“يعلمونَ ظاهرًا من الحياةِ الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون”.. لا توجد آية تتضمن مدحًا للذكاء والنباهة ونحوها من الصفات الفردية التي يتبارى فيها الناس وتُمتدح لأجلها عقولهم؛ إلا هذه الآية تقريبًا.. ومع ذلك فقد جاء مدحها في سياق الذم!
فلا الذكاء ولا النباهة ولا المواظبة ولا بياض القلب، ينفع صاحبه إذا غَفل عن أخوف غائب وهو العلم بـ “الآخرة”، فالقرآن لا يُزكي في الغالب الصفات الفردية إلا إذا تعلقت بتزكية النفس، أو بالإحسان للغير!
لذلك يُكثر من مدح مكارم الأخلاق، لأنها تنفع النفس وينتفع بها الناس، ويَحمد التذكر والاعتبار، لأنه يُزَكي النفس ويُنشط معارف العبودية، في حين لا يلتفت للمهارات العقلية مثل الذكاء وسرعة البديهة ونحوها من الأشياء، لأنها وإن كانت صفات ممدوحة في ذاتها، لكن في الغالب ما تغر النفس وتُطغيها ولا تهذبها.
وتأمل كم من مفتونٍ بذكائه ونباهته ومهارته وتجربته، يعبد الأسباب ويَغفل عن مُسببها!
ولذلك استَعملت الآية هذا التعبير البليغ؛ “ظاهرًا”، لأن من فَطِن بالدنيا حقيقةً؛ علم أنها خادعة، لا هي كما تبدو عليه، وأن حقائقها وانبهاراتها وآمالها ليست أكثر من سراب، “ظلٌّ زائل وخيالٌ زائر” كما قال ابن القيم.