وقت القراءة 16 دقيقة
469 عدد المشاهدات

آخر تحديث: ٣٠ ديسمبر ٢٠١٩م

ولاشك أن التبعات السياسية للتقرير عقب صدوره تُظهر الصورة الحقيقية القاتمة للنظام الدولي، وأقصد بذلك ما أضافته هذه التبعات في رصيد ممالأة النظام العالمي للكيان الصهيوني وتحصينه من العقاب، فرغم قوة الأدلة التي يُقدمها التقرير ومنطقية حُججه القانونية وخبرة واضعيه الحقوقية، إلا أن لجنة “الإسكوا” التي أصدرته تعرضت لضغوط شديدة لسحبه فور صدوره، والتي على خلفيتها تم رفعه من موقع المنظمة الإلكتروني وتم دفع الأمينة التنفيذية للجنة لتقديم استقالتها..

  • تمهيد:

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد..

لاريب أن فكرة “الكفاح” أو “المقاومة” هي إحدى أهم السمات المميزة لحالة الصراع عن حالة الاستقرار في الإطار السياسي، إذ الصراع علاقة تصادمية بين طرفين يستحيل الوِئام أو الائْتلاف بينهما، لا ينتهي إلا بتسليم أحدهما أو هلاكه.

والحقيقة أن مفهوم المقاومة ونظرياتها لا تحظى باهتمام بحثي كبير في الأدبيات العربية، أو على الأقل لا تحظى بذات الاهتمام الذي يحظى به مفهوم الصراع ونظرياته، سواء من جهة تحليل الظاهرة أو دراسة أبعادها وأدواتها، بعكس ما يُمكن أن نلمسه في الأدبيات غير العربية، كاهتمام الأدبيات الإيرانية مثلًا بقضية اقتصاد المقاومة، أو أدبيات أمريكا اللاتينية بقضية التحرر المعرفي، أو الأدبيات الفرنسية بتجارب المُهمشين من أجل فهم أشكال المقاومة.

إن النظرة الأولى لفكرة المقاومة تفرض وجود طرفين أحدهما يُهيمن والآخر يقاوم، حيث علاقة القوة بينهما غير متكافئة، وهي وإن كانت عنصر مميز في أي صراع لا تتكافَأ فيه القوى، فهي أيضًا عنصر مميز فيما هو أعم من ذلك وهو كل ممانعة لسُّلطة، ولذلك فأشكالها تختلف باختلاف أسباب الممانعة والهامش الذي تتحرك فيه، وتقاس قوتها بحسب قدرتها على تحقيق أهدافها الجزئية وقُربها من تحقيق أهدافها الكلية.

وإذا كنا بصدد صراع طويل المدة شديد التعقيد مثل الصراع الفلسطيني / الصهيوني، فإننا حين نتكلم عن المقاومة، نتكلم بأسف عن أشكال محدودة منها تنوعًا وتأثيرًا، سواء العسكرية أو السياسية، وحين نقول العسكرية فإننا نعني صور استخدام القوة، في حين تعني السياسية جميع الأشكال الأخرى، والتي تندرج تحتها القانونية والاقتصادية والمعرفية والثقافية إضافةً إلى السياسية بالمفهوم التقليدي.

ولسنا بصدد دراسة أشكال المقاومة وقوة كل منها في التأثير، أو تأثير إحداها على الأخرى سلبًا وإيجابًا، ولكن نركز في هذه الورقة البحثية على دراسة نموذج لشكل من أشكالها، وهو تقرير لجنة الأمم المتحدة الاجتماعية والاقتصادية لغرب آسيا (إسكوا) بشأن اتهام إسرائيل بارتكاب جريمة ضد الإنسانية تجاه الشعب الفلسطيني، إذ يُمثل نموذج فريد – بل يكاد يكون هو الأول من نوعه – لما يُمكن أن يُعرف بـ “المقاومة القانونية” في ملف الصراع الفلسطيني / الصهيوني.

