى بلاد اليونان)، (الأدب العصري)، (بأي شرع نُحكم؟!)، (من أخلاق العلماء)، (حدث الأحداث في الإسلام) رسالة في ترجمة معاني القرآن، ونشر أبحاثًا ومقالات كثيرة في الصحف والمجلات المصرية والعربية، ذكر الزركلي في الأعلام (6/153) أن وفاته كانت عام 1936م / 1355هـ أي في ذات عام إلقاء المحاضرة المُشار إليها.

[2] محمد سليمان عنّارة: بأي شَرعٍ نُحْكَم؟!، مجلة الجمعية المصرية للاقتصاد والإحصاء والتشريع (القاهرة)، العدد ١٦٣، إبريل ١٩٣٦م، ص ٣٢٨.

[3] ونص “كولخانة” للمرة الأولى على توصيف “مواطنين عثمانيين”، واعتبارهم متساوين في الحقوق والواجبات، مساواة تامة، ودون تمييز بسبب الدين أو اللغة أو الجنس؛ ومنح الجميع حرية العبادة، وحماية أرواحهم وأملاكهم، والتزامهم جميعًا بالضرائب، وعدم إنزال عقوبة بأحد إلا بعد محاكمته، وإلغاء بيع الوظائف.

[4] سهيل صابان: تطور الأوضاع الثقافية في تركيا: من عهد التنظيمات إلى عهد الجمهورية، المعهد العالمي للفكر الإسلامي (فرجينيا)، الطبعة الأولى ٢٠١٠م، ص ٤٨٧.

[5] وأقصد به المعنى الواسع المتضمن للإنتاج الفقهي والأصولي والأدبي والتاريخي وما إلى ذلك.

[6] محمد حرب: السلطان عبد الحميد الثاني: آخر السلاطين العثمانيين الكبار، دار القلم (دمشق)، الطبعة الأولى ١٩٩٠م، ص ٥٥.

[7] Rubin. Avi, Ottoman Nizamiye Courts; Law and Modernity, Palgrave Macmillan, USA, 2011, p. 31.

[8] والمراد هيئة “قاضي العسكر” الاختصاصية التي كان عليها إبان الدولة العثمانية أخيرًا كرئيس للهيئة القضائية، إذ وجد هذا المسمى قبل الدولة العثمانية، ومر بعدد من التطورات منذ زمن السلطان صلاح الدين الأيوبي، فيذكر القاضي الشرعي محمود عرنوس، أنه كان يُطلق على قضاة الخليفة الذين ليس لهم أرض، فيُسيرون معه حيث سار، ويُحدد هو اختصاصاتهم.

محمود محمد عرنوس: تاريخ القضاء في الإسلام، مكتبة الكليات الأزهرية (القاهرة)، بدون تاريخ، ص ٩٩: ١٠٠.

وأيضًا كان يُطلق على القضاة الذين يخرجون مع الجند، وتكون مهمتهم تعليم الجند الأمور الدينية والفصل في المنازعات أثناء الجهاد وحصر تركات من يتوفى وإنفاذ الوصايا وما إلى ذلك.

[9] محمد الزحيلي: تاريخ القضاء في الإسلام، دار الفكر (دمشق)، الطبعة الأولى ١٩٥٥م، ص ٤٤١.

[10] أصلها رسالة دكتوراه تمت في جامعة هارفارد، وتأتي أهميتها من اعتمادها على دراسة وتحليل دورية المحاكم Ceride-i Mehakimالرسمية، كمصدر للخطاب القانوني والتطبيق العملي، وهي الدورية التي كانت تصدرها وزارة العدلية العثمانية منذ سنة 1873م فصاعدا بصورة أسبوعية، وكانت تقع في خمسة عشر صفحة متضمنة تقارير عن قضايا مدنية وجنائية من مختلف أنحاء الإمبراطورية، وإجراءات مختلف المحاكم فيها، وكذلك القرارات والتعاميم الصادرة عن المحكمة المركزية (محكمة التمييز) في العاصمة، وتُقدم ما يُمكن اعتباره جدول أعمال فيما يتعلق بإدارة العدالة، بالإضافة لمقالات بعض القضاة وموظفي المحاكم.

وبالطبع لم تكن دورية تثقيفية جماهيرية، بل كانت تُخاطب جمهورًا مغلقًا من مجتمع مهني متخيل من القضاة والمدعين العامين والمحامين، فاستخدمتها السُّلطة كأداة تواصل مع المحاكم والقضاة لخلق الانتماء المشتركة، وأداة عمل من خلال إصدار تقارير عن الإخطارات والتحذيرات والمخالفات قانونية.

ويُؤكد إيفي روبين Avi Rubin على أهمية “الدورية” المصدرية في مقدمة دراسته بأنها وفرت له نوع من المعلومات حول التقاضي والممارسة القانونية الغائبة عن كتب القانون والتاريخ، وأن قوتها – كمصدر تاريخي – في أنها مثلت حقل خطابي يكشف عن الأجندات الأيديولوجية للنخبة القضائية.

ولعل من أهم ما يُمكن أن نلاحظه في دراسة روبين؛ ذكره أكثر من مرة في مواضع مختلفة – نقلًا عن الكتابات القانونية الغربية وليس بحسب ما يعتقده – أن فترة السلطان عبد الحميد مثلت انتكاسة لليبرالية التي كانت مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بعهد التنظيمات، وتقديمها – أي هذه الكتابات إضافةً للصحافة الأوروبية في أواخر القرن التاسع عشر – صورة سلبية للسلطان عبد الحميد.

