وقت القراءة 2 دقيقة
467 عدد المشاهدات

معظم محرمات الشريعة لها فلسفة اجتماعية مهمة، مثلًا تحريم الربا – وسنفهم من العلة أن التحريم منطبق تمامًا على الفائدة بكل أنواعها وأشكالها – مرتبط بأن “القرض” فكرة اجتماعية بالأساس، أي أداة أباحها الشرع (وحث عليها) لتحل مشاكل الناس فيما بينهم، وترفع الحرج عنهم، وتدفعهم عن الحرام.

باختصار هو نظام ديني اجتماعي تكافلي، ما معنى هذا؟!

معناه أنك عندما تلجأ لهذه الوسيلة “تُقرض” لابُد أن تفهم أنك تؤدي دورًا اجتماعيًا بوصفك مسلمًا، لك وظيفة اجتماعية تجاه الناس – وهذا لم / لا يفهمه الغربيون لأن المادة هي الوسيلة الأساسية لإدراكهم الأمور – وبالتالي يتعين أن تُدرك أن هذا الأمر له مخاطره التي تتحملها كمسلم ينتظر الجزاء في حياة أخرى (الآخرة)؛ مثلًا ألا تسترد المال مرةً أخرى، أو يظل المقترض معسرًا ويتأخر عليك في رد المال، أو تنخفض قيمة المال بين إقراضك واستردادك له!

وهنا الشرع أيضًا لم يتركك بل حدد حكمًا لكل حالة، وأيضًا تبعًا للدور الاجتماعي لهذه العملية وتبعًا للجزاء المنتظر، يعني مثلًا؛ أمر بإنظار المعسر، ونهى عن زيادة المال بمد الأجل، وهكذا..

كل هذا، منظومة الدولة الحديثة وفي القلب منها منظومة البنوك لا تستوعبه، وهذا أمر طبيعي لأنها منظومة نشأت في أحضان المادية الغربية والرأسمالية، رغم إن مهمة البنك الأساسية هي “الإقراض”، وبالمناسبة كل فلاسفة الاقتصاد تقريبًا مجمعون على أن وظيفة البنوك الأساسية هي الإقراض، ولا كلام لهم إطلاقًا عن الاستثمار، هذا أمر نشأ تبعًا وغير ملزم لمنظومة البنك، البنوك عملها المال!

فاختزال فكرة تحريم الربا والفائدة بموضوع “الاستغلال” مخل؛ إذا نُظر له بعيدًا عن أن الربا مفضي إلى انقطاع المعروف والإحسان بين الناس، وهي غاية أساسية من غايات الاجتماع الإنساني في التصور الإسلامي.. ومن ثمَّ هل يصح أن يتحول “الإقراض” لعمل، أو يكون وسيلة لتكسب؟!

بالطبع لا، طبيعته في الشرع تأبى ذلك، ومن أقدم عليه لزمه تحمل المخاطر الناشئة عنه كعمل من أعمال البر.

ناهيك عن أمر مهم جدًا، هو أن الأصل في علة كل حكم شرعي؛ اختبار السمع والطاعة، فهي تابعة للاستجابة لأحكام الدين، والإمعان في تعظيم الخالق بالإمعان في الخضوع له، وهذه في ذاتها مصلحة تُعلَّل بها الأحكام، وهو سر قول النبي صلى الله عليه وسلم: “حُفَّتْ الجنة بالمكاره” أي الشديد على النفس الذي لا تميل إليه بسهولة، وهو جوهر فكرة “العبودية” و “التسليم”!

وهذا أصل عام في الأحكام سبق التنبيه عليه مرارًا ولا أمل من تكراره، وفي المحرمات أخص، ولذلك لم يقل الله عز وجل بعد: “وذروا ما بقي من الربا إن كنتم.. “؛ تعقلون، أو تفقهون، أو تعلمون، إنما قال: “إن كنتم مؤمنين”، قال بعض المفسرين: لأن الربا والإيمان لا يجتمعان.

ولذلك من دقائق الشريعة، وأحد انعكاسات ارتباط التزكية فيها بالفقه؛ التعبير عن استحلال الربا والمال الحرام بـ “الأكل”، قال تعالى: “الذين يأكلونَ الربا لا يقومونَ إلا كما يقومُ الذي يتخبطه الشيطان من المس”، وفي الحديث: “لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكِّله”!

فالمقصود هو الانتفاع بكل تأكيد، وليس عين الأكل، لكنه عبر بـ “الأكل” في هذا الموضع دائمًا؛ قطعًا لوهم الاضطرار في اكتساب المال الباطل واستحلال الحرام، فالأكل أعظم أنواع الانتفاع التي لا غنى عنها، فإذا كان الأكل به ممنوعًا فكيف بما هو دونه؟!

لذلك قال سعيد بن جُبير: يُبعثون من ثقل بطونهم يتخبطون تخبط المصروع، فالربا ربا في بطونهم حتى أثقلهم فلا يقدرون على الحركة، تلك علامتهم يوم القيامة!
Share via
Copy link