  • اتهام الاحتلال الإسرائيلي بجريمة ضد الإنسانية للمرة الأولى:

في ما يزيد عن ستين صفحة صدر تقرير لجنة الأمم المتحدة الاجتماعية والاقتصادية لغرب آسيا (إسكوا) المعنون “الممارسات الإسرائيلية تجاه الشعب الفلسطيني ومسألة الفصل العنصري (الأبارتايد)” [1]، الذي اتهم الاحتلال الإسرائيلي بتأسيس نظام فصل عنصري يهدف إلى تسلّط جماعة عرقية وتسيّدها على أخرى، والمعروف في القانون الدولي بجريمة “أبارتايد”، لممارستها عددًا من السياسات ضد الفلسطينيين التي تهدف إلى فصلهم عنصريًا عبر تقسيمهم إلى فئات متعددة وإخضاع كل فئة منها لترتيبات قانونية مختلفة.

ويعزى الفضل في إعداد التقرير إلى الأستاذين القانونيين ريتشارد فولك [2] و فيرجينيا تيلي [3]، حيث وجهت لجنة “الإسكوا” إليهما طلبًا ببحث مدى ممارسة الاحتلال الإسرائيلي لنظام الفصل العنصري بحق الشعب الفلسطيني، وهو ما استغرق نحو عامين لإعداده، وخَلص – بناء على الاستقصاء العلمي الدقيق والأدلة القاطعة التي أوردها – إلى أن الاحتلال الإسرائيلي بسياساتها وممارساتها مذنبة بما لا يدع مجالًا للشك بارتكاب جريمة ضد الإنسانية هي الفصل العنصري (أبارتايد) كما تعرفها نصوص القانون الدولي.

صدر التقرير في منتصف مارس 2017م، وأعقبه بيومين فقط طلب رسمي من الأمم المتحدة – بناء على طلب الولايات المتحدة – بسحبه، حيث صرح ستيفان دوجاريك – المتحدث باسم الأمم المتحدة – أن  نشر التقرير تم دون أي تشاور مسبق مع الأمانة العامة للمنظمة وهو لا يعكس بحال وجهات نظرها أو نظر الأمين العام لها.

وعلى خلفية ذلك تمت أرشفة التقرير وموجزه التنفيذي من موقعها الإلكتروني، وقبول استقالة ريما خلف – وكيلة الأمين العام للأُمم المتحدة والأمينة التنفيذية للجنة “الإسكوا” – بعد أن تقدمت باستقالة مسببة [4] إلى الأمين العام للمنظمة الأممية أنطونيو غوتيريش، في أعقاب الضغوط التي مورست عليها من أجل سحب التقرير.

  • كيف مارس الاحتلال الإسرائيلي الفصل العنصري ضد الشعب الفلسطيني؟

ارتبطت جريمة الفصل العنصري (الأبارتايد) في الأصل بحالة محددة هي حالة جنوب أفريقيا، لكنها أُطلقت بعد ذلك في القانون الدولي على كل حالة يُمارس فيها الاضطهاد المنهجي ضد جماعة عرقية معينة، وعُدت واحدة من أهم الجرائم ضد الإنسانية التي أقرتها المحكمة الجنائية الدولية عام ١٩٩٨م [5]، حيث عَرفها نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، بأنها: “أية أفعال لا إنسانية ترتكب في سياق نظام مؤسسي قوامه الاضطهاد المنهجي والسيطرة المنهجية لجماعة عرقية واحدة إزاء أية جماعة أو جماعات عرقية أخرى، بنيّة الإبقاء على ذلك النظام” [6].

ويجد هذا النص أصله في المادة الثانية من الاتفاقية الدولية لقمع جريمة الفصل العنصري والمعاقبة عليها – والتي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1973م جريمة “الفصل العنصري” بأنها: “الأفعال اللاإنسانية المرتكبة لغرض إقامة وإدامة هيمنة فئة عنصرية ما على أية فئة عنصرية أخرى واضطهادها بصورة منهجية” [7]، وتُحدد هذه الأفعال حصرًا بأنها:

  1. حرمان عضو أو أعضاء في فئة أو فئات عنصريًا من الحق في الحياة والحرية الشخصية بـ:

(أ) قتل أعضاء من فئة أو فئات عنصريًا.

