آخر تحديث: ١٥ أغسطس ٢٠٢٢م
لا يبدأ العلم إلا بنقد الخُرافات؛ هذه الخُرافات التي تُزينها آمالنا وتطلعاتنا، فالإنسان بطبعه يميل إلى الكسل والدعة والراحة، ويتطلع لبلوغ الأماني بأقل جُهد ممكن، وقد انعكس هذا ليس على حياته المادية فحسب؛ بل وأيضًا الفكرية، ويظهر هذا الطبع كأظهر ما يكون في هذا الجانب الأخير، فالرغبة الشديدة في جمع أكبر قدر ممكن من الأفكار، واكتساب أوسع مساحة ممكنة من الثقافة، بأقل جُهد وفي أقل وقت، جعلته يبتكر أساليب مُبْتَذلة لاكتساب المعرفة، لكنها معرفة مُزيفة تكشفها الأيام.
ولعل من أهم هذه الأدوات الخادعة لاكتساب المعرفة “القراءة السريعة“، فكثُر الترويج لها، ولأهميتها الثقافية، بل أصبح الحصول على الثقافة الجيدة رهن عدد الكلمات التي يستطيع القارئ أن يُنجزها في الدقيقة الواحدة، ولا نتكلم عن مائتي أو مائتي وخمسين أو حتى ثلاثمائة كلمة في الدقيقة، بل عن مُعدل يتراوح ما بين خمسمائة إلى ثمانمائة كلمة في الدقيقة، وأكثر، بما يتجاوز الحد الأقصى لسرعة استيعاب مُقلة العين الآدمية من الكلمات في الدقيقة الواحدة، والتي يُقدر العلماء حد استيعابها الأقصى بثلاثمائة كلمة فقط[1].
يقول د. كيث راينر Keith Rayner (١٩٤٣: ٢٠١٥م) الأستاذ في جامعة ماساشوستس، وأحد أشهر خبراء طب أعصاب العيون؛ بأن قلة قليلة جدًّا من القُراء لا يتجاوزون ما نسبته ٥% مَن يُمكنهم قراءة أربعمائة كلمة في الدقيقة، وأي مكسب يحصلون عليه من جراء مثل هذه القراءة هو في الحقيقة يُمثل خسارة مُؤكدة في الفهم، أما قراءة أكثر من هذا فهو مُستحيل طبيًّا، لأنه يفوق القدرات الميكانيكية لتحريك العينين، ومعالجة المعلومات بصريًّا[2].
بل لا يُمكن على المستويات التشريحية والعصبية معالجة المعلومات في سطور متعددة على نفس نسق المسح الضوئي Scanning التصويري في كل حركة عين، بسبب الحقيقة العلمية التي تُثبت أن عيوننا عدسات هزيلة مُقيدة فعليًّا في كمية المعلومات التي تتدفق في كل حركة عين، من خلال تجويف Fovea Centralis المسئول عن حدة النظر، والذي يقوم بنشاط القراءة، وغيره من الأنشطة[3].
أما د. باربرا أوكلي Barbara Oakley (١٩٥٥: – م) إحدى أشهر أساتذة الهندسة العصبية والخبيرة في سيكولوجية التعلم وأنماط التعليم؛ فتُشبه البناء المعلوماتي في المُخ ببناء الجدار الأسمنتي الذي يحتاج لوقت كافٍ (فواصل زمنية) ليستقر ويتماسك ويثبت، بينما الاستمرار في البناء والذي تُطلق عليه باربرا “حشر المعلومات”؛ فلا ينتج عنه إلا أكوام من الفوضى التامة[4].
فالقراءة الصحيحة هي التي تُبنى على التأني والتدقيق في الكلمات والسطور؛ لذلك كان أثرها اللازم هو الفهم كليًّا أو جزئيًّا، وغير ذلك إنما هو محض دجلٍ أو وهم، يُكذبهما العلم الصحيح والمنطق السليم، فالحقيقة التي لا يُمكن أن يُجادل فيها قارئ حقيقي، أو خبير تعليم؛ أن المُضاعفة غير المشروطة من مُعدل القراءة تتم على حساب الفهم، إذ الأصل أن العلاقة بينهما عكسية.
