آخر تحديث: ٩ ديسمبر ٢٠٢٣م
ذلك أن الموضوع الأساسي للقرآن هو التوحيد وتحقيق العبودية، وتعظيم الخالق هي الحكمة الأساسية من الخلق، وهذا الأمر له معنى آخر جوهري هو تجاوز بنية الأحكام للطبيعة النمطية المادية للأوامر والنواهي (القوانين) إلى طبيعة معنوية وجدانية، وهو ما يثَبِّتها أكثر في دواخل النفس الإنسانية، وينقل الأحكام من دائرة الأمر والنهي القانونية إلى دائرة التوحيد والتعبد التي تملأ النفوس بدواعي الاستجابة الفورية مهما بدت الأحكام غير مُقنعة عقلًا للمكلف أو كانت ثقيلة على نفسه.
لعل من أهم ما ميز القرآن الكريم، أن ما تضمنه من أحكام عملية يترتب عليها عمل، وتكليف يُنظم علاقة الإنسان بمن حوله؛ اشتملت على خصائص فريدة سمحت بتثبيت وترسيخ عقيدة الإسلام وأخلاقِه في نفوس المكلفين، على نحو جَعل التكليف (أي نظام الأوامر والنواهي) نظامًا عقائديًّا أخلاقيًّا قبل أن يكون عمليًّا، ما يُتيح بقائه واستمراره وضمان فاعليته.
إن آيات الأحكام في القرآن جعلت من نظام الشريعة نظامًا وجدانيًّا متجددًا فريدًا يستحيل مجاراته، بوصفه ليس بنية تنظم علاقة الإنسان بربه والإنسان بالإنسان والإنسان بالطبيعة والإنسان بنفسه فقط، بل بوصفه كتاب الله تعالى الخالد الذي يحمل رسالة الإسلام خاتم الأديان.
فالقرآن يمزج بين الشرائع والعقيدة والشعائر والأخلاق وينظمها في عقد واحد، ليجعل تطبيق الأحكام العملية يسيرة ومرغوبة، بعد أن يفتح لها مغاليق القلوب، ويجعل إتباعها دليل الإيمان، فيضمن العمل بها بعدما يُهيء كل واحد منا ليكون رقيب نفسه بمقتضى الإيمان، ففي حين خاطبت القوانين السلوك؛ خاطب القرآن الضمائر والقلوب المحركة للسلوك، الباعثة عليه.
ويمكن أن نوضح ذلك من خلال خصائص آيات الأحكام العملية التي تنظم علاقة الإنسان بغيره، فيما يلي:
أولًا: ربط كل آيات الأحكام بالتأكيد في ختامها على صفة من صفات الله تعالى واسم من أسمائه؛ يُلائمان الحكم الشرعي، وفي كثير من الأحوال كانت العلم والحكمة والرحمة والعِزة، مثلًا آية أنصبة المواريث {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ…}؛ خُتمت بقوله تعالى: {إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِیمًا حَكِیمًا} [سورة النساء: الآية ١١]، وآيات اللِّعان {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إنَّهُ لَمِنَ الصّادِقِينَ}؛ خُتمت بقوله: {وَأَنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٌ حَكِیمٌ} [سورة النور: الآية ١٠]، وآية الدَّين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ}؛ خُتمت بقوله: {وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِیم} [سورة البقرة: الآية ٢٨٢]، وآية السرقة {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} وكذلك آية عدة المطلقات {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ}؛ خُتمتا بقوله: {وَٱللَّهُ عَزِیزٌ حَكِیمٌ} [سورة المائدة: الآية ٣٨] [سورة البقرة: الآية ٢٢٨]، والأمثلة تطول جدًّا التي تربط السلوك والتكليف بالإدراك العميق لله عز وجل وصفاته، لأنه مُسببُ الأسباب، ومصدرُ كل النِعم، ومالكُ كل شيء على الحقيقة.
وهذا الملمح في غاية الأهمية، إذ يجعل الشريعة مفارقة لأي نظام وضعي؛ قانوني أو تكليفي ما، ذلك أن الموضوع الأساسي للقرآن هو التوحيد وتحقيق العبودية، وتعظيم الخالق هي الحكمة الأساسية من الخلق {وَمَا خَلَقتُ ٱلجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلَّا لِیَعبُدُونِ} [سورة الذاريات: الآية ٥٦]، وهذا الأمر له معنى آخر جوهري هو تجاوز بنية الأحكام الشرعية للطبيعة النمطية المادية للأوامر والنواهي (القوانين) إلى طبيعة معنوية وجدانية، وهو ما يثَبِّتها أكثر في دواخل النفس الإنسانية، وينقل الأحكام من دائرة الأمر والنهي القانونية إلى دائرة التوحيد والتعبد التي تملأ النفوس بدواعي الاستجابة الفورية، مهما بدت الأحكام غير مُقنعة عقلًا للمكلف أو كانت ثقيلة على نفسه.
