وقت القراءة 26 دقيقة
498 عدد المشاهدات

لعل السؤال الذي يتكرر دومًا في أذهاننا: ماذا يجب أن نفعل في ظل ما نشعر به من عجز تجاه إخواننا في فلسطين، ومثلها السودان وسوريا، باختصار سؤال “ما الحل”؟

لكن ثمة سؤال آخر جوهري يتعين التفكير فيه، قبل البحث عن إجابة للسؤال السابق، هو: ماذا تُمثل هذه المحنة لنا؟

وهنا أمر مهم يجب الانتباه له، يجب أن نُفرق بين قُدرتنا على الحل، والوعي بالحل، فالعجز عن الحل لا يُبرر إهمال الوعي به، بل إبقاء الوعي بالحل والحفاظ على جذوته؛ جزء من الحل!

وتأملوا كيف أن بين قول الله تعالى لنبيه نوح عليه السلام: {وأُوحِيَ إلى نُوحٍ أنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إلا مِن قَدْ آمَنَ} [سورة هود: الآية ٣٦]، وقوله عليه السلام: {ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها ومُرْساها} [سورة هود: الآية ٤١]؛ زمن، الذي هو زمن صنع السفينة، حين جاء الأمر لنوح: {واصْنَعِ الفُلْكَ} [سورة هود: الآية ٣٧]، لم يستغرب نوح الأمر أو يتبرم منه أو يرتاب فيه فيقول؛ أين يا رب العذاب الذي لطالما أنذرتُهم إياه؟! أي سفينة أصنع في هذا الموضع البعيد عن الماء؟! أي سفينة أصنع وأنا لست نجارًا، فهو لم يكن نجارًا إنما عُرف بالنجارة من صُنعه السفينة؟! بل أطاع نوح الأمر، واشتغل فورًا بصنعها بيقين لا يتزعزع، شهور، وربما سنوات، وهو يبني في السفينة، يقطع أخشابها ويُعد أدواتها ثم يبنيها ويجمع حمولتها شيئًا فشيئًا، كل ذلك وهو في غاية الاستضعاف من قومه، فكلما مر عليهم أو مروا عليه {سَخِرُوا مِنهُ} [سورة هود: الآية ٣٨]، نهار وليل، ليل ونهار، ما بين صبر على تجهيز السفينة وصبر على سخرية قومه، لكنه لا يأبه، إذ أمر الله إليه أحب وأصدق.. كان يُمكن أن يكون عذاب قومه أي عذاب لا يستلزم زمن بناء السفينة، أو أن تكون نجاة نوح في فعل لا يتطلب بناء السفينة، لكن إرادة الله أن يكون عذابهم فيما لم يخشوه يومًا، ونجاة نوح فيما كان محط سُخريتهم دومًا.. وإرادة الله فوق كُلّ إرادة.

لنعلم أن زمن صنع السفينة – الذي هو الحد الفاصل بين ما قبله وما بعده، والذي ما بعده ليس كما قبله – ليس زمن امتحان نوح عليه السلام وأصحابه فحسب، بل زمن الامتحان الحقيقي لصبر وعمل كُل مؤمن، فيه تُهيأ نجاته من حيث لا يدري، وفيه يُهيئ الله شفاء صدره وذهاب غيظ قلبه من حيث لا يحتسب.

وأنتم الآن ترون المجاهدين في غزة يقاتلون عبر أنفاق عجيبة حيرت العالم، ويدمرون أقوى الآليات والمعدات بأسلحة مذهلة بالنظر إلى ضعف الإمكانيات وشدة الحصار والاستضعاف الذي كانوا فيه، وهم أنفسهم فيهم من الطاقة النفسية والصمود الأسطوري ما عجزت الأقلام عن وصفه، فهذه الحال لم تصنع اليوم ولم تكن وليدة اللحظة، بل استغرقت سنوات طويلة من التخطيط والإعداد والتجربة حتى خرجت للنور بالصورة التي ترونها.

