أحد أشهر مؤلفات ما بعد الحداثة، أعلن فيه مُؤلفه الفيلسوف الأمريكي جون رولز John Bordley Rawls معارضته الشديدة للتشكيك في قيمة العدالة الخُلقية، وقدم نظريته بشأنها التي تقوم علي إرساء مبادئ دولة الرفاهية العصرية المُؤسسة على احترام الحُريات والتوزيع العادل للموارد الاقتصادية وتكافؤ الفرص الاجتماعية، رافضًا التفسيرات الفلسفية القديمة المرتبطة بالأفكار الأخلاقية المحضة أو الأفكار النفعية المحضة، مُبتعدًا عن كل المُسلمات الدينية والأيديولوجية الوضعية والميتافيزيقية، مُجردًا إياها من أي دور مستقبلي لأنها من وجهة نظره خارج الاهتمام الفلسفي للخطاب العقلاني الحديث.
وهو في الأصل يُجيب من خلاله على الاعتراضات التي وجهت لنظريته الأصلية في العدالة التي طرحها في كتابيه؛ (الليبرالية السياسية)، (نظرية في العدالة).
وينطلق رولز في نظريته للعدالة من افتراض وجود وضع أصلى Original Position تجريدي مُتخيل من المساواة الأولية، لم يكن فيه الأطراف المعنيون عالمين بذواتهم أو مصالحهم في المجموعة ككل، فهم شركاء نموذجيون مثاليون مختلفون عن المواطنين الحقيقيين الذين هم نتاج المؤسسات الدستورية السياسية، وهم في حالة من الجهل المُتخيل، جهل بالمصالح الشخصية والامتيازات المختلفة والآراء والوقائع والظروف، ويتعين عليهم وهم في هذه الحالة من الجهل المقصود – أو على حد تعبير رولز؛ وهم من وراء حجاب الجهل Veil of Ignorance – اختيار مبادئ العدالة بالإجماع.
فهذا الوضع الأصلي المُتخيل هو وسيلة انتقاء ضرورية لتحديد الحالات المُنصفة لشروط علاقة مشتركة للتعاون الاجتماعي، وهذا لا يُمكن أن يتحقق إلا بإسقاط كل المؤثرات، بحيث لا يبقى لهم سوى قُدرتين؛ قدرة على التفكير العاقل، وقدرة على التفكير العادل، بحيث يحول بينهم وبين معرفة الأوضاع التي يحتلونها في المجتمع الحقيقي حجاب من الجهل يلغي من أذهانهم كل الأوضاع الخاصة، ولا يبقى لهم إلا القدرة على التفكير فيما هو خير مشترك ومتساو للكل، وهنا تظهر مبادئ العدل بكل تجرد.
وهذا الوضع الأصلي التجريدي – والذي يحتل جزء مهم جدًا من فلسفته – لا يُضاهي عالم المُثل عند أفلاطون، وليس هو استنساخ جديد له، كما أنه ليس استنساخًا لفكرة العقد الاجتماعي عند لوك وغيره من الفلاسفة، لأن رولز ينفي أن يكون لهذا العقد أي صلة بالواقع التاريخي كسابقيه، بل هو عنده محض عقد افتراضي، تقوم فكرته الأساسية حول وضع تجريدي صوري، يطرح من خلاله طريقة تفكير منطقية طبيعية يُمارسها الأفراد المتخيلون بعيدًا عن جميع المؤثرات العاطفية وغير الموضوعية، بحيث يمكنهم التوصل إلى توافق حول مبادئ مشتركة من شأنها التوفيق بين حقوقهم وواجباتهم.
ولذلك فالاتفاق الذي يُبرمه هؤلاء الأفراد لا يتضمن الاتفاق على مبادئ العدالة الأساسية فقط، بل يمتد إلى أنماط التفكير المنطقي والقوانين الأساسية التي سيُحددون على أساسها مبادئ العدالة، وهذا هو الأهم.
ومن خلال هذه الوضع المفترض لا يُمكن للمُجتمعون إلا أن يقرروا أن جميعهم متساوون في الحرية الأساسية بأوسع معناها، وأن المقادير الاجتماعية والاقتصادية غير المتساوية بينهم يجب أن تكون:
أولًا: متصلة بمراكز ووظائف مفتوحة للجميع.
ثانيًا: مُحققة أكبر قدر ممكن من المصالح لأفراد المجتمع الذين هم أقل مركزًا.