ثانيًا: الأمر والنهي في الخطاب القرآني يبدأ في الغالب بـ “أيها الذين آمنوا“، أو ينتهي بـ “المؤمنين“، كما في قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [سورة البقرة: الآية ١٧٨]، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة آل عمران: الآية ١٣٠]، وقوله: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة البقرة: الآية ٢٢٣]، لا كالخطاب الوضعي (العلماني) بـ “افعل”، “لا تفعل”، هذا الفارق له معاني جليلة في غاية الأهمية، منها: فكرة الجماعة المؤمنة وأهميتها في تحقيق “عبودية” الأفراد، ويكأن تحقق العبودية والطاعة وكمال دين الفرد؛ مرتكزه الجماعة المؤمنة، حركة الجماعة؛ حركة للفرد، ولتتأكد مع كل أمر ومع كل نهي؛ مركزية الولاء والبراء، فالإيمان يجمع كل الفضائل الموجبة للولاء والبراء، فيعرف المسلم من أخوه ومن عدوه.
وليُتعرف على عظمة الله عز وجل ورأفته ورحمته وودِّه بالمؤمنين، إذ رغم الأهمية الكبيرة لأوامر الله تعالى، ورغم فداحة معصيته عز وجل وعدم الامتثال له؛ إلا أن القرآن ببراعة عجيبة يحوِّل الخطاب التكليفي (القانوني في طبيعته من منظور الغربيين) إلى خطاب محبة وودّ وحرص، ويكأن المتكلم والمخاطب قريبان في المنزلة؛ مرفوع ما بينهما من حواجز كالبنوة والأخوة!
وفي هذا تذكير للناس بأن العبودية خطاب رحمة ومحبة، وتأكيد على أن الشرف الحقيقي في “الإيمان“، الإيمان الموجب للتسليم والسمع والطاعة، ومنه نُدرك منزلة الصحابة وقَدر تشريفهم ولماذا؟!، منه تفهم هذا “التسليم” العجيب الذي ملأ نفوسهم ولم يجدوا أي غضاضة في الإعلان عنه والمحاربة لأجله، فلا مجال لجدال مع أمر الله تعالى، ولا حاجة لمعرفة العلة أو فهم الحِكمة إذا كان الأمر أمر النبي صلى الله عليه وسلم!
وفيه أيضًا تأكيد فكرة أن الامتثال لأوامر الله ونواهيه؛ رهن الإيمان، بقدر ما يزيد؛ تتحرك الاستجابة، وبقدر ما يضْعُف؛ تزيد الممانعة، على قدر رسوخ الإيمان في دواخل النفس وانشغال القلب به؛ يكون الانقياد، وهو معنى قوب ابن قيم الجوزية: “الأعمال ثمرات العقائد”.
ثالثًا: التأكيد على أن جوهر النظام الإسلامي هو “الطاعة“، ومنه قول الله تعالى في نهاية آية الإشهاد على الوصية: {ذَلِكَ أدْنى أنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وجْهِها أوْ يَخافُوا أنْ تُرَدَّ أيْمانٌ بَعْدَ أيْمانِهِمْ واتَّقُوا اللَّهَ واسْمَعُوا واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفاسِقِينَ}[سورة المائدة: الآية ١٠٨]، وقوله في آية الأنفال: {يَسْألُونَكَ عَنِ الأنْفالِ قُلِ الأنْفالُ لِلَّهِ والرَّسُولِ فاتَّقُوا اللَّهَ وأصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكم وأطِيعُوا اللَّهَ ورَسُولَهُ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة الأنفال: الآية ١]، وسنلحظ أنه في هذه الآيات قَرن “التقوى” بالسمع والطاعة، وقدمها عليهما، لأن التقوى جامع للطاعات، وسبب التفاضل بين الناس كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ» [1]، فالتقوى تتجاوز بالإنسان حدود البشر لتضعه عند حدود الله، والسمع والطاعة يتجاوزان به حدود العقل ليضعانه عند علم الله، وبقدر ما يُلْجم الدين عِزة الإنسان مع الله؛ يُطلق عِزته في البشر.