(ب) إلحاق أذى خطير – بدني أو عقلي – بأعضاء في فئة أو فئات عنصريًا، أو بالتعدي علي حريتهم أو كرامتهم، أو بإخضاعهم للتعذيب أو المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو التي تحط من الكرامة.

(ج) توقيف أعضاء فئة أو فئات عنصريًا تعسفًا وسجنهم بصورة غير قانونية.

  1. إخضاع فئة أو فئات عنصريًا عمدًا لظروف معيشية يقصد منها أن تُفضي بها إلى الهلاك الجسدي، كليًا أو جزئيًا.
  2. اتخاذ أية تدابير – قانونية أو غير قانونية – يقصد بها منع فئة أو فئات عنصريًا من المشاركة في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية للبلد، وتعمد خلق ظروف تحول دون النماء التام لهذه الفئة أو الفئات، وخاصة حرمان أعضاء فئة أو فئات عنصريًا من حريات الإنسان وحقوقه الأساسية، بما في ذلك الحق في العمل، والحق في تشكيل نقابات معترف بها، والحق في التعليم، والحق في مغادرة الوطن والعودة إليه، والحق في حمل الجنسية، والحق في حرية التنقل والإقامة، والحق في حرية الرأي والتعبير، والحق في حرية الاجتماع وتشكيل الجمعيات سلميًا.
  3. اتخاذ أية تدابير – بما فيها التدابير القانونية – تهدف إلى تقسيمالسكان وفق معايير عنصرية بخلق محتجزات ومعازل مفصولة لأعضاء فئة أو فئات عنصريًا، أو حظر التزاوج فيما بين الأشخاص المنتسبين إلى فئات مختلفة عنصريًا، أو نزع ملكية العقارات المملوكة لأفراد منها.
  4. استغلال عمل أعضاء فئة أو فئات عنصريًا، لاسيما بإخضاعهم للعمل القسري.
  5. اضطهاد المنظمات والأشخاص بحرمانهم من الحقوق والحريات الأساسية، لمعارضتهم للفصل العنصري.

وعلى الرغم من أن جنوب أفريقيا كانت هي الأكثر ارتباطًا بالفصل العنصري، وتُمثل السياق الذي نشأ فيه هذا المصطلح، بل لم يتكرر استخدامه في أي سياق آخر، إلا أن توظيفه في السياق الفلسطيني من قبل تقرير لجنة “الإسكوا” تم بجدارة قانونية [8].

وقد أكد التقرير على أن القصد الجنائي متوافر وثابت في حق النظام الصهيوني، وتَمثل في الهيمنة العرقية التي بدت من القرارات والممارسات والتدابير التي اتبعتها حكومته، بل بدا أن هذا غرضًا أساسيًا قام عليه هذا النظام من واقع القوانين التي أصدرها برلمانه لخدمة مبدأ الدولة اليهودية.

فالقانون الأساسي (الدستور) الإسرائيلي ينص على أنه؛ “لا يجوز بأي شكل من الأشكال نقل الأراضي التي تحتفظ بها دولة إسرائيل أو هيئة التطوير الإسرائيلية أو الصندوق القومي اليهودي”، مما يضع إدارة هذه الأراضي تحت سلطة هذه المؤسسات بصورة دائمة، والتي تُعرف بـ “سُّلطة أراضي إسرائيل”، والتي تُمثل 93% من الأراضي ضمن حدود إسرائيل المعترف بها دوليا، وهي – قانوناً – مُحرّم استغلالها أو امتلاكها على غير اليهود، وهو نوع من الهيمنة العرقية كما يعرفها القانون الدولي بلا أدنى شك.

وليس هذا فحسب، بل إن هذا الحظر الخاص بالأراضي يندرج ضمن “الأغراض العامة” كما يرد في القانون الأساسي الإسرائيلي، والذي أشبه ما يكون بـ “أعمال السيادة”، حيث يحظر القانون الأساسي (الدستور) على أي حزب سياسي الطعن في الأغراض العامة.

