تمهيد:
في عام ١٩٩٤م صدر كتاب (الشرق الأوسط الجديد) لمؤلفه شمعون بيريز الذي يُعتبر من أهم صانعي القرار السياسي في تاريخ إسرائيل، ومهندس علاقاتها الدولية، فضلًا عن توليه رئاسة وزرائها على فترتين (الأولى من ١٩٨٤ إلى ١٩٨٦م، والثانية من ١٩٩٥ إلى ١٩٩٦م، ثم رئاسته لها مُنذ ٢٠٠٧م.
طرح بيريز في كتابه أفكارًا اعتبرها بمثابة الوسيلة الوحيدة لاستتباب الأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، وتحقيق أكبر استفادة من مواردها البشرية والطبيعية، من خلال إقامة تحالفات سياسية إقليمية ونظام أمني مشترك، كمشروعات بديلة للتحالفات العربية أو الإسلامية المغلقة.
وتحدث في كتابه المُشار إليه عن فشل الحروب في إنقاذ الشعوب وتحقيق نهضتها، فالحروب على حد تعبيره مُبررة فقط لضمان الأمن والاستقرار، وليس للتحكم بالآخرين، وأنه يتوجب تحقيق السعادة والرخاء لكافة شعوب العالم، ولن يتحقق ذلك إلا بالسلام، مما يفرض على كل دول منطقة الشرق الأوسط إقامة سوق شرق أوسطي، ينتمي إلى مكان دون زمان أو تاريخ، في علاقة تعاقدية بين دول المنطقة، وفي مواجهة مد الأصولية الدينية والإرهاب والبطالة على حد زعمه.
ولا يخفى أن مفهوم الشرق الأوسط الجديد الذي نادى به بيريز، هو في حقيقته ليس أكثر من تجديد للخطاب اليهودي العالمي الذي يهدف إلى إزاحة العقبة الأساسية التي تحول دون إدماج الشعب اليهودي في شعوب المنطقة وتحقيق خططهم التوسعية التي التزم بها قادة إسرائيل والحركة الصهيونية – حتى من قبل قيام دولتهم – من خلال هدفين أساسيين:
- هدف سياسي أمني للحفاظ على مكتسبات اليهود الإقليمية ومد هيمنتهم، إذ يُقرر بيريز في أكثر من موضع في كتابه أن الحروب عقيمة، وأنها لا تضمن نصرًا كليًا، ولا توازن للقوى [1]، وأنها لا تحل أي مشكلات، إذ بوسعهم إقامة علاقات سلمية من خلال المساومة – التي عَرفها بيريز بأنها الحد الأدنى من التنازلات والحد الأقصى من الإنصاف لكلا الجانبين – التي تسمح للأُمم بالعيش مُتحررة، بما فيها الأُمة اليهودية [2].
- وهدف اقتصادي تجاري لتحويل إسرائيل إلى دولة طبيعية في المُحيط العربي من خلال آليات العمل الاقتصادي والتجاري المُشترك مع جيرانها من البلاد العربية الغنية بالموارد، وتفعيل التطبيع الاقتصادي حقيقةً بحسب اتفاق أوسلو عام 1993م، يقول بيريز: “إن ما يصلح لبقية العالم يصلح لإسرائيل والعالم العربي، فالقَدر نقلنا من عالم تسوده الصراعات الإقليمية إلى عالم تحكمه التحديات الاقتصادية والفرص الجديدة التي وفرها التقدم الفكري والإنساني، وإذا كان التاريخ يخلق رابحين وخاسرين جُدد، فإن الشرق الأوسط يُعتبر الآن من فئة الرابحين، والكرة الآن ليست في ملعبنا.. حيث يوجد 60% من المصادر النفطية في العالم، وهو – أي الشرق الأوسط – يُمثل سوقًا هائلة مُحتملة ونجاحه يفتح فرصًا لا حدود لها في المنطقة” [3].
وهذه الدعوة التي أطلقها بيريز لم تكن إلا تجديد للخطاب الفلسفي الذي طرحه سبينوزا في القرن السابع عشر لتوحيد الأُمم من خلال نبذ الدين، ثم أعاد كارل ماركس طرحه في القرن التاسع عشر.
الإصلاح العالمي في الديانة اليهودية:
الديانة اليهودية – ككل الأنظمة الدينية – تهتم في الجملة بالصواب والخير لمُنتحليها، ومثل كل الديانات تسعى للموازنة بين حاجات الفرد ومطالبه، وبين حاجات الجماعة ومطالبها، وبين ما يفرضه واقع هذا الفرد وهذه الجماعة وما يتطلبه واقع العالم ككل، فلليهودية جانبًا خاصًا من الاهتمام بحاجات ومطالب أتباعها، وجانبًا عالميًا من الاهتمام بحاجات ومطالب العالم كله يهوديًا كان أم غير يهودي، وقطعًا فإن الأولوية في ذلك – كغيرها من الأديان – للمؤمنين بها عن غيرهم من المؤمنين بالأديان الأخرى.