ولذلك في آية الأنفال السابقة جاء في عقبها مباشرةً: {إنَّما المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذا ذُكِرَ اللَّهُ وجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وإذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهم إيمانًا} [سورة الأنفال: الآية ٢]، فالوَجَل خشية مع فزع من عظمة المَوْجُولِ منه.
فالعلة الأصلية لكل حكم شرعي هي اختبار السمع والطاعة، عُبادة بن الصامت رضي الله عنه: “بايعنا رسول الله على السمع والطاعة في المنشط والمكره”.. وكان معاذ بن جبل رضي الله عنه لا يجلس مجلسًا للذكر إلا قال: “الله حكمٌ قسطٌ، هلكَ المرتابون”!
فالاستجابة لأحكام الدين، والإمعان في تعظيم الخالق بالإمعان في الخضوع له، في ذاتها؛ مصلحة تُعلَّل بها الأحكام، وهو سر قول النبي صلى الله عليه وسلم: «حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ» [2] أي الشديد على النفس الذي لا تميل إليه بسهولة، وهذا هو جوهر فكرة “العبودية” و “التسليم”، ومقتضى شهادة “لا إله إلا الله”، وهو سر الذكر المعروف المُهم الذي علَّمه النبي صلى الله عليه وسلم لأُمته: «رضيتُ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ رسولًا»، فبعض الشُراح يفسر “رضيت” هنا بـ “آمنت”، والبعض قال “قَنِعت”، لكن الأبلغ من فسروها بـ “أحببت” بالله ربًّا، أي بربوبيته وأنه مالكٌ وسيدٌ وآمرٌ، وبالإسلام دينًا، انقيادًا وتسليمًا بجميع أوامره ونواهيه، وبمحمدٍ نبيًا، أي بكل ما أُرسل به وبلغه، ومقتضى كل ذلك؛ الرضا بحكم الله تعالى والإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم، لأنه موجب الرضا، فيكون المعنى؛ آمنت وقنعت وأحببت حكم الله وحكم الإسلام وحكم النبي صلى الله عليه وسلم، لذلك كان هذا الكلام البسيط هو ما سيُسأل الإنسان عنه فور دخوله القبر، فرغم بساطته أُخبرنا صلى الله عليه وسلم أنه يفشل كثير من الناس في اجتيازه، فهذا الكلام البسيط في مبناه ومعناه؛ سهل في جريانه على اللسان، لكنه عند محكات هوى النفس، وامتحان الاعتقاد والجوارح؛ أصعب ما يكون، فإن الناس قد تؤمن بألوهية ربهم، وقد يرضون بقدره وقضائه، لكنهم يسخطون على أحكامه إذا خالفت هواهم وعاطفتهم وعقولهم!
لذلك كانت هذه الجمل الثلاث إحدى أهم أذكار المسلم وأوراده اليومية صباحًا ومساءً ومع كل آذان وإقامة، لماذا؟!
ليستحضر حقيقة ما هو فيه في الدنيا، وحقيقة امتحانه كلما شَغب عليه المشغبون وغلبوه بالهوى والعاطفة ومتطلبات الواقع وظروف الحياة ليسخط على رضيت بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ رسولًا، الغاية التي من أجلها خُلق.
رابعًا: لم يكتف القرآن بالعلة الأساسية للحكم المشار إليها في الملمح السابق (أي السمع والطاعة)، بل لأن القرآن الكريم جاء مخاطبًا للعقل البشري فقد راعى هذا الأمر في كثير من الأحيان فبيَّن حُجة الحكم، مثلًا في آية القوامة نجده يُعللها بقوله: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [سورة النساء: الآية ٣٤]، فهذه مُسَلَّمة إيمانية قرآنية في جدلية الرجل والمرأة، لا يستطيع أحد أن يمضي في دين الله إلا بعد التسليم بها، مُسَلَّمة ثقيلة على النفس، لكنها فرع عن إقرار الإنسان بضعفه وقصوره، وسائر صفات نقصه البشري أمام كمال صفات الله عز وجل؛ علمه وحكمته وقدرته، ولذلك قال تعالى في آخر موضوع الآيات في نهاية الآية التي تليها: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} عليمًا بمن يُفضل ولمَ؟! خبيرًا بمواطن التفضيل وأسبابه، فمهما حاولت المرأة التخلص من العاطفة في حكمها على الأمور لن تستطيع، لأنها مركوزة في فطرتها وتكوينها، فغلبة العقل على العاطفة عند الرجال كغلبة العاطفة على العقل عند النساء؛ تفضيل أودعه الله في الخلق لحكمة، يفعل ما يشاء وهو العليم الخبير، وهي قدرات رتبت حقوق واستتبعت مسئوليات، فمثلًا قوة العاطفة جعلت المرأة مقدمة على الرجل في الحضانة، وقوة العقل جعلت الرجل مقدم على المرأة في الشهادة، ونقص العقل جعل للمرأة الحق في النفقة، ونقص العاطفة جعل للرجل الحق في القوامة والولاية والوصاية، وهكذا، وكل بقَدَر الله وكامل حكمته وكامل علمه.