ويعتمد نظام الاحتلال على عدة استراتيجيات جغرافية قانونية في الفصل العنصري (الأبارتايد)، مثل استراتيجية “الهندسة الديموغرافية” التي تستعين بها لتثبيت وتعميق الهوية اليهودية للدولة، حيث تستخدم في ذلك بعض الأدوات القانونية والاقتصادية، منها “قانون العودة” الذي يمنح اليهودي أيًا كانت جنسيته حق دخول إسرائيل والحصول على جنسيتها، بما يعني أن جميع يهود العالم يُمكن النظر إليهم كمواطنين إسرائيليين محتملين بالحق القانوني.

إلا أن أهم استراتيجية أشار إليها تقرير “الإسكوا” هي استراتيجية “تفتيت الشعب الفلسطيني”، باستخدام تدابير عسكرية وسياسية، كالاحتلال والتقسيم ومصادرة الأراضي وهدم المنازل والتهجير القسري وبناء المستوطنات والسيطرة على موارد المياه والتعذيب والاعتقال التعسفي المُمنهج، لتقسيم الفلسطينيين وتقطيع الأوصال الاجتماعية والثقافية بينهم، وإضعاف إرادتهم وقدرتهم على مقاومة موحدة فعّالة من شأنها تغيير الواقع الاستعماري.

ويوضح التقرير أنه منذ عام 1967م يعيش الشعب الفلسطيني في أربعة “فضاءات جغرافية”، تخضع لأنظمة قانونية مختلفة، ففي حين يُطبق القانون المدني – مقترنًا بقيود خاصة – على نحو مليون وسبعمائة ألف فلسطيني يعيشون في الأراضي المحتلة (إسرائيل)؛ يُطبق قانون الإقامة الدائمة على نحو ثلاثمائة ألف من نظرائهم الذين يعيشون في مدينة القدس، والقانون العسكري على أكثر من ستة ملايين وستمائة ألف فلسطيني يعيشون منذ عام 1967م في الضفة الغربية وقطاع غزة ومخيمات اللجوء، وأخيرًا يُحرم غيرهم من الخضوع لأي نظام قانوني، حيث تمتنع تمامًا عودة أكثر من ثلاثة مليون فلسطيني من اللاجئين والمنفيين قسرًا الذين يعيشون خارج المناطق الواقعة تحت سيطرة إسرائيل.

وكل هذه الاختلافات في الترتيبات القانونية تشترك فيما بينها في القمع والاضطهاد والتمييز، حيث تهدف إلى فرض الهيمنة العرقية وتعزيزها، وزيادة معاناة الفلسطينيين في الحصول على التعليم والرعاية الصحية والعمل وفي حقوق الإقامة والتملك.

وبحسب التقرير، فلا يُمكن حلّ المشكلة الفلسطينية بحلّ الدولتين أو في أي مقاربة إقليمية أو دولية ما لم يتم تفكيك نظام الفصل العنصري (الأبارتايد) الذي فرضته إسرائيل على الفلسطينيين، بغية تحقيق العدالة باستعادة الشعب الفلسطيني لكامل حقوقه، بما في ذلك حق تقرير المصير، وحق اللاجئين والمنفيين في العودة، وإلا فإن استمرار الاحتلال الإسرائيلي في انتهاك القانون الدولي دون رادع يُعرض المنظومة الدولية كلها للانهيار.

وقد حَمَّلت ريما خلف – الأمينة التنفيذية للجنة “الإسكوا” – المجتمع الدولي مسئولية غير مباشرة عن الجرائم المرتبكة بحق الشعب الفلسطيني، إذ صرحت أثناء الإعلان عن تقرير اللجنة في مقر الأُمم المتحدة بأن تجاهل المجتمع الدولي هو الذي يُشجع إسرائيل على انتهاكاتها المتواصلة والمتراكمة للقانون الدولي، ودعا ريتشارد فولك – أستاذ القانون الدولي المُشارك في إعداد التقرير – مختلف هيئات الأمم المتحدة إلى أخذ تحليل التقرير وما توصّل إليه بعين الاعتبار والتفكير أكثر بالإجراءات العملية التي يُمكن اتخاذها دعمًا لأهداف اتفاقية قمع جريمة الفصل العنصري والمعاقبة عليها [9].