فمن النصوص التي تُؤكد ذلك، ما ورد في (التلمود): “إن كل من يستطيع شجب أهله ومنعهم من ارتكاب الخطيئة ولم يفعل، فإنه مسئول عن ذنوب أهله، وإن كان يستطيع أن يشجب ويمنع مواطنيه من ارتكاب الذنوب ولم يفعل، فإنه مسئول عن ذنوب مواطنيه، إن كان العالم كله، فإنه مسئول عن كل العالم” (شبات 54 ب)، وفي ذات السياق، فإن معايير تقرير كفاءة الفرد ليكون شاهدًا مقبولًا شرعيًا أو قاضيًا تتطلب أن يكون المُرشح “مُهتمًا برفاهية العالم” (سنهدرين 24 ب).
إن هذا النوع من الاهتمام العالمي والذي يُعرف بـ Tikkun Olam وباللفظ العربي “إصلاح العالم” أو بعبارة أخرى “وضع العالم في الطريق المُستقيم”، كان دائمًا جزءًا أساسيًا من الديانة اليهودية، بيد إنه ظل قويًا أقوى ما يكون في بعض الأزمنة وضعيفًا أضعف ما يكون في أزمنة أخرى.
فالاهتمام بالفقير والمسكين واليتيم والأرملة وغيرهم من الضعفاء من ميراث أنبياء بني إسرائيل الكبار، وقد ورد في (إصحاح إشعياء): “إن بذلت من بيت وسط بيتك النير إيماءً بالإصبع احتقارًا، ونطقًا بالشرع فستجزى به شرًا، وإن بذلت نفسك للجائع وأشبعت حاجة الدليل، فإن نورك يشرق في الظلمة وليلك الدامس يصبح كالظهر ويهديك الرب دائمًا ويسد حاجتك حتى في زمن القحط والأرض المجدبة فيُقوي عظامك” (إشعياء 58: 1-11)، ووردت المسئولية عن هؤلاء الضعفاء والمُحتاجين في التشريع وفي وصايا الأنبياء، إذ أوجب التشريع الاهتمام بالمرضى واليتامى، والفُقراء والأرامل وغيرهم من الضعفاء، وهذا ينطبق على اليهود وغير اليهود، كما ورد في (الخروج) بصيغة عامة: “لا تضطهد غريبًا ولا تُضايقه، فقد كنتم غرباء في ديار مصر، لا تُسيء إلى أرملة أو يتيتم، لأنك إن أسأت إليهما وصرخا إليَّ أسمع صراخهما” (الخروج 22: 2-29).
لم تشفع فكرة إصلاح العالم في الديانة اليهودية في إصلاح المجتمع اليهودي بقدر ما ساهمت في ترسيخ فكرة الميول الانطوائية للمجتمع اليهودي، والانغلاق على نفسه من أجل المحافظة عليه كأقلية دينية تنظر لنفسها نظرة مستضعفة مضطهدة في عالم أغلبيته الساحقة من المسيحيين ومن المسلمين، مرتكزة على تاريخهم في الانطوائية والخصوصية من أجل وقاية نفسها من الضغوط الخارجية التي امتدت من الاضطهاد إلى التحويل عن الدين.
فتاريخ الأُمة اليهودية الطويل صَورهم على أنهم أقلية ضعيفة ومُعرضة للأذى مما شجعهم على الانطواء بدلًا من التطلع إلى الخارج تجاة الآخرين، والتخلي عن الاهتمام بالجانب العالمي في ديانتهم.
هذه الانطوائية والعُزلة التي مال لها اليهود، زادت من أزمتهم تجاه شعوب العالم، إذ فرضت عليهم عدم الاندماج الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في المجتمعات المُختلفة، وجعلتهم لا يشعرون بأي مشاعر وطنية تجاه بلدانهم، ومن ثمَّ جعلت شعوب بلدانهم تبادلهم نفس الشعور، فزاد الشعور لديهم بالغُربة، وقد توارث اليهود هذا الشعور مع توارثهم للعُزلة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ولم يكن هذا محض شعور سائد في مجتمعاتهم، بل انتقل إلى فكرهم وأدبياتهم وأصبح هذا من سمتهم العام الثقافي الذي تؤكده الدراسات الاجتماعية والأنثروبولوجية.
هذا التناقض في الخطاب الديني حول إصلاح العالم والخطاب الثقافي الانطوائي الاعتزالي خلق في اليهودية جانبان:
الأول: إنساني عالمي يقبل الآخر ويحاول التعايش معه.
والثاني: عدواني غير إنساني يرفض الآخر تمامًا.