وفي آية الفيء: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [سورة الحشر: الآية ٧]، أي حتى تعود هذه المغانم على فئات أخرى ضعيفة، فلا يصبح المال متداولًا بين الأغنياء ومن هم مظنة الغنى فقط من قادة المُحاربين كما كان عليه أهل الجاهلية، وما هو مشاهد الآن حتى في بعض البلدان الذين يستأثر قادة جيوشها بثرواتها.
وغيرها من الأمثلة، لتأكيد أن وراء الأحكام عِللًا وحِكمًا، لتحفيز العقول وتفجير الطاقات نحو التفقه والبحث والتعلم.
وهذا من وجوه إعجاز الآيات، كما عبر عنها القرطبي (ت ٦٧١هـ / ١٢٧٣م) بـ: “ما تضمنه القرآن من العلم الذي هو قوام جميع الأنام في الحلال والحرام وفي سائر الأحكام، والحكم البالغة التي لم تجر العادة بأن تصدر في كثرتها وشرفها من آدمي، والتناسب في جميع ما تضمنه ظاهرًا وباطنًا” [3].
خامسًا: لأن فكرة الجزاء الأخروي فكرة أساسية قامت عليها الشريعة، إذ هي ركيزة من ركائز عدالة التشريع ومغزى إمهال إبليس ليوم القيامة حين توعده الله تعالى بقوله: {اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ} [سورة الأعراف: الآية ١٨]؛ فقد ركزت آيات الأحكام على الوعيد الأخروي أكثر من الجزاء الدنيوي (العقوبات) كما في آية الربا: {وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [سورة البقرة: الآية ٢٧٥]، وذلك لأسباب، أهمها:
الأول: ارتباط الأحكام بمعنى العبودية واختبار السمع والطاعة كما ذكرتُ من قبل، وهو ما يتطلب أن يكون الوعيد غير محسوس لتحقيق معنى الاختبار.
الثاني: ترك مساحة لتفاعلات المجتمع والسياقات الزمانية والمكانية في موضوع الجزاء الدنيوي (العقوبات)، فما تدخل فيه القرآن والسُّنة في هذه المساحة محدود جدًا لذلك كانت أغلب الأحكام الجزائية “تعازير“، واستُنثي من ذلك ما لا تختلف مصالحة بتغير الزمان والمكان مثل “الحدود” الشرعية.
الثالث: اعتبار العقوبات الدنيوية ليست أصلًا، بل عارضًا متأخرًا لضمان نفاذ الأحكام، فهي ضرورة كأي ضرورة تقدر بقدرها [4].
سادسًا: ربط كثير من الأحكام الصارمة في طبيعتها بالأخلاق الحسنة، خاصةً العفو والتسامح والتوبة، كما في آية القصاص: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [سورة البقرة: الآية ١٧٨]، وفي آية الإعسار: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة البقرة: الآية ٢٨٠]، وفي آية الحرابة: {إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ * إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة المائدة: الآيتان ٣٣: ٣٤]، فالتوبة أسقطت الحد قبل القُدرة على الجاني، للتحريض عليها، لأنها أصل والعقوبة عارض [5].