  • قيمة تقرير “الإسكوا” من الوجهتين القانونية والسياسية:

رغم أن تقرير لجنة “الإسكوا” تتضمن بعض الإشكاليات التي لا ينبغي غض الطرف عنها، والتي من أهمها: اعترافه ضمنًا بدولة الكيان الصهيوني (إسرائيل)، واستخدامه تعبيرات تحد من نطاق دولة فلسطين، فيقصد مثلًا بتعبير الأراضي المحتلة مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة، وبعيدًا عن مسألة الفصل العنصري (الأبارتايد) التي عنى بها فنجده أحيانًا يصور القضية الفلسطينية على أنها نزاع بين دولتين يُمكن تسويته ببعض الإجراءات السياسية.

يُضاف إلى ذلك تجرده من القيمة الرسمية، فالحكم بكون الاحتلال الإسرائيلي نظام فصل عنصري ليس له أي قيمة قانونية رسمية إلا إذا صدر عن محكمة دولية، وهو ما لم يكن غائبًا عن واضعي التقرير، حيث انتهيا إلى التوصية بإحياء لجنة الأمم المتحدة لقمع الفصل العنصري، ومركز الأمم المتحدة لمناهضة الفصل العنصري – اللذين توقف عملهما عام 1994م بعدما تم التخلص من الفصل العنصري في جنوب أفريقيا – ودعوة الدول والحكومات والمؤسسات إلى إطلاق ودعم مبادرات المقاطعة للنظام الإسرائيلي، وسحب الاستثمارات من الشركات والمؤسسات الداعمة له، وفرض العقوبات الاقتصادية والعسكرية عليه، إلى غير ذلك من مبادرات هادفة إلى التصدي لسياساته وممارساته.

فرغم ما تقدم، إلا أنه يظل للتقرير المشار إليه قيمة (محدودة) من أوجه عديدة، أهمها:

أولًا: قيمته السياسية على المستوى الدولي، من حيث صدوره عن واحدة من أهم مؤسسات منظمة الأمم المتحدة، وليس بالأمر الهين أن تستنتج هيئة من هيئات الأمم المتحدة أن نظامًا ما يمارس جريمة ضد الإنسانية، فضلًا عن أن تكون هي جريمة الفصل العنصري التي هي أخطر ثاني جريمة ضد الإنسانية بعد الإبادة الجماعية، ولاسيما إذا كان هذا النظام هو النظام الإسرائيلي، ومن هذه الزاوية يُعد هذا التقرير هو الأول من نوعه الذي يصدر عن منظمة دولية هي إحدى لجان الأمم المتحدة ويخلص بوضوح وصراحة إلى أن إسرائيل دولة عنصرية مارست كل صور الفصل العنصري التي نصت عليها اتفاقية حظره الدولية بصورة روتينية ومُمنهجة.

وفي ذات السياق لكن من جهة أخرى، لاشك أن التبعات السياسية للتقرير عقب صدوره تُظهر الصورة الحقيقية القاتمة للنظام الدولي، وأقصد بذلك ما أضافته هذه التبعات في رصيد ممالأة النظام العالمي للكيان الصهيوني وتحصينه من العقاب، فرغم قوة الأدلة التي يُقدمها التقرير ومنطقية حُججه القانونية وخبرة واضعيه الحقوقية، إلا أن لجنة “الإسكوا” التي أصدرته تعرضت لضغوط شديدة لسحبه فور صدوره، والتي على خلفيتها تم رفعه من موقع المنظمة الإلكتروني وتم دفع الأمينة التنفيذية للجنة لتقديم استقالتها.

ثانيًا: قيمته القانونية الإثباتية، حيث يمكن اعتباره أول تحقيق منهجي شامل للسياسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، فبرغم تجرده من القيمة القانونية الرسمية إلا أن له قوة إثباتيه من جهة توثيق الأدلة على الممارسات الإسرائيلية العرقية وانعكاساتها على الشعب الفلسطيني وعلى النظام الدولي.

