أحد المعاني المركزية التي أكدت عليها الشريعة؛ الاستطاعة.. “لا تُكلَّفُ نفسٌ إلا وُسعها”، “لا یُكلِّفُ الله نفسًا إلا وُسعها”، “لا يُكلِّفُ الله نفسًا إلا ما آتاها”، “ولا نُكلِّفُ نفسًا إلا وُسعها”، “يُريد الله بكم اليُسر ولا يُريد بكم العُسر”..
عشرات الأوامر والنواهي الشرعية؛ الاستطاعة ركن فيها أو شرط أو سبب أو علة.. تأمل؛ تعدد الزوجات، منع بيع الغرر، بيع ما لا تملك، الكفارات، الطلاق، وكثير من الأحكام الأخلاقية مردها للاستطاعة، تأمل؛ الرشد (الاعتدال)، القناعة، التواضع، الإحسان، الكرامة، الثقة بالنفس.. كل هذه الأحكام وغيرها؛ تستمد قوتها وفاعليتها من “الاستطاعة” كقيمة مركزية في الشريعة!
لماذا؟!
لأن الإسلام دين رحمة.. جاء بما يوافق فطرة الناس، وأتى بما يناسب استعداداتهم الروحية والجسدية.. ولذلك كان من قواعد الفقه العامة أن المشقة تجلب التيسير..
لو تأملت مثلًا لمشكلة اجتماعية مثارة حاليًا مثل “قائمة منقولات الزوجية” عند بعض الشعوب العربية.. مردها في النهاية للتكلف بما لا حاجة فيه، وتكليف من لا يستطيع بما هو فوق استطاعته!
من أهم التحولات التي أتى بها الإسلام في بنية الأسرة أنه جعلها قائمة على أساس تراحمي كما يقول المسيري..
لأن الشريعة نظرت للأسرة بوصفها أهم نظام اجتماعي يضمن فاعلية الأُمة وعزتها، ولازم هذا الأمر؛ جعلت المعاني المعنوية تقوى ومودة وعشرة ورحمة؛ أساس تماسك الزواج بدلًا من / أولى من النسب والمال ونحوهما.
ما حصل بعد ذلك هو أن التأثر بالعلمنة لم يكن في نطاق التعليم والسياسة والقانون وغيره فقط.. بل أيضًا في بنية الأسرة، فأصبحت علاقة الزواج قائمة على أساس تعاقدي وتنافسي؛ ماذا سيحضر الزوج / الزوجة؟ من عليه الستائر أو الأجهزة؟ الأثاث غرفتين ولا ثلاثة؟! والخطبة بدلًا من أن تكون للتعارف أصبحت للتفاوض، على المهر أو الشبكة أو المؤخر؛ الخاطب يعرض عشرين، لكن العُرف خمسين، وأهل الزوجة طلبهم أربعين، نوازن فيدفع ثلاثين.. وهكذا!
مشاكل قائمة الزوجية والشبكة والمؤخر.. إنما هي نتاج هذا التحول في النظرة للزواج!
ولأن من يصنعون “القانون” من نفس المجتمع المغروس في وحل المادية والعلمنة؛ ففكروا بنفس الطريقة، ونظروا للموضوع نفس النظرة؛ فأخرجوه من دائرة التراحم: العشرة والمودة (ميدان الأسرة) إلى دائرة التعاقد: من يملك؟ ومن بدد؟ (ميدان التعويضات والجرائم والعقوبات)!
حتى عالم الفتوى صار أعقد من القانون..
والنتيجة.. كانت الماديات هي الصخرة التي تكسرت عليها أحلام الخاطبين والراغبين في الزواج، ومئات الألوف من القضايا في المحاكم بسبب الماديات، ونفسيات مدمرة، وعائلات ممزقة، وشباب غارقة في الديون عند الزواج وعند الطلاق، وعزوف بالجملة عن الزواج بسبب الحسابات والتحسبات!
المشكلة حقيقةً ليست في حكم قائمة الزوجية، إنما في التكلف بما لا حاجة فيه، وتكليف من لا يستطيع بما هو فوق استطاعته..
فإذا كانت الاستطاعة شرط في العبادة.. فكيف بما هو دونها؟!
وإذا كان الله عز وجل لم يُكلف الناس بما لا يُطاق.. فكيف بتكليف الإنسان لأخيه؟!