وفي آية الطلاق: {وإنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أنْ تَمَسُّوهُنَّ وقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إلّا أنْ يَعْفُونَ أوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وأنْ تَعْفُوا أقْرَبُ لِلتَّقْوى ولا تَنْسَوُا الفَضْلَ بَيْنَكم إنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سورة البقرة: الآية ٢٣٧]، وليس المراد عين النسيان، بل المقصود “الترك”، أي ترك الفضل تَرك المَنسِيِّ؛ بحبس الحق، أو بخس القدر، أو نكران البِر، أو الظلم عند القُدرة عليه، لكنه عبر عنه بـ “النسيان” لأنه آكد في النهي، كأنه يقول: اعتنِ بهذا الخير ولا تُهمله واجتهد وابذل كل وسعك في ألا تضيع هذا الفضل مهما أعماك الغضب واشتد بك الغيظ، وقوله {الفَضْلَ بَيْنَكم} كأنها تُشير لكل بِرٍّ مخصوص بين اثنين مهما كان بسيطًا يسيرًا لا يعلمه غيرهما، لذلك خُتمت الآية بقوله تعالى {إنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}، ليستحضر المؤمن شعور مراقبة الله، فهو الذي يعلم البِرّ، جليله ودقيقه، وهو الذي يُحاسب على تذكره وتركه، وهذا المبدأ القرآني العظيم وإن ورد في خصوص الزوجين وتأكد في حقهما، لكنه يَصدُق في كل صحبة وعشرة؛ أقارب، أصحاب، زملاء عمل، طلاب علم، فهذا خُلق النفوس النقية المفطورة على المروءة والنُبل، الموصولة بالله في كل حال، لا النفوس القلقة التي تجحد البِرّ وتكفر العشير.
وهو ما يعكس تميز كبير لبنية الشريعة عن أي بنية وضعية، في كونها بنية أخلاقية بالأساس، تحرص على الارتقاء بأخلاقيات الناس لا مجرد تنظيم العلاقات بينهم، وتهدف إلى تحقيق التماسك الاجتماعي الذي يؤدي لعزة الأُمة وفاعليتها دون الاعتماد الكبير على وجود سُلطة.
ولذلك سنلحظ استخدام القرآن تعبير “الأخوة” في سياقات بعض آيات الأحكام، مثل آية القصاص {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [سورة البقرة: الآية ١٧٨]، وآية الصلح {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [سورة الحجرات: الآية ١٠]، وآية التجسس {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [سورة الحجرات: الآية ١٢]؛ في نوعٍ من التأليف بين المسلمين، والتأكيد على بقاء إخوة الدين حتى في أشد أحوال اختلال العلاقات الاجتماعية، لأنه كما قال الطاهر بن عاشور (١٨٧٩: ١٩٧٣م): “الأصل الذي جاء به القرآن؛ جعْل التوافق في العقيدة كالتوافق في نَسَب الأُخوة، فإن التوافقَ في الدِّين آصرةٌ نفسانية، والتوافقَ في النَّسب آصرةٌ جسدية، والروحُ أشرفُ من الجسد” [6].
كما سنلحظ استخدام القرآن تعبير “الجمال” في سياقات بعض الأحكام العملية وأخلاقها رغم شدتها، مثل آية الطلاق: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [سورة الأحزاب: الآية ٤٩]، وفي آية الصفح وهو العفو: {وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ}[سورة الحجر: الآية ٨٥].
واستخدام تعبير “الإحياء” في سياق النهي عن القتل، قال تعالى: {مِن أجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إسْرائِيلَ أنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أوْ فَسادٍ في الأرْضِ فَكَأنَّما قَتَلَ النّاسَ جَمِيعًا ومَن أحْياها فَكَأنَّما أحْيا النّاسَ جَمِيعًا} [سورة المائدة: الآية ٣٢]، أي من استنقذها من الموت، إذ لما كانت الروح عظيمة عند الله؛ عظم إزهاقها بغير حق، وكما عظم وزر إزهاقها؛ عظم أجر استنقاذها.
سابعًا: جَعل الأخلاق ركنًا من أركان الحكم الشرعي، أو شرطًا فيه، كجعل الصدق شرطًا في الشهادة في قول الله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [سورة الحج: الآية ٣٠]، وقوله: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [سورة الفرقان: الآية ٧٢]، وجَعل العدالة شرطًا في الشاهد، كما في آية الوصية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [سورة المائدة: الآية ١٠٦]، وفي آية الطلاق: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [سورة الطلاق: الآية ٢]، وجَعل التوبة سببًا لتوقيف العقاب في آية الحرابة: {إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ * إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة المائدة: الآيتان ٣٣: ٣٤]، فالمُخاطب هنا ليس فقط الجاني – كما بينّا في الوجه الملمح السابق – بل أيضًا المجتمع الذي ليس له سُلطة، الذي عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «فِيمَا بَيْنَكُمْ» في حديث: «تَعَافَوُا الْحُدُودَ فِيمَا بَيْنَكُمْ، فَمَا بَلَغَنِى مِنْ حَدٍّ فَقَدْ وَجَبَ» [7]، فالعلاقات الاجتماعية في النظام الإسلامي مبنية على الولاء والبراء لله ولرسوله والمؤمنين (المجتمع الإسلامي)، وهو ما يُحقق معنى الأُمة [8].