في القرنين الثامن والتاسع عشر ظهرت حركة استنارة يهودية ويهودية إصلاحية للتأكيد على الجانب الإنساني وتعميقه، ودعت لتخلي اليهود عن الانطواء الذاتي والانفتاح على غير المُؤمنين باليهودية في المودة والصداقة، إذ هم مجبرون على العيش مع من لا يتفق مع معتقداتهم الدينية، ولن يستطيعوا البقاء في هذا العالم ولا إنفاذ ما يعتبرونه مفهومهم للإرادة الإلهية في هذا العالم الجديد – المُختلف والمُتناقض والمتعارض المصالح والذي أصبح في نفس الوقت صغيرًا بفضل التطورات الهائلة في تكنولوجيا الاتصالات والمواصلات، وأكثر خطورةً نظرًا للتطور الهائل في الأسلحة والاستراتيجيات العسكرية – إلا بالتخلي عن عُزلتهم وانطوائهم وشعورهم النفسي التاريخي بالاضطهاد.
وبعض كبار الفلاسفة اليهود كان لهم اتجاه آخر لحل هذه الإشكالية، إذ تبنوا خطابًا خاصًا لإدماج اليهود في المجتمع العالمي، بإنتاج فلسفة إصلاحية للعالم تنبذ الدين وتسمح باحتواء اليهود وتجنبهم أزمتهم كأقلية دينية، من خلال فكرة استبعاد الدين سبيل توحيد الأُمم، وهو خطاب مُتحرر مخالف للخطاب اليهودي الذي يدعو لتوحيد أُمتها على أساس عقائدي ديني، يمكن أن نعتبره ما بعد يهودي.
ونستطيع أن نُمثل لهذا التجديد في الخطاب اليهودي العالمي من خلال فكر بعض كبار الفلاسفة اليهود مثل باروخ سبينوزا، وكارل ماركس، وبقدر أقل سيجموند فرويد، ما يدفعنا للسؤال حول: هل تخلى سبينوزا وماركس وفرويد حقيقةً عن الفلسفة اليهودية؟!
الجذور اللاهوتية للعلمنة والحداثة في الخطاب ما بعد اليهودي:
أولًا: باروخ سبينوزا Baruch Spinoza (١٦٣٢: ١٦٧٧م):
نشأ سبينوزا في أمستردام لعائلة يهودية برتغالية كانت لاجئة بهولندا هروبًا من فرديناند ملك إسبانيا، وقد نشأ نشأة دينية خالصة، حيث بعثه والده – الذي كان يقضي معظم وقته وقته في مكتبة الكنيس اليهودي منكبًا على الاطلاع – إلى مدرسة حاخام مشهور يدعى مورتيرا، فتعلم على يديه أصول اللغة العبرية وتلقن فيما تلقن أصول التوراة والتلمود، وأبدى نبوغًا في دراسته مما استلفت نظر كبار اليهود إليه، فجعلهم يُعلقون عليه آمالًا واسعة في المستقبل، وانتقل من قراءة (التوراة) و (التلمود) إلى كتابات موسى بن ميمون الفيلسوف اليهودي، وليفي بن جيرسون الذي قال بأبدية العالم، وابن عزرا وحسداي بن شبروت الذي اعتقد أن الكون المادي هو جسم الله، ثم امتد اطلاعه إلى كتابات فلسفة ابن جبرويل وفلسفة موسى القرطبي الصوفية المُعقدة، وموسى القرطبي مؤلف (إرشاد الحائر).
بدأ سبينوزا في طرح فلسفته في وقت مبكر في عصر التنوير بعد فرنسيس بيكون وديكارت، وقد تبنى في البداية من خلال كتابه (رسالة في اللاهوت والسياسة) المنهج الديكارتي حيث قارن بين أنظمة الحكم، ونقد منها أنظمة الحُكم المطلقة القائمة على الفرد المطلق أو استمداد الحق من مصدر إلهي.
ويُخضع سبينوزا الأساطير التاريخية للأديان – اليهودية تحديدًا والمسيحية بدرجة أقل – لتمحيص العقل وللنقد التاريخي ، ولا يقبل منها إلا ما يتفق مع العقل حتى لو أدى ذلك لهدم الأُسس والمصادر اللاهوتية للأديان السماوية، إذ يرفض قبول أي تقديس لما يُخالف العقل، إذ هذا العقل لديه القُدرة على معرفة الله من خلال ما يُعرف بـ “النور الفطري“، وعليه فإن العقل بأفكاره الواضحة هو أساس الإيمان والمصدر الأمثل لليقين، بينما تعاليم الأنبياء تأتي في المرتبة الثانية لمن لا يستطيعون معرفة الله من خلال هذا النور الفطري.