أما ما ورد في تاريخ القراءة من أن كثيرًا من السلف قرأوا مئات الكُتب، فإنما هو بفضل عامل الوقت الذي بورك لهم فيه؛ بسبب انقطاعهم التام للمُدارسة والمُطالعة، ثم نعمة شَظَف العيش، وخلو زمانهم من مُلهيات الأزمان اللاحقة، فأقبلوا على القراءة والكتابة إقبالًا مُنقطع النظير، واكتسبوا من المعارف ما يصعب تصوره في حساباتنا المادية، ولم تكن القراءة السريعة يومًا سببًا من أسباب اكتسابهم تلك المعارف، آية ذلك عظيم ما خلفوه من الآثار العلمية التي لم تتكرر لا في الشرق ولا في الغرب، بل كل ما وصلت إليه الحضارة الغربية كما اعترفت المُستشرقة الألمانية سيجريد هونكة يرجع فضله إليهم، ولولاهم ما وصل الغرب إلى ما وصلوا إليه من أسباب التقدم والتحضر، فكيف يُمكن أن تكون القراءة عديمة الفهم ضعيفة النفع السريعة سببًا من أسباب ما بلغوه من القوة في الإنتاج العلمي؟!
فمقصود المُطالعة: الفهم والاستيعاب، وليس الإنجاز أو السرعة، فالعبرة بالجودة لا بالكم، ولذا كان الكُتَّاب أعظم القُراء، لا لأنهم قرأوا كثيرًا، بل لأنهم قرأوا ما قرأوه جيدًا، من أجل ذلك كان المُستحب في القراءة إعادتها وتكرارها، لذلك أُثر عن عباس العقاد (١٨٨٩: ١٩٦٤م) قوله: “قراءة كتاب ثلاث مرات خيرٌ من قراءة ثلاثة كُتب”، ذلك أن أهمية القراءة تنبع مما تتركه من أثر في فِكر القارئ، وفي تفاعله مع الواقع، وهذا يكون أفضل ما يكون في حال الإعادة والتأمل، إن النص الواحد يُقرأ قراءات متعددة، وإن نفْس القارئ ليقرأ نفْس النص قراءات مختلفة في أوقات متباينة وربما في الوقت ذاته!
وسُئل البخاري (ت ٢٥٦هـ / ٨٧٠م): الحفظ بأي شيءٍ يكون؟ فأجاب: “بإدامة النظر”؛ أي بتكرار القراءة، وذَكر السُّبكي عن الربيع المُرادي (٢٧٠هـ / ٨٨٤م) تلميذ الشافعي قوله: “أنا أنظرُ في كتاب (الرسالة) مُنذ خمسين سنة، ما أعلمُ أني نظرتُ فيه مرة إلا وأنا أستفيد شيئًا لم أكن عرفته”[5]، ونُوزِعَ النووي (ت ٦٧٦هـ / ١٢٧٧م) مرةً في نقل عن (الوسيط) للغزالي، فقال: “يُنازِعوني في (الوسيط) وقد طالعته أربعمائة مرة؟!”[6].
ويحكي عبد الله بن محمد فقيه العراق أنه قرأ (المُغني) ثلاثةً وعشرين مرة، وقال ابن فرحون المالكي (ت 799هـ / 1397م): “لازمت تفسير ابن عطية حتى كدتُ أحفظه”، ونقل القاضي عياض عن ابن التبّان المالكي (ت 371هـ / 981م) أنه قرأ (المدونة) أكثر من ألف مرة، وحكى عن نفسه ما لاقاه من الصعاب في بداية طلبه للعلم قال: “كنت في أول ابتدائي أدرسُ بالليل، فكانت أمي تنهاني عن القراءة بالليل، فكنتُ آخذ المصباح وأجعله تحت الجفنة وأتعمد النوم، فإذا رقدتْ أخرجتُ المصباح وأقبلتُ على الدرس”، ومحمد بن سليمان الكافيجي (ت 879هـ / 1474م) شيخ السيوطي لُقّب بذلك بسبب كثرة اشتغاله بكتاب (الكافية) لابن الحاجب قراءةً وإقراءً، وغير هذا من القصص العجيبة، حتى إننا إذا أردنا – أو لو كان بوسعنا – أن نكتب تاريخًا للقراءة؛ فإن هذه الوقائع تعد أحداثًا كبرى في تاريخ القراءة وعلامات فارقة في النهضة الثقافية للبشرية.
وفي دراسة نُشرت في مجلة Consumer Research عام 2012م؛ تبين أن إعادة قراءة الكتاب توفر للقارئ فوائد صحية وعقلية لا توفرها له القراءة الأولى؛ لأن الثانية تسمح لعقله ووجدانه بالاتصال بشكل أعمق بالمادة المقروءة أكثر من القراءةِ الأولى، التي تجذب الانتباه بصورة أكبر للأحداث والحبكة[7].
ويذكُر العلماء أن ذاكرة الإنسان الحقيقية ليست هي الذاكرة النشطة Short Term Memory، بل الذاكرة طويلة الأمد Long Term Memory؛ التي هي أشبه ما تكون بمستودع تخزين شاسع المساحة، وهذه الذاكرة لا تنتقل إليها المعلومات من الذاكرة النشطة إلا بالتأمل والتكرار المُتباعد، وكلاهما يحتاج إلى وقت، أما الذاكرة النشطة فلا تحتفظ إلا بقدر ضئيل من المعلومات؛ لأنها محدودة النطاق[8].