فالوعي بالحل والحفاظ على جذوته؛ جزء من الحل!

بعد هذه المقدمة،

مهم أن نُدرك أن كل حدث للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم، يُمثل لحظة من لحظات معركة الإيمان والكفر، وهذه اللحظات نفسها تتكرر للمؤمنين عبر التاريخ، فهي الصورة التي ننظر من خلالها لهذا التدافع بين الحق والباطل، وكيف يواجه من جهة الإسلام والمسلمين، واستدعاؤنا الآيات القرآنية في الواقع الذي نعيشه إنما هو في الحقيقة استدعاء لهذه اللحظة التاريخية التي تُمثل المخرج الوحيد.

إحدى هذه اللحظات التاريخية التي يتعين تأملها: “ساعة العُسرة“، يقول الله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [سورة التوبة: الآية ١١٧]، وهي التي نزلت في شأن غزوة تبوك.

ولماذا خصهم الله تعالى بهذه التوبة، وهذا الفضل العظيم بذكرهم في القرآن، حيث يُتلى ويذكرون إلى يوم القيامة؟!

فالاتباع فضيلة في كل الأحوال، في ساعة العُسرة وغيرها، خاصةً في زمن النبوة، حيث المتبعون هم الصحابة الأجلاء، أكرم الخلق بعد الأنبياء، وفيهم من فيهم أهل بدر وبيعة الرضوان! بل الآية جمعت بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم في التَّوْبَةِ، فـ “الاتباع” المذكور في الآية عند أكثر المفسرين اتباع الله جل في علاه، فدلّ ذلك على أن التوبة هنا للفت النظر لأمر آخر مهم.

وهو بيان قيمة الفضيلة ذاتها والعمل نفسه، وتأكيد أن اللَّهَ تعالى لا يُؤاخِذُهم بِما قَدْ يَحْسَبُونَ أنَّهُ يُسَبِّبُ مُؤاخَذَةً، لأجل هذه الفضيلة العظيمة، فيُزيل عن نفوسهم أي أسى قد يجدونه وما عسى أن يشعروا به من تقصير، لأن المؤمن يستشعر ذنوبه كأنه «قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ» كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه الفضيلة لا تُرتب ثواب التوبة فقط، بل ترتب ما هو أبعد من ذلك، من شرح الصدر وإزالة أي هم في القلب، وهذا من جنس ما عملهم، وهو متابعة المؤمنين في أشد الأوقات وأعسرها، فكان الجزاء من جنس العمل، فمن أصول الشريعة أن مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ.

لذلك بلغوا هذا القدر العظيم من المنزلة، وهي أن يتوبَ اللهُ عليهم، ويُخبر أهل ملة الإسلام جميعًا أنه تاب عليهم، وهي غاية الغايات، فكما يقول ابن تيمية: “غَايَةُ كُلِّ مُؤْمِنٍ التَّوْبَةُ” [1]!

ومن شدة قيمة هذا الاتباع على هذه الفضيلة، أنه جاء قبل بيان تحذيري، وتنبيه على التَّحْذِيرِ مِنَ التَّقاعُسِ والتَّوْبِيخِ عَلى التَّخَلُّفِ، فيما يخص الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك وتاب الله عليهم بعدما ابتلاءهم الله عز وجل بما ابتلاهم به من تضييق ومقاطعة من المؤمنين، إذ يقول الله تعالى بعد هذه الآية مباشرةً: {وعَلى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتّى إذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرْضُ بِما رَحُبَتْ وضاقَتْ عَلَيْهِمُ أنْفُسُهم وظَنُّوا أنْ لا مَلْجَأ مِنَ اللَّهِ إلّا إلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إنَّ اللَّهَ هو التَّوّابُ الرَّحِيمُ} [سورة التوبة: الآية ١١٨].