وهذا النور الفطري إنما يعتمد على النظر والتأمل في الطبيعة، لا باعتبارها موجودات، بل باعتبارها دليلًا على أوامر الله وقُدرته، والتي هي في الأصل قوانين الطبيعة ونواميسها، إذن فالعقل لا يحتاج لواسطة في التعرف على الله، بينما عقول العامة التي هي أقل شأنًا تنكر النور الفطري وتبحث عن الخرافات والمصادر غير الطبيعية في إثبات ومعرفة الله.
ويرى سبينوزا إلى أن جوهر الإيمان – سواء كان مصدره النور الفطري أو الوحي – هو حث الناس على التقوى وتوجيههم نحو الطاعة، وأن مغزى أي دين هو العدل والإحسان تجاه الآخرين وليس الاعتقاد بأسرار لاهوتية غيبية [4]، ومن ثمَّ فإن ما يجب قبوله من الوحي هي التعاليم والدروس الأخلاقية وحدها، وهي مشتركة بين جميع الأديان كما أنها متفقة مع النور الفطري، أما الأساطير والقصص الموجودة في الكتب المقدسة فيجب أن تخضع للنقد، ولا يمكن قبولها إلا إذا اتفقت مع العقل.
وينتهي سبينوزا إلى التأكيد على ضرورة فصل الدين عن الدولة، حاملًا بشدة على كل نظام سياسي يدعي أنه يستمد سلطته من مصدر إلهي، فالله لا يحكم البشر إلا من خلال السلطة السياسية الحاكمة وحدها (الدولة) [5]، وليس من خلال رجال الدين، فهؤلاء الأخيرون لم يعد لديهم دور في المجتمع ما دام الدين يُمكن الحصول عليه وتفسيره من خلال النور الفطري، أو القواعد الأخلاقية الواضحة بذاتها في الكتب المُقدسة، والتي يُمكن لأي فرد أن يُفسرها ويفهمها وحده.
أحدَّثَ كتاب (رسالة في اللاهوت والسياسة) ثورة في الفكر الديني والواقع السياسي، وأثار سخطًا عامًا في الأوساط الدينية داخل بلاده وخارجها، وتسبب له في مشاكل كبيرة مع اليهود، وصلت إلى حد طرده من الطائفة اليهودية.
بعد وفاة سبينوزا صدر له كتاب آخر هو كتاب (الأخلاق)، الذي تبنى فيه المنهج الهندسي، حيث عرض لخمس قضايا رئيسية هي: الله، وطبيعة العقل وأصله، وطبيعة الانفعالات وأصلها، وعبودية الإنسان أو قوة الانفعالات، وحرية الإنسان أو قوة العقل، من خلال تعريفات وبديهيات ونظريات وبراهين ونتائج في كل قضية.
وفي هذا الكتاب ينقد سبينوزا المنهج الديكارتي في بعض القضايا اللاهوتية، فإذا كان ديكارت مسئول عن الثنائية من قسمة الوجود إلى عالم الذهن وعالم المادة، فسبينوزا بات مسئولًا عن إعادة الوحدة في الوجود، وذلك بالتوحيد بين الطبيعة الطابعة والطبيعة المطبوعة.
ومع سبينوزا تحول الاجتماع مبكرًا من البعد اللاهوتي الضيق في نظره ليصبح التعبير عن القاعدة القيمية الجماعية، والتي أصلها أكثر لاحقًا لوك وروسو وكانط وهيجل، وهو ما يؤكد ما ذهب إليه القانوني الألماني كارل شميت من أن المقاربات العلمانية احتضنت في ذاتيتها ومنطقها؛ مقولات اللاهوت السياسي، التي اعتقد الكثيرون أنها أرست القطيعة الجذرية معها، لكن في نفس الوقت يدل على خطأ اعتبار العلمنة اتجاهًا ملازمًا لنمط الاعتقاد المسيحي وحده، فإن كنا نقر بأن العلمنة استوعبت مقولات اللاهوت السياسي، إلا أن دور الصراعات والأزمة العقدية والتاريخية في نمط الاعتقاد اليهودي لم يقل عن النمط المسيحي في إخراج العلمنة إلى النور وتصديرها للعالم، فلم تكن العلمانية الغربية تجسيدًا لأصل عقدي في المسيحية فحسب، ولا وسيلة لإنقاذ قيم المسيحية فحسب، وأخيرًا يؤكد أيضًا الوهم – الذي وقعت فيه التبعية الغربية في عالم ما بعد الاستعمار في منتصف القرن العشرين – في فكرة قابلية المسار الذي أفضى إلى العلمنة في السياق الغربي؛ للتعميم خارجه.