وبناءً على هذا الطرح يُقرر رولز كيف يتم التوزيع العادل للخيرات الاقتصادية والفُرص والحقوق في المجتمع، وهو دور المؤسسات السياسية والاجتماعية والتي دورًا مهمًا وأساسيًا في تحقيق العدالة، باعتبارها فضيلة من فضائل هذه المؤسسات، حيث تقوم بتخصيص الحقوق وتعيين الواجبات وتوزيع السلع وتحديد شروط الوظائف والمراكز الاجتماعية، طبقًا لمبدأ التوزيع العادل الذي يقتضي أن جميع الأفراد الذين يتمتعون بنفس القدرات والمهارات يجب أن يتمتعوا بفرص حياة متشابهة، وبعباردة أوضح تحرير فرص البدء لكل فرد من العوامل العرضية الخاصة بالاختلاف في الأصل أو المنشأ الاجتماعي.
فإذا ما تم ذلك وفق المبدأين السابقين ظهرت قيمة الإنصاف لتعيين إطار العدالة وتحقيقها، إذ كل من يتمتع بميزات أو حقوق مجتمعية ما عليه سوى المشاركة في واجبات والتزامات هذه الجماعة.
ويُقرر رولز أنه لا يوجد ما يُسمى بالواجب السياسي للمواطنين عمومًا، فهذا لغو لا علاقة له بمفهوم الدولة الليبرالية، فالمعنى الوحيد الذي يقبله للواجب السياسي هو المتعلق ببعض المواطنين، وتحديدًا ذوي الوضعية الأفضل الأقدر على كسب المراكز السياسية والاستفادة من الفرص التي يقدمها لهم النظام الدستوري للدولة، فهؤلاء وحدهم هم المقيدون بالواجب السياسي.
وبرغم أن نظرية رولز كانت ولازالت أكثر نظريات العدالة تأثيرًا فى الفلسفة الأخلاقية المعاصرة، فإنها من أكثر النظريات إثارةً للجدل وعرضةً للنقد، ولعل هذا ما حدا بصاحبها إلى إدخال التعديلات عليها وتنقيحها أكثر من مرة.
ولعل أهم ما يكن توجيهه لها من انتقادات:
أولًا: لا تخرج في نتائجها عن الفلسفات الغربية النفعية السابقة عليها، وإن اختلفت في أُسسها الشكلية، لأن واجب العدالة الطبيعي الذي يقع على عاتق المواطنين في الدولة يوجب أن يتقيدوا بقوانين مؤسساتها والمساهمة فيها والحفاظ عليها، نظير الحصول على خدماتها، فطاعة الدولة هي طاعة قوانينها ما داموا قد قبلوا الحصول من خلالها على المنافع، ولذلك كانت نظرته للعقد الاجتماعي افتراضية وليست تاريخية، فهي في الحقيقة لا تخرج عن النظريات الأخرى التي أسست العدالة على مبدأ النفعية الذي انتقده رولز وحاول أن يتجاوزه بنظريته.
ثانيًا: المُغالاة الشديدة في اعتبار الحرية الشخصية أساسًا لمبادئ العدالة التي يتم اختيارها في الوضعية الأصلية المُتخيلة، ومنحها أولية كلية مطلقة، وكما تساءل هاربرت هارت؛ “ما الذى يدعونا إلى اعتبار الجوع والمجاعة والإهمال الطبى أقل أهمية دومًا من انتهاك أى نوع من أنواع الحرية الشخصية؟!”، وهو ما حدا برولز إلى تنقيح نظريته وجعل أولية الحرية الشخصية أقل حدةً، ومع ذلك تظل العدالة في هذه النظرية عدالة ليبرالية بذريعة الإنصاف.
ثالثًا: فساد فرضيتها الأساسية التي بُنيت عليها، إذ اعتمدت على فكرة أن حس فطري ناشئ عن عقلانية الأفراد في الوضعية الأصلية المُتخيلة هي التي حددت خياراتهم لمبادئ العدالة الأساسية التي تتمحور حول فكرة “الحُرية” ومنهجية تفكيرهم بشأن تطبيق هذه المبادئ، وهذا محض افتراض يُنافي حقيقة الطبيعة البشرية التي أفاض علماء النفس والفلسفة مرارًا وتكرارًا في نزعتها الجاهلة الظالمة المائلة للشهوات وقبيح الأفعال ، فلا يصلح وحده التعويل على حس مُفترض لديهم يُناقض طبيعتهم النفعية المصلحية، ثم من أين الافتراض بوحدانية هذ الحس المُفترض عند جميع أفراد المجتمع أو غالبيتهم.
رابعًا: غموض فكرة الخير، ونقصانها، لاسيما في علاقتها بالحس الافتراضي عند الأفراد في الوضعية الأصلية التجريدية، ومدى الارتباط بين الخير والعدل، بل نظريته توحي بتناقض المفهومين، إذ يُقرر أولوية للعدل على الخير، وحين يتكلم عن الخير يتكلم عنه بما يُشعر بانتقاصه واختزاله في أمر عرضي طارئ، أو نتاج حاجات ورغبات مختلطة فاقدة لكل وجاهة من جهة النظر الأخلاقية، وهو أمر محل نظر، فالتأثير المتبادل بين الخير والعدل في غاية الأهمية.