ثالثًا: قيمته الأنثروبولوجية، إذ لفت الانتباه إلى أوجه مهمة في القضية الفلسطينية تعكس معاناة الشعب الفلسطيني وخطورة ممارسات وسياسات الاحتلال الإسرائيلي، وتُفسر قدرًا كبيرًا من سلوك وآثار المقاومة الفلسطينية في مراحلها المختلفة، وهو ما يستلزم ضرورة البحث عن وسائل وأدوات تحد من أضرار سياسات التفتيت التي تمارسها السلطة الإسرائيلية لحساب تقوية المجتمع الفلسطيني وتوحيد المقاومة.

فمدة الاحتلال وطبيعته طوال هذه المدة، تفرض مقاربة جديدة تربط بعمق بين ممارساته وآثرها الماضية والحاضرة والمستقبلية، وتقرير “الإسكوا” يُمثل تجربة مهمة في تحليل الاحتلال من هذه الوجهة، وهو ما يتطلب فهم أكثر عمقًا لتداعيات السياسات والاستراتيجيات الإسرائيلية على جميع المستويات لاسيما الاجتماعية والثقافية، وتطوير سياسات واستراتيجيات المقاومة وأدواتها في المقابل.

  • خاتمة:

إن الإشكالية التي تتعرض لها أغلب صور المقاومة السياسية تنطلق دومًا من البحث في مدى تأثيرها وجدواها في التغيير، والسؤال الذي يلزم أن نبدأ منه في بحث هذه الإشكالية: هو هل يجب أن يكون إحداث التغيير هو الهدف من المقاومة؟

وللإجابة عن هذا التساؤل، يلزمنا ابتداءً أن نُفرق بين الهدف الكلي والأهداف الجزئية للمقاومة، فالهدف الكلي لكل مقاومة بالطبع هو تحقيق التغيير وهذا لن يتأتى إلا بجهاد المُحتل وردعه بالقوة، لكنه قد لا يتحقق إلا بتضافر أهداف جزئية، وهنا تبرز جدوى تنوع أشكال المقاومة وصورها، فعلى سبيل المثال: المقاومة الثقافية التي تهدف إلى عدم التعاطي مع ثقافة المُحتل أو التماهي مع أعرافه وتقاليده، من أهم أسباب الحفاظ على تماسك البنية الاجتماعية للمُقاوم، والمقاومة الاقتصادية التي تهدف إلى مقاطعة المستعمر وإرهاقه اقتصاديًا، هي من أهم أسباب إضعاف بنيته الاجتماعية.

وفي إطار المقاومة القانونية في القضية الفلسطينية التي هي موضوع هذه الورقة البحثية، فعلى الرغم من صعوبة – وربما استحالة – ما يمُكن أن تحققه على مستوى المحاسبة، في ظل نظام دولي مُمالِئ للاحتلال الإسرائيلي كما تبين، فإنه يُمكن تحقيق عدد من الأهداف الجزئية بالغة الأهمية، منها:

– توفير الغطاء القانوني للكفاح المسلح الفلسطيني، والتأكيد على فكرة أن القضية الفلسطينية قضية صراع ديني تحرري لا نزاع سياسي.

– توفير الغطاء السياسي لاستنهاض مشروع سياسي فلسطيني قويم داعم لمقاومة داخلية حقيقي لا يُمكن لأحد الهيمنة عليه.

– تنشيط التفاعل مع الحركات الشعبية والفاعلين السياسيين والحملات المدنية الداعمة للتحرر إقليميًا ودوليًا (جماعات الضغط) لاسيما على المستويين الاقتصادي والاجتماعي – وهما المستويان الأكثر أهمية في أي مشروع تحرري.

– فتح ملف اللاجئين ومعاناتهم خصوصًا في دول الجوار والتعاطي معه بصورة أكثر إيجابية.

وهذه الأهداف الجزئية وغيرها تصب جميعًا في صالح تحقيق الهدف الكلي للمقاومة وهو إزاحة المُحتل.

————

نُشرت الدراسة في دورية “قضايا ونظرات”، الصادرة عن مركز الحضارة للدراسات والبحوث، القاهرة، العدد التاسع حول القرار الأمريكي بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة إليها ومقاومته، أبريل ٢٠١٨م.