فهذا الانتقال في سياق الكلام يُبرز فضيلة ساعة العُسرة أكثر، ويُبين عظمتها، فبضدها تتميز الأشياء، فهذه المفارقة بين الآيتين تُظهِر المعنى وتُجَلِّيه، والمناسبة بينهما تدل على أن هذا التضييق الذي تعرض له الذين تخلفوا – وهم من الصحابة وخيرة المؤمنين، يكفي أنهم تابوا توبة أخبر الله جل في علاه بنفسه بصدقها وقبولها في كتابه الكريم – كان من جنس العمل الذي قاموا به، كأن الله عز وجل يقول ينبهنا إلى أن التخلف عن المؤمنين في الوقت الذي هم في أشد الحاجة فيه للمؤمن؛ له أثر في الدنيا في القلب وفي النفس، قبل أن يُجازى عنه في الآخرة.

ولذلك ماذا يقول الله عز وجل في شأن “الخوالف” الذين لم يتوبوا؟

يقول: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [سورة التوبة: الآية ٩٣]، فهؤلاء الخوالف لما تقبلت نفوسهم الجُبن والهزيمة النفسية ورضوا بما لا يرضى به عاقل؛ أن يكونوا مع أصحاب الأعذار، كان الجزاء من جنس العمل؛ الطبع على القلوب، واستعمل القرآن هذا التعبير في الموضعين نفسهما الذين ورد فيهما ذكر هؤلاء المنافقين؛ {وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [سورة التوبة: الآية ٩٣]، {وطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ} [سورة التوبة: الآية ٨٧]، فلا يشعرون بغيرة ولا حمية ولا معنى الإقدام والكرامة فحرموا حتى نعمة العلم والندم والتوبة، وهو غاية الخذلان!

فهذه الطبيعة، طبيعة “الخوالف” متكررة في كل زمان ومكان تحدُث فيه الشدّة، فلكل شدة خوالفها!

إذا، كيف نستدعي هذه الساعة في واقعنا الأليم، فلا ريب أننا نعيش ساعة شبيهة بهذه الساعة!

لنرجع مرة أخرى لهذه الساعة الحرجة، ونرى ماذا فعل المؤمنون ليستحقوا هذه المنزلة العظيمة التي تكلمنا عنها.

البعض يتصور أن عظمة هذه الساعة كانت في الجهاد والقتال إلى جوار النبي صلى الله عليه وسلم فحسب، لكن مع عظمة هذا الأمر إلا أنه كان أكبر وأجلّ من ذلك، لقد كان ما فعلوه صناعة القُدرة في كل ظروف العجز، صناعة القوة في كل ظروف الضعف.

يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: “اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ عُسْرَةُ الظَّهْرِ، وَعُسْرَةُ الزَّادِ، وَعُسْرَةُ الْمَاءِ”!

وسُئل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عَنْ سَاعَةِ الْعُسْرَةِ، فقال: “خَرَجْنَا فِي قَيْظٍ شَدِيدٍ، فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا أَصَابَنَا فِيهِ عَطَشٌ شَدِيدٌ، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّ رِقَابَنَا سَتَنْقَطِعُ مِنَ الْعَطَشِ، وَحَتَّى أَنَّ الرَّجُلَ لَيَنْحَرُ بَعِيرَهُ، فَيَعْصِرُ فَرْثَهُ – يعصر كرشته التي يكون فيها الفضلات أعزكم الله – فَيَشْرَبُهُ، وَيَجْعَلُ مَا بَقِيَ عَلَى كَبِدِهِ”!