ثانيًا: كارل ماركس Karl Marx (١٨١٨: ١٨٨٣م):
نشأ كارل ماركس في ترير براينلاند البروسية لعائلة يهودية أشكنازية من الطبقة الوسطى، حيث كان جده من جهة أمه حاخامًا هولنديًا، فيما توارثت عائلة والده حاخامية ترير مُنذ ١٧٢٣م، وقد تلقى تعليمه بجامعة بون وجامعة برلين.
ولم يكن خطاب كارل ماركس الإصلاحي أحسن حالًا من خطاب سبينوزا، فالحلم اليهودي الضائع أثر تأثيرًا كبيرًا في صناعة شيوعيته، فقد عاش ماركس مهمومًا بمشكلات الناس والمجتمع، والحلم الذي عاشه أجداده اليهود بمجيء المسيا صاحب الفردوس الأرضي والسيطرة على العالم، هذا الحلم لم يُفارق قلب ماركس [6]، فصار يحلم بفردوس أرضي للمطحونين المقهورين من العمال والمستضعفين، فأنشأ جريدة ثورية في مدينة كولوني لكنها تعرضت للمصادرة، وانتقد ماركس النظرية التاريخية الألمانية نقدًا شديدًا في مقاله الصادر عام 1842م بعنوان (البيان الفلسفي لمدرسة القانون التاريخية)، حتى وصفها بـ “المنتج التافه الوحيد” للقرن الثامن عشر! انطلاقًا من تبريريتها بامتياز لقوانين السلطة التعسفية وتأييد الظلم والاستغلال المجتمعيين.
فما لبث أن طُرد من ألمانيا عام 1843م، فانتقل إلى فرنسا وكرس وقته لدراسة الاشتراكية، وفي عام 1848م شارك في أحداث الثورة التي اندلعت في فرنسا وألمانيا.
ثم انتقل إلى انجلترا وعاش فيها حياة بائسة فقيرة، ومع ذلك لم يكف عن الكتابة بمكتبة المتحف البريطاني، وعاش على أمل اندلاع الثورة الاجتماعية التي كرس لها حياته، حتى التقى بصديق عمره فريدريك إنجلز Friedrich Engels (١٨٢٠: ١٨٩٥م) الذي كان يشغل مديرًا لبعض مصانع مانشستر، فمدَّ له الأخير يد العون وأنقذه من الفاقة وتعاطف معه، ولاسيما أن إنجلز كان قد اطلع على أحوال الألوف من عُمال المصانع من الرجال والنساء والأطفال الذين يعيشون في أسوأ حالاتهم، فيسكنون في منازل ضيقة ومهدَّمة وقذرة، ويقومون بأعمال شاقة لا تتناسب مع أحوالهم الصحية، وبأجر زهيد لا يكفيهم قوتهم، مما يؤدي لارتفاع نسبة الوفيات والمرضى فيهم إلى درجة كبيرة، كل ذلك ترك أثرًا سيئًا للغاية في نفس إنجلز، وزاد تعاطفه مع ماركس.
حاول ماركس اختبار أفكار المدرستين العقلية والتجريبية على تطور المجتمع الإنساني، ويحاول أن يصل لذلك من خلال مسلمة طبيعية هي أن الفرد لابد أن يأكل ليعيش، فوجوده وحياته يتوقفان على نجاحه في إنتاج ما يريد، لذلك كان الإنتاج هو أهم نشاط بشري، ولا شك أن الأفراد المنتظمون في تجمع ينتجون أكثرمن أقرانهم من المعزولين، لأن أساس نشأة المجتمعات هو توفير حاجات الأفراد، لكن المجتمعات لا تصل أبدًا إلى إشباع كل الحاجات فتنشأ بالتالي أنواع من التوتر والضغط، فإما أن يلجأوا لـ “الصراع” والتنازع، أو يلجأوا إلى تخيل عوالم أخرى يحققون فيها ما تصبو إليه نفوسهم من حاجيات وهي التي يتيحها لهم “الدين“، لذلك أطلق عليه “أفيون الشعوب” لأنه في نظره ليس إلا ظلًا لهذه التخيلات التي لا وجود له!
وفي سنة ١٨٤٩م أصدر كارل ماركس وإنجلز النداء المعروف بعنوان (المانيفتسو الشيوعي) وذيلاه بعبارة: “يا عُمال العالم اتحدوا”، وانتقدا في هذا النداء النظام السائد بشدة، وعرضا لحالة الفقر والقهر التي يعيشها العمال في كل مكان، ومن هنا بدأت الأفكار الشيوعية تنتشر على أنها نصيرة العمال المطحونين ضد أصحاب رءوس الأموال، حيث قسم ماركس المجتمعات إلى طبقة العمال الكادحة (البروليتاربة) وطبقة أصحاب العمل والإنتاج (البرجوازية)، واتهم الأخيرة بالطغيان، وحفز الأولى على السعي نحو المجتمع المثالي الذي يتساوى فيه الجميع، وتصير وسائل الإنتاج ملكًا للجميع، وتنتهي الملكية الفردية والنظام الملكي، وصوَّر ماركس المجتمع المثالي الذي يسعى إليه، بأنه مجتمع مُطلق المساواة، ترتفع فيه مستويات المعيشة للجميع، حيث يتحررون من البطالة والفقر والجهل، وتختفي رغباتهم الأنانية لصالح المشاعر الاشتراكية الجماعية.