وليس الأمر مبناه فقط على التعمق في الأفكار بتكرار القراءة، أو الربط بين الأحداث بإعادة القراءة، أو الفهم أو تثبيت المعلومات أو استذكارها، بل الأهم من ذلك أن الأفكار والأحداث تُعيد تسكين نفسها في وجدان القارئ وخريطته الإدراكية، فكأنه يقرأ كتابًا آخر وسطورًا وفقرات أخرى.
عن ذلك يُعبر الروائي الألماني هرمان هيسه Hermann Hesse (١٨٧٧: ١٩٦٢م) فيقول حاكيًا قصته مع مكتبة جده: “وكان يوجد في مكتبة جدي الكبيرة كتاب بالغ الضخامة والثقل، غالبًا ما كنت أتصفحه وأقرأ فيه في أماكن متفرقة، في الكتاب توجد قصة جميلة للغاية عصية على الفهم، حتى أني قرأتها مرات ومرات، ولم يكن العثور عليها ممكنًا دائمًا؛ كثيرًا ما كانت تختفي تمامًا وتبقى متوارية، وكثيرًا ما كانت تبدو لو أنها غيرت مكانها وعنوانها، عندما تقرؤها في بعض الأوقات تكون قريبة للنفس، وفي وقت آخر غاضبة وممتنعة”[9].
في النهاية؛ لنواجه هذه الحقيقة؛ لا شك أن القراءة ليست بالشيء السهل، كثيرون يدعون أنها كذلك، لكنهم لا يصبرون على قراءة كتاب واحد! كثيرون يزعمون حُب المعرفة؛ لكنهم لا يقدرون على إعادة قراءة كتاب قرأوه من قبل ولم يفهموه جيدًا! كثيرون لا يملون من ادعاء أن القراءة مصنع الأفكار، لكنهم لا يُخصصون لها من وقتهم إلا أقل القليل!
ولا أقصد بهذا التنفيرَ من القراءة أو تعقيدها، لكن إدراك الحقائق هو البداية الصحيحة للتغيير، إذا كُنا نرغب في الخروج من أزماتنا الفكرية والتيه الثقافي الذي نُعاني منه، فلا بُد من التخلي عن التضليل المعرفي والغطرسة الثقافية التي لم تُقدم ولم تُؤخر، فالإصلاح لن يتم إلا باستصلاح الهمم، وبذل الجُهد والوقت المُناسبين لآمالنا في إحداث التغيير.
ـــــــــــ
* أصل المقال نُشر في موقع “ساسة بوست” الإلكتروني بتاريخ ١ ديسمبر ٢٠١٥م، قبل أن يتم تناوله بتوسع في كتاب (إلاقة الدواة: رؤى وأفكار حول القراءة والكتابة: الحقائق والأوهام والخرافات) في الفصل الثاني: في القراءة.
[1] سكوت ليلينفيلد وآخرون: أشهر 50 خرافة في علم النفس: هدم الأفكار الخاطئة الشائعة حول سلوك الإنسان، ترجمة: محمد رمضان داود وإيمان أحمد عزب، دار كلمات (القاهرة)، الطبعة الأولى 2013م، ص 35.
[2] www.skeptoid.com/episodes/4229.
www.psycnet.apa.org/psycinfo/199811174004.
[3] www.en.wikipedia.org/wiki/Fovea_centralis.
www.scotthyoung.com/blog/2015/01/19/speedreadingredo.
[4] https://bit.ly/3cHtHoB.
[5] عبد الوهاب بن علي السُّبكي: طبقات الشافعية الكُبرى، تحقيق: د. محمود محمد الطناحي ود. عبد الفتاح محمد الحلو، دار هجر (القاهرة)، الطبعة الثانية 1413هـ، ج 2 ص 99.
[6] محمد بن عبد الرحمن السخاوي: المنهل العذب الرَّوي، تحقيق: أحمد فريد المزيدي، دار الكتب العلمية (بيروت)، الطبعة الأولى 1426هـ / 2005م، ص 43.
[7] Rob Waugh; Reading a book really is better the second-time round and can even offer mental health benefits, Daily Mail, 15 Feb 2012.
www.dailymail.co.uk/sciencetech/article2101516/Readingbookreallybettersecondtimeroundreadingoffermentalhealthbenefits.html.
[8] https://bit.ly/3bbHAYP.
[9] أحمد الزناتي: خزانة الكتب الجميلة: كيف نقرأ؟ ولماذا؟، دار كلمات (الكويت)، الطبعة الثالثة 2018م، ص 8: 9.