[1] للاطلاع على التقرير كاملًا:

web.archive.org/web/20170316054753/https://www.unescwa.org/sites/www.unescwa.org/files/publications/files/israeli-practices-palestinian-people-apartheid-occupation-english.pdf

[2] بروفيسور القانون الدولي في “جامعة برنستون” الأمريكية، والمقرر السابق للأمم المتحدة الخاص بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967م، وهو أحد أهم الخبراء في القانون الدولي وحقوق الإنسان والقضية الفلسطينية، له نحو ستين كتابًا وبحثًا منشورًا، من أهمها كتاب “فلسطين: شرعية الأمل”، وقد تعرض لهجمة شرسة من الردود المسيئة من قِبل بعض المسئولين والسياسيين في الولايات المتحدة وإسرائيل عقب صدور تقرير لجنة “الإسكوا”.

[3] بروفيسور العلوم السياسية في “جامعة جنوب إلينوي” الأمريكية، ورئيس قسم البحوث في مجلس أبحاث العلوم الإنسانية في جنوب أفريقيا حتى عام ٢٠١١م، والخبيرة في السياسات الإسرائيلية، ولها العديد من الكتب والدراسات في السياسة والأيديولوجيات.

[4] ربما تكون هذه هي المرة الأولى التي يتقدم فيها مسئول عربي في منصب دولي باستقالته بسبب موقف مناصر لقضية عربية، وهي اقتصادية أردنية معروفة حصلت على الدكتوراه في الأنظمة من “جامعة بورتلاند” الأمريكية، وشغلت عدة مناصب وزارية في بلدها قبل أن تتولى عام ٢٠١٠م منصب الأمينة التنفيذية للجنة “الإسكوا” بمنظمة الأُمم المتحدة.

ومما جاء في نص استقالتها: (وليس خافيًا علي ما تتعرض له الأمم المتحدة، وما تتعرض له أنت شخصيًا، من ضغوط وتهديدات على يد دول من ذوات السطوة والنفوذ، بسبب إصدار تقرير الإسكوا، وأنا لا أستغرب أن تلجأ هذه الدول، التي تديرها اليوم حكومات قليلة الاكتراث بالقيم الدولية وحقوق الإنسان، إلى أساليب التخويف والتهديد حين تعجز عن الدفاع عن سياساتها وممارساتها المنتهكة للقانون، وبديهي أن يهاجم المجرم من يدافعون عن قضايا ضحاياه، لكنني أجد نفسي غير قابلة للخضوع إلى هذه الضغوط، لا بصفتي موظفةً دوليةً، بل بصفتي إنساناً سوياً فحسب..

واضعةً في الاعتبار كل ما سبق، لا يسعني إلا أن أؤكد على إصراري على استنتاجات تقرير الإسكوا القائلة بأن إسرائيل قد أسست نظام فصل عنصري (أبارتايد) يهدف إلى تسلط جماعة عرقية على أخرى، إن الأدلة التي يقدمها التقرير قاطعة، وتكفيني هنا الإشارة إلى أن أيًا ممن هاجموا التقرير لم يمسوا محتواه بكلمة واحدة، وإني أرى واجبي أن أسلط الضوء على الحقيقة لا أن أتستر عليها وأكتم الشهادة والدليل..

وعليه، وبعد إمعان النظر في الأمر، أدركت أنني أنا أيضًا لا خيار لي، أنا لا أستطيع أن أسحب، مرة أخرى، تقريرًا للأمم المتحدة، ممتازَ البحثِ والتوثيقِ، عن انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، غير أنني أدرك أيضاً، أن التعليمات الواضحة للأمين العام للأمم المتحدة لا بد من أن تنفذ، ولذلك، فإن هذه العقدة لا تحل إلا بأن أتنحى جانبًا وأترك لغيري أن يقوم بما يمنعني ضميري من القيام به.. وبناء عليه، أقدم إليك استقالتي من الأمم المتحدة).

[5] وكان نظام الاحتلال الإسرائيلي واحدًا من سبع دول صوتت ضد إقرار القانون من أصل من ١٤٨ دولة.