ومن أعجب ما ورد في هذا الملمح منع المواعدة والتصريح بالخطبة في المعتدة لطلاق أو وفاة في قول الله تعالي: {ولا جُناحَ عَلَيْكم فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِن خِطْبَةِ النِّساءِ أوْ أكْنَنْتُمْ في أنْفُسِكم عَلِمَ اللَّهُ أنَّكم سَتَذْكُرُونَهُنَّ ولَكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إلّا أنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا ولا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتّى يَبْلُغَ الكِتابُ أجَلَهُ} [سورة البقرة: الآية ٢٣٥]، لأن التعجل ذريعة إلى الوقوع فيما يُعطلُ حكمة العدة، أو بالتعبير البديع للطاهر بن عاشور: “فإن دبَيبَ الرَّغبةِ يُوقعُ في الشهوة”.
فالأخلاق لم تعد مجرد وصف يُطلق على الأحكام، بل صارت مكونًّا متداخلًا فيها، بحيث تُشكل معها نسيجًا واحدًا، فإما أن يُؤثر الخُلق في الحكم الشرعي، وإما أن يحمي الحكم الشرعي الخُلق، وهذا من أشد عوامل تهذيب النفس البشرية، ومدافعة نوازعها عن الانجذاب إلى الشر، وترويض النفس على الأخلاق الحسنة الطيبة، وإيقاظ الضمير الإنساني وتحقيق الرقابة الذاتية للنفس على السلوك.
ومنه نفهم لماذا يُفصِّل القرآن في بعض الأحكام الشرعية على ما نحو ذكرت، فالمقصود ليس الحكم الشرعي في ذاته فقط، إنما ما ينقدح في الذهن مما يُحيط بهذا الحكم الشرعي أيضًا؛ السردية العقدية الأخلاقية وعدم انفكاكها عن الحكم الشرعي أو انفكاك الحكم الشرعي عنها.
ثامنًا: اعتبار آيات الأحكام؛ للأعراف، تأكيدًا على مراعاة ما تألفه النفوس وتُسر به وتستحسنه ولا تُنكره، ما دامت هذه الأعراف لا تصادم الشريعة ولا تتنافر معها، ففي آية الوصية: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [سورة البقرة: الآية ١٨٠]، وفي آية عدة المطلقات: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [سورة البقرة: الآية ٢٢٨]، وفي آية نفقة الرضاع والمولود: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} [سورة البقرة: الآية ٢٣٣]، وفي آية القصاص: {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [سورة البقرة: الآية ١٧٨]، وغيرها أمثلة كثيرة.
فالمساحة التي تركتها الشريعة للأعراف مساحة واسعة جدًا أوسع من أي نظام وضعي، لأن الشريعة لم تأت لتصادم المجتمعات أو تقهرها، إنما لتصلحها وما دام إصلاحها لا يتعارض مع ما تعارفت عليه هذه المجتمعات فلا حرج فيها.
تاسعًا: تأكيد شوكة الإسلام وقوته، من خلال العديد من الأحكام الشرعية مثل قول الله تعالى في الجهاد: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة التوبة: الآية ٤١]، وقوله عز وجل: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة التوبة: الآية ٥]، وآية الجزية في قول الله عز وجل: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [سورة التوبة: الآية ٢٩].
ويدخل في تأكيد شوكة الإسلام؛ تقوية الشوكة الاجتماعية من خلال تقوية بنية الأسرة كأهم نظام اجتماعي وتوسيع قاعدتها، منها؛ جعل المعاني المعنوية أساس تماسك الزواج بدلًا من النسب والمال كما في قول الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [سورة الروم: الآية ٢١]، وآية تحريم العَضل، وهو منع المرأة من أن تتزوج بالكفء ظلمًا من باب التضييق عليها: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [سورة البقرة: الآية ٢٣٢]، وآية منع الظهار، وهو تشبيه الزوج الزوجة بامرأة محرمة عليه، وكان بمنزلة الطلاق، فأبطله الإسلام واعتبره مجرد يمين موجب للكفارة: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [سورة المجادلة: الآيات ٢: ٤].