يقول مجاهد التابعي الجليل: “خَرَجُوا إِلَيْهَا فِي شِدَّةٍ مِنَ الْأَمْرِ فِي سَنَةٍ مُجدبة وَحَرٍّ شَدِيدٍ، وَعُسْرٍ مِنَ الزَّادِ وَالْمَاءِ”، ويقول الحسن البصري: “كان العشرةُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَخْرُجُونَ عَلَى بَعِيرٍ يَعْتَقِبُونَهُ بَيْنَهُمْ، وَكَانَ زَادَهُمُ التَّمْرُ الْمُتَسَوِّسُ وَالشَّعِيرُ الْمُتَغَيِّرُ وَالْإِهَالَةُ – أي الشحم – الْمُنْتِنَةُ، فَإِذَا بَلَغَ الْجُوعُ مِنْ أَحَدِهِمْ أَخَذَ التَّمْرَةَ فَلَاكَهَا حَتَّى يَجِدَ طَعْمَهَا، ثُمَّ يُعْطِيهَا صَاحِبُهُ، حَتَّى يَشْرَبَ عَلَيْهَا جَرْعَةً مِنْ مَاءٍ – وفي لفظ قتادة: يَمُصُّهَا ثُمَّ يَشْرَبُ عَلَيْهَا – كَذَلِكَ حَتَّى تَأْتِيَ عَلَى آخِرِهِمْ، فَلَا يَبْقَى مِنَ التَّمْرَةِ إِلَّا النَّوَاةُ، مَضَوْا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى صِدْقِهِمْ وَيَقِينِهِمْ”!

حتى ذكر بعض أهل العلم أن إحدى أهم المجاعات التي وقعت للمسلمين في عصر النبوة والخلافة الراشدة، ما حدث إبّان غزوة تبوك، فتخيلوا.. اجتمع عليهم؛ شدة الجهاد والجوع والعطش والظَهر، ومع ذلك تمسكوا باتباع الله عز وجل واتباع نبيه صلى الله عليه وسلم.

ومن المفارقات البديعة، أن هذا الحدث، الذي يُذكّرنا بواقعنا الآن ونستمد منه دروس اليوم؛ وقع لهم في شعبان وأول رمضان، إذ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بأصحابه فِي رَجَبٍ، وَأَقَامَ بِتَبُوكَ شَعْبَانَ وَأَيَّامًا مِنْ رَمَضَانَ، فما أشبه الليلة بالبارحة!

وهل تذكرون هؤلاء الشباب القساميين المجاهدين، في رمضان عام ٢٠١٤م الذين حوصروا في نفق في بلدة “القرارة” قرب خان يونس جنوب غزة، لمدة واحد وعشرين يومًا، وكانوا تسعة وعشرين مجاهدًا، فنَفد ما معهم من ماء وطعام، وظل معهم عدة تمرات، جعلوا لكل واحد تمرة، كان يشقها نصفين يأكل نصفًا للإفطار ونصفًا للسحور، وظلوا بدون ماء حتى فوجئوا بماء بطين يخرج من الأرض، فكانوا يرشحونها بإسفنجة في زجاجة يشربون منها، مات منهم ستة، ونجا ثلاثة وعشرين شابًا.

فالاتباع الذي أشارت إليه الآيات؛ كان الاتباع على الشدة، لأن من أعظم بلاءات الشدة؛ أنها مُهيّجة للممانعة والزوغ، فليس كل أحد يقدر على الاتباع حينئذٍ، وهو قول الله تعالى: {مِنْ بَعْدِ مَا كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ}، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: “تَعْدِلُ عَنِ الْحَقِّ فِي الممانعة والنصرة” أي تميل عن الاتباع والنصرة، وهذا أمر لو تعلمون عظيم، فهذه الآية نزلت في الصحابة الذين ربما منهم من هاجر أو شهد بيعة الرضوان أو بدرًا أو أحدًا، وهم من هم، لنعلم كيف أن الشدة كاشفة، وهذا اللفظ {كادَ} لحفظ أقدار هؤلاء هم الكرام الكبار الأجلاء عظماء الدنيا، وإلا فإن فتنة الشدة عظيمة وخطيرة!

فالقرآن حين يخبرنا عن هذه القصة، وهذه التفاصيل التي اهتم بها، لا يعني بالسرد القصصي أكثر من اعتنائه بالدرس الشرعي والسُّنة الإلهية، فكل قصة نبوية خُلدت بالوحي القرآني، دون سواها، لها مغزى جليل وعظيم يتجاوز القصة، ليتأهب كل من هو مخاطب بالقرآن ويستعد، فمن عرف الشيء وعواقبه عد العُدة واتخذ حذره.