[6] Rome Statute of the International Criminal Court, Rome, 17 July 1998, United Nations, Treaty Series, vol. 2187, P. 3.

[7] International Convention on the Suppression and Punishment of the Crime of Apartheid, 30 November 1973, United Nations, Treaty Series, vol. 1015, P. 244.

[8] جدير بالذكر أن الزعيم الجنوب أفريقي “نيلسون منديلا” يعتبر من طليعة من وظفوا مصطلح “الفصل العنصري” لصالح القضية الفلسطينية، وجاء هذا في تصريحه في اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني في الرابع من ديسمبر 1997م.

وسبقه إلى ذلك “أوري ديفيز” الأستاذ بمعهد الدراسات الشرق أوسطية في “جامعة دورهام”، والذي أخرج عام ١٩٨٧م كتاب “إسرائيل دولة فصل عنصري” وأصدر عدة مقالات ودراسات تُصنف الاحتلال الإسرائيلي باعتباره دولة فصل عنصري، ومن أهمها أيضًا كتاب “الفصل العنصري الإسرائيلي: إمكانيات النضال” عام ٢٠٠٣م.

وفي عام 2009م نشر فريق دولي من الباحثين القانونيين في “مجلس أبحاث العلوم الإنسانية” في جنوب أفريقيا دراسة موسعة تحليلية للبنية القانونية للاحتلال الإسرائيلي، بعنوان “الاحتلال والاستعمار والفصل العنصري” خلصوا فيها إلى أن دولة الاحتلال مذنبة بارتكاب العديد من ممارسات وسياسات الفصل العنصري القمعي ضد الفلسطينيين.

وفي ذات العام صدرت الطبعة الأولى لكتاب مهم عن الفصل العنصري في فلسطين بعنوان “الفصل العنصري الإسرائيلي: دليل المبتدئين” للصحفي البريطاني بن وايت، حيث فَصل في السياسات والقوانين الصهيونية حيال الأراضي والشعب الفلسطيني، وعلاقة الفصل العنصري الإسرائيلي بالفصل العنصري الجنوب أفريقي تاريخيًا وموضوعًا، واعتبر أن الأول أكثر تعقيدًا وسوءًا من الثاني برغم ارتباط جذوره به.

وفي ذات العام أيضًا تم تسليط الضوء على القضية إعلاميًا بشكل أكبر من خلال “محكمة راسل حول فلسطين” المعروفة اختصارًا بـ “RToP”، وهي محكمة افتراضية (شعبية) أسسها “برتراند راسل” مستعينًا بعدد من رؤساء الدول السابقين والعلماء والقضاة والمحامين وأساتذة الجامعات والكُتاب والصحفيين والممثلين، واستمرت لنحو عامين، حيث أصدرت توصيتها عام ٢٠١٣م بمناشدة جميع الأطراف والمعنيين بمنع الاحتلال الإسرائيلي من ممارساتها وانتهاكها لحقوق الإنسان وتفكيك نظام الفصل العنصري الذي تمارسه.

للمزيد حول المحاكمة ووقائعها ونتائجها:

http://www.russelltribunalonpalestine.com

[9] للاطلاع على التصريح الصحفي الذي صاحب إعلان لجنة “الإسكوا” عن التقرير:

www.unescwa.org/news/escwa-launches-report-israeli-practices-towards-palestinian-people-and-question-apartheid.

ولمزيد من تصريحات ريتشارد فولك حول التقرير وما أعقبه من ردود فعل أمريكية غاضبة:

www.middleeastmonitor.com/20170321-richard-falk-people-must-shame-un-for-quashing-apatheid-israel-report.

www.democracynow.org/2017/3/16/in_historic_report_un_agency_says.

[8] وعلى سبيل المثال يذكر Thomas Schultz في مقال Online Arbitration: Binding or Non-Binding بعض نماذج لممارسات تحكيمية على الإنترنت (أون لاين) استطاعت خلق وسائل قسرية لإجبار الأطراف على قبول حكمها والإذعان لقراراتها.

Share via
Copy link