عاشرًا: ربط الأحكام الشرعية بالانتماء الديني، وتقويض كل أشكال السيادة الأخرى، وإحلال الانتساب الديني محلها في القيمة والاعتبار، فطبيعة البشر أنها تميل للانتماءات الأضيق نطاقًا، فتمكين الانتماء للدين لم يكن ليتم على أكمل وجه إلا بتقويض كل الانتماءات الأضيق، ومنه قول الله تعالى: {فَإنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إلى الكُفّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهم ولا هم يَحِلُّونَ لَهُنَّ وآتُوهم ما أنْفَقُوا ولا جُناحَ عَلَيْكم أنْ تَنْكِحُوهُنَّ إذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ولا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الكَوافِرِ واسْألُوا ما أنْفَقْتُمْ ولْيَسْألُوا ما أنْفَقُوا ذَلِكم حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكم واللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} فبعد أن اسْتَقْصَت الآيات ما يجب من المعاملة مع المشركين في الزواج ثم المُبايعات التعبدية التي عليهم جاء في ختامها: {يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَما يَئِسَ الكُفّارُ مِن أصْحابِ القُبُورِ} [سورة الممتحنة: الآيات ١١: ١٣]، فأهدر كل انتماء لغير الإسلام والمسلمين، ليُبيّن أن الأحكام الشرعية فرع عن هذا الانتماء.
وفي آية أخرى لكنها خاصة بحكم تعبُدي أسوقه للتوضيح فقط، وهي آية اتجاه القِبْلَة: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [سورة البقرة: الآية ١٤٣]، فتغيير القبلة من خلال حدث “تغيير القبلة“؛ لإعادة بناء قداسة الكعبة ومفهوم القِبْلَة في أذهان الناس، حتى يقطع الإسلام علائق الماضي تمامًا، وينفي أي احتمال للاتباع؛ ألفةً لأديان أو أسلاف أو أعراف أو عادات قديمة مهما كانت قداستها، لذلك عَبر القرآن عن ثقل هذا الأمر بلفظة “كَبِيرَةً”؛ لشدة الحرج الاجتماعي الذي وقعوا فيه بالانصياع لأمر الله تعالى.
وأهم ما في هذا الملمح من ملامح ترسيخ دعائم النظام الإسلامي من خلال آيات الأحكام الشرعية؛ تغيير المعايير الاجتماعية التي تُقاس على أساسها المكانة الاجتماعية، وتحولها من معيار النسب والقبيلة والثروة إلى معيار الدين، فتتلاشى كل إحباطات الطبقات الضعيفة والمتوسطة نتيجة تفاوت الوجاهة العائلية والسياسية والمادية ونحو ذلك.
حادي عشر: دارت آيات الأحكام بين كلية وجزئية، فالكلية وهي الأكثر تناولًا في القرآن كان الهدف منها تثبيت الحكم مع إتاحة قدر من المرونة في تفصيل جزئياته من خلال الحديث النبوي ثم إجماعات الفقهاء واختلافاتهم، مثل آية الربا، وآية العقود، وآية الطلاق، وغير ذلك، مثلًا آية الطلاق: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [سورة البقرة: الآية ٢٢٩]، فكليتها هي التي سمحت للفقه بمساحة واسعة يتحرك فيها، ومن خلالها حصل التجديد في الدين عبر “الاجتهاد“، فنجد مثلًا ابن تيمية (ت ٧٢٨هـ / ١٣٢٨م) يأتي في زمنٍ متأخر ليجتهد بعدم وقوع الطلاق ثلاثًا في المجلس الواحد، وانعقاده طلقة واحدة ليأخذ به جمهور العلماء المعاصرين وتتبناه كافة الأنظمة الإسلامية الحديثة باختلاف مذاهبها الفقهية المعتمدة.
أما الجزئية فكان الهدف منها حفظ دعائم النظام الاجتماعي دون أي اعتبار لاختلاف الزمان والمكان، مثل آيات المواريثوآيات المحرمات من النساء.
هذه بعض ملامح آيات الأحكام العملية غير التعبدية المحضة التي كانت أساسًا للتشريع الإسلامي ورسخت دعائم النظام الاجتماعي لدولة الإسلام.