وفي سنة ١٨٦٧م أصدر أهم كتبه وهو (رأس المال) حيث نقد وقوض النظام الرأسمالي، وهكذا استطاع ماركس أن يحرك العمال هنا وهناك ليستردوا حقوقهم الضائعة ويلتمسوا مستقبلًا أفضل، وظل ماركس يكيل اللطمات للنظام الرأسمالي.
لقد حوَّل ماركس طبيعة الصراع الأبدي في العالم من ديني إلى طبقي، وجعل معارضة الدين، والملكية الفردية، وحرية الرأي، ركائز أساسية لأي خطاب إصلاحي عالمي، حيث انطلق في فلسفته من قاعدة أساسية تصور حركة الحياة على أنها ما هي إلا صراع بين الطبقات الاجتماعية، وعلى حد تعبير فريدريك إنجلز رفيق درب كارل ماركس: “ماركس هو أول من اكتشف قانونًا في غاية الأهمية لحركة التاريخ، ذلك الذي ينص على أن كل النضالات التاريخية السياسية والدينية والفلسفية وغيرها من المجالات، هي في الواقع ليست سوى نضال الطبقات الاجتماعية، لا أكثر ولا أقل، والتفاوت – ومن ثمَّ التصادم أيضًا – بين هذه الطبقات مشروط بدرجة تطور وضعها الاقتصادي، من خلال طريقة إنتاجها وإرادة التغيير، هذا القانون – والذي لا يقل في الأهمية التاريخية عن قانون تحويل الطاقة في العلوم الطبيعية – هو المُفتاح لفهم تاريخ الجمهورية الفرنسية الثانية، لقد وضع قانونه رهن الاختبار أمام الأحداث التاريخية التي وقعت، وحتى بعد ثلاثة وثلاثين عامًا فلا زال هذا القانون صامدًا أمام الاختبارات ببراعة” [7].
فالتاريخ في نظر ماركس عبارة عن نضال طبقات، طبقة مستغلة مظلومة تناضل ضد طبقة ظالمة سائدة، وكل طبقة في المجتمع تعمل بدون أن تشعر على تقوية طبقة أخرى تضادها أو إضعافها، وينتج نضال بين الطبقتين لابد أن يُسفر عن انتصار الطبقة المظلومة، ولكن قبل أن يصل المجتمع إلى هذه الحالة المثالية إلا من خلال الاشتراكية Socialism التي تسود فيها دكتاتورية الطبقة العاملة بعد أن تكون قد قضت بثورة عارمة ضد الطبقة الرأسمالية، هذه الاشتراكية تقوم على الملكية الاجتماعية لوسائل الإنتاج ومصادر الثروة في المجتمع، ووظيفتها القضاء على النظام الرأسمالي وتوزيع الدخل على الناس بحسب حجم العمل الذي قاموا به لا بحسب حاجة كل منهم، والدولة في هذا الطور ديمقراطية وظيفتها أن تراقب وسائل الإنتاج وتشرف على التوزيع، على أن الاشتراكية ليست إلا مرحلة مؤقتة في طريق الوصول إلى الصورة النهائية وهي الشيوعية Communism، التي هي في حقيقتها المجتمع المثالي للاشتراكية بعيد المنال، الذي يحدث فيه تغيران مهمان:
الأول: أن الإنتاج يوزع بحسب حاجة كل فرد لا بحسب عمله كما كان في النظام الاشتراكي.
الثاني: إلغاء الدولة نهائيًا، لأن كل الوظائف العامة في هذا المجتمع المثالي ستتحول من وظائف سياسية إلى وظائف إدارية، كما أن المجتمع يكون قد سلب أهم ما للدولة وهو وسائل الإنتاج، فلا يكون ثمة داع لبقائها.
وهذان من جملة التناقضات التي وقع فيها ماركس وإنجلز، فإلغاء حافز الإنتاج وهو مردود العمل سيؤدي بالضرورة مع الوقت لتوقف الإنتاج، كما أن وجود الوظائف الإدارية معناه بقاء الدولة، فالدولة لا تتكون من وظائف سياسية فحسب، بل وظائفها الإدارية أكبر وأكثر، ما يجعل مجتمع ماركس خيالي وهمي، فكل ما هنالك أن الطبقة العاملة ستتحول إلى حاكمة، مسئولة عن تنظيم الإنتاج والتوزيع وتكون هي الدولة الجديدة، كما فعلت الثورة الروسية عام ١٩١٧م.