[11] Rubin. Avi, Op. Cit., p. 29, 78.

[12] Op. Cit., pp. 115: 132.

[13] Ibid.

[14] كمال السعيد حبيب: الأقليات والسياسة في الخبرة الإسلامية: من بداية الدولة النبوية وحتى نهاية الدولة العثمانية، مكتبة مدبولي (القاهرة) الطبعة الأولى ٢٠٠٢م، ص ٢٤٧.

[15] أورخان محمد علي: السلطان عبد الحميد الثاني: حياته وأحداث عهده، دار الأنبار (العراق)، ١٩٨٧م، ص ٣٤٠: ٣٤٤.

[16] مصطفى أحمد الزرقا: المدخل الفقهي العام، دار القلم (دمشق)، الطبعة الثانية ٢٠٠٤م / ١٤٢٥هـ، ج ١ ص ٢٤٠.

لتقريب تصور هذا الحدث، نستطيع أن نشبهه بما تم في أواخر الثمانينات وأوائل تسعينيات القرن الماضي في مصر، عندما حاول البرلمان المصري في عهد رئيسه د. صوفي أبو طالب؛ تقنين الشريعة الإسلامية من خلال المشروع الذي عُرف بـ “مشروع صوفي أبو طالب”، حيث استمرت لجان البرلمان في إعداد مشروعات قوانين؛ المدني والعقوبات والإثبات والتجارة أربعة أعوام ما بين عامي ديسمبر ١٩٧٨ ويوليو ١٩٨٢م واستغرق العمل جهود ما يربو على المائة أستاذ وخبير قانوني وشرعي، لكنه ورغم حجم الجهود المبذولة فيه ظل حبيس الأدراج ولم يخرج إلا النور لعدم وجود إرادة سياسية حقيقية بترجمة هذا الجهد إلى واقع ملموس.

[17] مع العلم بأن المجلة لم تلتزم الرأي الراجح في المذهب الحنفي، بل أخذ واضعو المجلة بالقول الأصلح والأنسب من المذهب دون التقيّد بظاهرالرواية عند الحنفية أو بالرأي الراجح في المذهب.

[18] ويتميز هذا الشرح بذكره معاني المصطلحات اللغوية والفقهية وجمعه لأقوال الفقهاء من أمهات كتب المذهب الحنفي مع ذكر أوجه اختلافهم وأدلتهم، يقول الأستاذ فهمي الحسيني المحامي – مُعرب الشرح – في مقدمته: “شرح هذا القانون شرحًا وافيًا يُغني عن الرجوع إلى غيره، ويوفر زمن مُقتنيه، ويطرح مؤونة البحث والتنقيب في مطولات الكتب عن قارئيه، ويفتح المغلقات، ويجلو الغامضات، ويحل المعضلات، ويُزيل الإبهام، ويُنيرالأفهام، ويبدد الأوهام، ولم يكد ينجز هذا الشرح حتى تسارع القُضاة والفقهاء والمحامون إلى اقتنائه وتنافسوا في إحرازه وعولوا في معضلات القضايا عليه، وفزعوا من مدلهمات المسائل إليه، وكان لهم عمدة، وبه غنية، كما أن الدولة العثمانية أوجبت درسه في مدرسة الحقوق، ولم يمض على طبعته الأولى إلا يسير زمن حتى نفدت، فأُعيد طبعه ثانيةً فنفد أيضًا، فأُعيد ثالثةً”.

[19] فظلت مطبقة في لبنان حتى 1932م حيث طبق قانون الموجبات والعقود اللبناني رقم 51 لسنة 1932م، وظلت مطبقة في سوريا حتى سنة 1949م حيث استُعيض عنها بالقانون المدني السوري رقم 84 لسنة 1949م، وظلت مطبقة في العراق حتى سنة 1952م حيث حل محلها القانون المدني رقم 40 لسنة 1951م، وفي الأردن حتى سنة 1976م حيث حل محلها القانون المدني الأردني رقم 43 لسنة 1976م، وظلت مطبقة في الكويت حتى نهاية سنة 1980م حين أُلغي العمل بها في هذا العام بمقتضى نص المادة الأولى من إصدار القانون رقم 67 الصادر في أول أكتوبر من ذلك العام بشأن القانون المدني، والتي نصت على أن: (يُلغى العمل بمجلة الأحكام العدلية، ويُستعاض عنها بالقانون المدني المرافق لهذا القانون).

[20] عبد العزيز محمد القاسم: الإصلاح التشريعي: موجز تاريخي وخطوات عملية صراع الفقهاء والتحديثيين قبيل العلمانية الشاملة، مجلة البيان، لندن، العدد‌ 162، صفر 1422هـ / مايو 2001م، ص 18.

[21] نور الله أردش: الإسلام وسياسات العلمانية: الخلافة والتحديث في الشرق الأوسط في بدايات القرن العشرين، ترجمة: عبد الله إسلام، فاطمة قرطمة، مراجعة: د. بدر الدين مصطفى، مركز أركان للدراسات والأبحاث والنشر (القاهرة)، الطبعة الأولى ٢٠٢١م، ص ٩٢: ٩٣.

[22] ناقشت هذا الموضوع بشكل موسع في كتاب: (الشريعة والتحديث: مباحث تاريخية واجتماعية في تقنين الشريعة وتطبيقها)، مركز أركان للدراسات والأبحاث والنشر (القاهرة)، الطبعة الأولى ١٤٤٣هـ / ٢٠٢١م.

Share via
Copy link