وهي حكمة تعمق بعض آيات القرآن في تفصيلات بعض الأحكام الشرعية في القرآن، فعدم إدراك هذا الترابط بين العقيدة والأخلاق والحكم الشرعي في نظام الأوامر والنواهي (التكليف) الذي يذكره القرآن؛ يُسبب الخطأ على القرآن وعدم فهم الحكمة من وراء هذه التفصيلات وتخليدها في كتاب الله عز وجل، رغم ما تبدو عليه من البساطة ورغم ورودها في السُّنة، فالمغزى منها يتجاوز الحكم الشرعي المحض (كأمر ونهي)، لأن الصورة الكبرى التي يُراد أن نفهما هو هذا المزج القرآني بين الشرائع والعقائد والأخلاق والشعائر، ونَظْمها في عقدٍ واحد، يجعل الإذعان لنظام الشريعة يسير ومرغوب، بعد أن يفتح لها القلوب، فيصير اتباعها دليل الإيمان.
———-
* المقال جزء من موضوع “التحولات التي أحدثتها البعثة المحمدية في النظام القانوني عند العرب”، في الفصل الثالث المعنون: “كيف بنى المسلمون نظامهم الخاص”، من كتاب (كيف صنعنا القانون؟: الشريعة والقانون في سياق تاريخي)، يصدر في نهاية عام ٢٠٢٤م عن مركز أركان للدراسات والأبحاث والنشر إن شاء الله.
[1] أخرجه أحمد في مسنده (٥/ ٤١١) وغيره من حديث أبي نضرة مرسلًا، والبيهقي في شعب الإيمان (٧/ ١٣٢)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (٣/ ١٠٠) وغيرهما من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وللحديث طرق أخرى عن غير واحد من الصحابة.
[2] صحيح أخرجه البخاري في صحيحه (٦٤٨٧/ كتاب الرِّقاق) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ومسلم في صحيحه (٢٨٢٢/ كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
[3] محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح القرطبي: الجامع لأحكام القرآن (تفسير القرطبي)، تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، دار الكتب المصرية (القاهرة)، الطبعة الثانية ١٣٨٤هـ / ١٩٦٤م، ج ١ ص ٧٥.
[4] للمزيد حول هذا الموضوع انظر بتوسع: “تكامل التشريع مع القيم والمبادئ الأخلاقية” في كتاب (الشريعة المعجزة)، مركز أركان للدراسات والأبحاث والنشر، الطبعة الأولى ٢٠٢١م، ص ٨٠ وما بعدها.
[5] بينتُ هذا المبدأ بالتفصيل في الفصل الثاني: الأُسس الفلسفية للتشريع الإسلامي، من كتاب (الشريعة المعجزة)، مرجع سابق، ص ٨٢ وما بعدها.
[6] محمد الطاهر بن عاشور: تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد (التحرير والتنوير)، الدار التونسية للنشر (تونس)، ١٩٨٤م، ج ٢ ص ١٤٢.
[7] حسن بشواهده: أخرجه أبو داود في سننه (٤٣٧٦/كتاب الحدود)، والنسائي في سننه (٤٨٨٥/كتاب قطع السارق)، وعبد الرزاق في مصنفه (١٠/ ٢٢٩)، والحاكم في المُستدرك (٤/ ٤٢٤)، والبيهقي في سننه الكبرى (٨/ ٣٣١)، وغيرهم جميعهم من حديث ابن جُريج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وابن جُريج هو عبد الملك بن عبد العزيز، ولم يسمع من عمرو بن شعيب كما روي عن البخاري والبيهقي والعلائي وغيرهم.
غير أن للحديث شواهد منها ما أخرجه البخاري في صحيحه (٦٧٨١/كتاب الحدود) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتي النبي صلى الله عليه وسلم بسكران، فأمر بضربه فمنا من يضربه بيده ومنا من يضربه بنعله ومنا من يضربه بثوبه، فلما انصرف قال رجل: ما له أخزاه الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا تَكُونُوا عَوْنَ الشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ».
[8] في حين أنها في نظام الدولة الحديثة مبنية على الولاء للوطن الذي تُمثله السلطة الحاكمة، وهو ما يُشكِّل مفهوم القومية، فالفكرة الأساسية من الترتيبات القانونية إعادة صياغة هذه العلاقات في النظام الإسلامي بإعادة استحقاقات المجتمع له، وفي الدولة الحديثة بسلبها جميعًا للسُّلطة!