فأفكار ماركس انطلقت من حقيقة مادية واحدة وهو أن التاريخ هو المعقول والرابط بين ما هو حقيقي وما هو زائف، بين ما هو حدسي وما هو ظاهر، وكما كان أستاذه هيجل، يذهب إلى أن الصراع ليس وسيلة للنظر إلى العالم بل هو الوسيلة التي يعمل بها العالم، لكن ماركس حدده بالصراع الطبقي الذي هو قانون الحركة، لقد كان الدين في المفهوم الماركسي ما هو إلا انعكاسًا للاغتراب الإنساني ونتاجًا للمجتمع الطبقي، ولذلك يرفض ماركس تمامًا ربط مجريات الشأن السياسي والاجتماعي بكل ما ليس بظاهر أو بالأمور الباطنية، إنه لا يُقر سوى بالحقائق الظاهرة التي يثبتها التاريخ، فنشأة الدين وتطوره وما تعلق به ما هو إلا ناتج وانعكاس وأثر للصراع الطبقي الذي يُمثل حقيقة التاريخ.
على عكس كانط الذي شدد على الفهم المغلوط للتنوير بأنه نقيض الإيمان أو للاعتقاد الديني، لأنه كما قال: “عند حدود العقل تبتدئ حدود الإيمان”، وحذر من الطاعة العمياء لرجال الدين، الذين حرصوا على محاربة التنوير لأنه كان في اعتقادهم يضر بمصالحهم الشخصية، لقد حاول إيجاد مسار وسط بين عقلانية ديكارت وتجريبية لوك وهيوم مع إفساح المجال للإيمان.
فكانط وروسو كانا أقرب من ماركس للتنويرية، روسو اعتبر الدين هو الفطرة وشعور، لذلك أكد على ضرورة ربط مجريات الشأن الاجتماعي والشان السياسي بالفضائل الفطرية المتجذرة في الإنسان، مثل المساواة والرحمة والشفقة، إذ يقول؛ “لا لعلم بدون أخلاق، لا لحضارة بدون ضمير، والتنوير إذا لم يكن مبنيًا على قيم العدالة والمساواة واحترام الحقيقة؛ فإنه بلا أُسس حقيقية”، فمعظم العلل والمصائب تحدث بأيدي البشر وبسبب طمعهم ورغباتهم لا بسبب الطبيعة ولا بسبب الفضائل الأخلاقية والدين، وهو الخط الذي سار عليه كانط في تعريفه للتنوير، ولذلك رفض روسو التنوير المُزيف، حيث تستخدم الحكومات العلوم والآداب والفنون لكي تستعبد المجتمع، وقال في كتابه (خطاب عن العلوم والفنون)؛ “إنها تغطّي بأكاليل الزهور سلاسل الحديد التي تثقله وتكبّله”.
وفي الجملة، ففكرة إصلاح العالم عند ماركس تنطلق من فهم طبيعة الصراع في العالم، وطبيعته عنده أساسها التناقضات الطبقية التي تستند إلى أُسس اقتصادية [8]، تلك التناقضات التي أوجبت الصراع بين الطبقتين البروليتارية والبرجوازية، فالتفاوت بين الطبقات الاجتماعية هو الذي خلق الصراع العالمي على مدار التاريخ.
إذن فهذا الخطاب الذي يتبناه مكارل ماركس ليس خطابًا خاصًا بالشعب اليهودي أو المسيحي أو الإسلامي، بل هو خطابًا عامًا متجاوز لكل الإنسانية.
ومن قبيل هذا النوع من الخطاب العالمي العام يقول: “إن أصلب شكل من أشكال التعارض بين اليهودي والمسيحي هو التعارض الديني، وكيف يُحَلّ التعارض؟ بجعله مستحيلًا، وكيف يُجْعَل التعارض الديني مستحيلًا؟ بإلغاء “الدين”، ومُنذ أن لا يرى اليهودي والمسيحي في الدين الخاص بكل منهما إلا درجات مختلفة من تطور العقل البشري.. فلن يجدا نفسيهما، من بعدُ، في تعارض ديني، وإنما في علاقة نقدية بحتة، علاقة علمية، بشرية، وعندئذٍ يؤلف العلم وحدتهما، أما التناقضات العلمية فيحلّها العلم نفسه” [9].
