وقت القراءة 3 دقيقة
404 عدد المشاهدات

المواطن الأمريكي مواطن استهلاكي من طراز فريد، فهو لا يُفكر أبدًا فيما يفعل، لأن الاستهلاك في حد ذاته هو السعادة، ولو لم تتحقق السعادة بالفعل من الاستهلاك، فهو يُعاني دومًا من حالة “سُعار استهلاكي” يقمع إنسانيته، ولذلك تُمثل سيول الإعلانات وفنونها أكبر ضمان لبقاء الاحتكارات الأمريكية، بل حتى قيمة الدين نفسها كدين لا يُمكن فهمها إلا في هذا الإطار الاستهلاكي والثقافة البراجماتية المادية، فهو لا يحتاجه إلا ليُخلصه من آلامه وشقائه.

من أول الكتب التي أسس فيها د. عبد الوهاب المسيري لفلسفته في علاقة الإنسان بالكون والحضارة، وهو في الأصل مقالات كتبها ونشرها تِباعًا في أماكن متفرقة عقب عودته من الولايات المتحدة، وتحديدًا ابتداءً من عام 1973م، وبرغم أن إقامته المتصلة فيها لم تتجاوز السبع سنوات، إلا أن كتابه يعكس شدة استيعاب للأُسس والبُنيان الذي قامت عليه حضارتها، والتي عبر عنها بما أسماه “الفردوس الأرضي“، مُبينًا عُمق الوهم الأمريكي، فلا يسع القارئ إلا بأن يعترف بوجاهة رأي الكاتب مهما بلغ اختلافه معه في الرأي.

ويتناول عددًا من الأفكار والقضايا المُهمة التي تتعلق بالحضارة الأمريكية.. ابتداءً بالجذور الأولى لهذه الحضارة التي قامت على إبادة أصحاب الأرض الأصليين (الهنود الحُمر)، ورؤية الأمريكان لأنفسهم، ولأمريكا ذاتها، ومبرراتهم لوجودها الحتمي، فكل تاريخ العالم في نظرهم ما هو إلا هُراء ووهم مُمهد لظهورها.

ويُركز على تشابه النشأة التاريخية بين أمريكا وإسرائيل، وتطابق رؤيتهما لكثير من القضايا التاريخية والدينية والفلسفية العنصرية والمُتسلطة، فلا عجب بعد ذلك من تقارب العقلية الأمريكية مع العقلية الإسرائيلية، وتعاطف الشعب الأمريكي مع الشعب الإسرائيلي ونصرته لقيمه اللاإنسانية.

على أن النشأة اللاأخلاقية والعنصرية ليست هي العيوب الأساسية لهذا المجتمع، إذ هو مجتمع ذرائعي براجماتي (نفعي) مادي، لا يسعى إلا وراء الربح، ليس للقيم فيه أو الروح أي اعتبار، بل الواقع هو الذي يُحدد كل القيم حسب دوراته اللامتناهية، وحسبما تُمليه قوانين العرض والطلب الذي لا يُمكن لإنسان التحكم فيها، وهذا يُفسر تعظيمه المجنون للرأسمالية وتقديسه للربحية، والبراجماتية الأمريكية أكثر غباءً من البراجماتية الصهيونية التي هي مزيج فريد شاذ بين العقليتين المادية والغيبية التلمودية.

ويقول بأن المواطن الأمريكي مواطن استهلاكي من طراز فريد، فهو لا يُفكر أبدًا فيما يفعل، لأن الاستهلاك في حد ذاته هو السعادة، ولو لم تتحقق السعادة بالفعل من الاستهلاك، فهو يُعاني دومًا من حالة “سُعار استهلاكي” يقمع إنسانيته، ولذلك تُمثل سيول الإعلانات وفنونها أكبر ضمان لبقاء الاحتكارات الأمريكية.

بل حتى قيمة الدين نفسها كدين لا يُمكن فهمها إلا في هذا الإطار الاستهلاكي والثقافة البراجماتية المادية، فهو لا يحتاجه إلا ليُخلصه من آلامه وشقائه.

وهو في هذا الإطار، وفي المُقابل، يطرح ويعرض لتجربة مالكوم إكس ذلك الأمريكي الأسود الذي انتقل من المادية إلى الروحية، وصنع فردوسه الحقيقي، هذا الفردوس الروحي الذاتي النابع من الإيمان بالله وطاعته، وليس الأرضي الوهمي الكاذب.

وفي مَعْمَعَة هذه البراجماتية المادية فإن منطق الأمور أن تكون أضعف فئات هذا المجتمع؛ المُهاجرون الجُدد والسُود والمرأة، فهؤلاء في الغالب من يدفعون الثمن، لأنهم يُمثلون أفضل طبقة عمالية فائضة مُستعدة للعمل في أي مكان وفي أي وقت دون أي كلفة.. وقد أبدع المُؤلف رحمه الله حين قال؛ “وبهذا المعنى تكوِّن سيدات أمريكا أقليةً مُضطهدة مُستغلةً اقتصاديًا”، وفي معرض شرح سُلم الاضطهاد ذكر بأن المرأة السوداء هي أكبر ضحية للاضطهاد الرأسمالي الأمريكي، فاضطهادها ليس جنسيًا فقط، ولكن جنسيًا عنصريًا طبقيًا، والرجال البيض الأمريكان بالطبع هم الطبقة الأعلى في هذا السُّلم.

الكتاب في الحقيقة قيم جدًا يحتاج لقراءته أكثر من مرة ومرتين بتأني، مُتناه في العُمق في كثير من أفكاره، وكعادة المسيري أبدع في الابتكارات المُصطلحية للتعبير عن بعض المعاني والأفكار، وإن رآها البعض ورأيتُ الإفراط فيها يُضيع قيمة الفكرة في بعض الأحيان.

وللأسف اعتقد أن الكتاب كان يحتاج لتقديم وتأخير وإعادة ترتيب، غير أن هذا لا يُخل بأفكاره لأنها في الحقيقة مُترابطة ومُتداخلة، ولعل مما يُبرر اختلال الترتيب في بعض الأحيان أن الكتاب كما أطلق عليه المُؤلف نفسه “دراسات وانطباعات”، كما أنه في الأصل عدة مقالات نُشرت في جريدة الأهرام ومجلة الطليعة المصرية وفي كتاب صدر بالإنجليزية عن مالكوم إكس.

Share via
Copy link