ثم يُقرر بأن: “التحرر السياسي لليهودية، وللمسيحي، وبتعبير موجز للإنسان الديني، إنما هو تحرير الدولة من اليهودية ومن المسيحية ومن الدين بصورة عامة، والدولة في شكلها الخاص، في النمط الخاص بجوهرها، بوصفها دولة، تتحرّر من الدين بتحرّرها من دين الدولة، يعني بعدم اعترافها بأي دين، وإنما بتأكيدها ذاتها على نحو محض، وبوصفها دولة فقط، إن التحرر السياسي من الدين ليس هو التحرّر بصورة مُطلقة وكُلية من الدين، ذلك لأن التحرر السياسي ليس هو النمط المطلق الكلي للتحرر البشري” [10].
ثالثًا: سيجموند فرويد Sigmund Freud (١٨٥٦: ١٩٣٩م):
ولد سيجموند فرويد لعائلة يهودية أشكنازية نمساوية، ورغم فقر أُسرته الشديد فقد حظى بتعليم جيد أوصله لكلية الطب بجامعة ڤينا حيث تخرج منها عام ١٨٨١م ولم يلبث أن سافر إلى باريس لاستكمال تعلم الطب مع ممارسته من خلال عيادة خاصة، وقد تزوج من حفيدة حاخام هامبورج الأعظم مارتا بارنيز، واضطر للرحيل مع أسرته إلى لندن بعد أن قامت ألمانيا النازية بضم النمسا إليها.
ولا ريب أن النشأة الدينية لفرويد بالإضافة للاضطهاد الذي عانت منه أُسرته كان لهما أثرهما في كتابات فرويد حول اليهودية، وتحديدًا في كتابه (موسى والتوحيد)، والذي نال بسببه السخط من المجتمع اليهودي، إذ أنكر يهودية موسى عليه السلام وأكد أن عقيدته هي ذاتها العقيده التي نادى بها أخناتون في إصلاحه الديني، وأن اليهود اضطروا لتحريف قصته بدوافع نضالية عرقية وقومية، حيث استطاع جمع شتاتهم وأعاد لهم الثقة بأنفسهم وهم فلاحون بسطاء في بلاد ذات حضارة عريقة، وذلك قبل أن يضيقوا صدرًا بهذا الفيض الهائل من المثالية والتجرد في شريعة موسى فيقررون قتله، وبالفعل يقتلوه وفقًا لفرويد مستندًا على بعض القرائن التاريخية.
الأهم في هذا الكتاب، أن فرويد يطرح من خلاله فكرته في نفي تعدد الأرباب (الآلهة)، ويُحاول إثبات أن رب جميع الأديان هو رب واحد [11]، وذات الأمر بالنسبة للأديان، فما هي إلا صورة مكررة كما زعم بشأن الإسلام أنها كان تكرارًا على نطاق ضيق للديانة اليهودية.
ويبدو أن فرويد نفسه كان يعلم حجم ما سيلقاه من معارضة ونقد تجاه هذا الكتاب، فلم يُنشر إلا بعد وفاته، وحاول تشبيه نظريته تلك بنظرية داروين في النشوء والارتقاء، حيث قوبلت بالرفض كليةً وتمت معارضتها بعنف, ثم ما لبثت أن أصبحت حقيقة علمية بعد قياسها بالعقل.
ــــــــــ
[1] شمعون بيريز: الشرق الأوسط الجديد، ترجمة: محمد حلمي عبدالحافظ، الأهلية للتشر والتوزيع (عمان)، الطبعة الأولى ١٩٩٤م، ص ٤٦.
[2] شمعون بيريز: المرجع السابق، ص ٦٠.
[3] شمعون بيريز: المرجع السابق، ص ٣٩.
[4] باروخ سبينوزا: رسالة في اللاهوت والسياسة، ترجمة: د. حسن حنفي، دار وهدان للطباعة والنشر (القاهرة)، بدون تاريخ، ص ٤٣٢.
[5] باروخ سبينوزا: المرجع السابق، ص ٤٣٣.
[6] حلمي القمص يعقوب: رحلة إلى قلب الإلحاد، كنيسة القديسين (الأسكندرية)، بدون تاريخ، ص ٩١.
[7] Frederick Engels: Preface to the Third German Edition of the Eighteenth Brumaire of Louis Bonaparte, Karl Marx and Frederick Engels Selected Works, Progress Publishers, 1968.
[8] كارل ماركس: مقال (جريدة الإصلاح الباريسية: حول الإصلاح في فرنسا)، الجريدة الرينانية الجديدة، ترجمة: علي رضا وشيخ الجبل، دار ابن خلدون (بيروت)، الطبعة الأولى ١٩٧٦م، ص ١١٥.
[9] كارل ماركس: المسألة اليهودية، ترجمة محمد عياتي، مكتبة المعارف (بيروت)، الطبعة الثانية ١٩٥٢م، ص ٩.
[10] كارل ماركس: المرجع السابق، ص ١٧: ١٨.
[11] سيجموند فرويد: موسى والتوحيد، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة (بيروت)، الطبعة الرابعة ١٩٨٦م، ص ٨٥.