وكان أول ما اتبعوا عليه هو “النَّفير“، فالأمر الذي اتبعوا عليه هو: {انْفِرُوا خِفافًا وثِقالًا وجاهِدُوا بِأمْوالِكم وأنْفُسِكم في سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكم خَيْرٌ لَكم إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة التوبة: الآية ٤١]، فالشدة استوجبت أمرًا يوازيها في الشدة مع النفس والجدية، فلفظ {انْفِرُوا} يُشعر بأن فيه مقاومة لشيء وخروج عن المألوف، ولذلك تأملوا كيف أن هذا الأمر أكثر وروده في القرآن كان ما تعلق بأمر شدة تبوك، وكلها في سورة التوبة، عدا موضع واحد في سورة النساء ورد عامًا.

ولاحظوا كيف يستحث القرآن المؤمنين على هذا “النّفير” بقوله: {ذَلِكم خَيْرٌ لَكم}، من يقرأ التفاسير، يجد الكثير منهم يطرح هذا السؤال؛ خيرٌ من ماذا؟ وهل في القعود خير؟ ويحاول بجُهد الإجابة عن هذا السؤال المُحير، ولعل أبدعها على الإطلاق قول البقاعي، أن ذلك خيرٌ في نفسه اختصكم الله به، فهو من خصائص هذه الأمة ومن دلائل خيريتها!

ولأن هذه الخيرية غير محدودة بحد، لذلك عممت الآية بلفظ: {ذَلِكم خَيْر}، فأكثر بركات الجهاد بالنفس والمال، وأعظمها غير محسوس، يدفع الغم، ويُثبِّت الفؤاد، ويُزَكّي النفس، ويُحق الحق، ويُبطل الباطل، ويُذهب غيظ القلوب، ‏لذلك كان ذروة سنامِ الإسلام، ‏ولو كانت بركات الجهاد محسوسة لأقبل الناس عليه إقبالًا منقطع النظير، لكن الله أخفاها بحيث لا يُدركها إلا من تجرأت نفسه عليه، لذلك من عجيب ما ذكره ابن القيم أن الله عز وجل أذن للمسلمين في بدر بالجهاد من غير إيجاب عليهم ليُذيقهم حلاوته، وكان أشق شيء على نفوسهم فجعله إلى اختيارهم إذنًا لا حتمًا؛ فلما ذاقوا عزه وعرفوا عواقبه الحميدة؛ أوجبه عليهم حتمًا فانقادوا له طوعًا ومحبة! ‏قال سُفيان بن عُيينة لابن المبارك: “إذا رأيتَ الناسَ قد اختلفوا فعليك بالمجاهدين وأهل الثغور، فإن الله تعالى يقول: “لنهدينَّهُم سُبُلنا”.

ولعلنا الآن في هذه المحنة التي نتعرض لها في فلسطين، نُدرك هذا المعنى وهذه الخيرية، ولنقارن مثلًا مكتسبات المسلمين في هذه المحنة من أين تأتي؟!

عن طريق حقوق الإنسان ومجلس الأمن والمنظمات الدولية والمناشدات الدولية والمفاوضات ودعاوى السلام، أم من وقفة المجاهدين على الأرض وثباتهم في الميدان؟

أو فلنقارن بين غزة والضفة، من حرر الأسرى في الضفة؟ ومن ثأر لشهدائه وشفى صدور المؤمنين؟

فهذه الأحداث تؤكد لنا أن القرآن نبع صافي نقرأ به واقعنا، فنُدرك سُنن الله الإلهية في النفس وفي الحياة.

إن من أكبر غنائم هذه المحنة، أننا أدركنا في كتاب الله عز وجل معانٍ لم نُدركها ولم يكن لنا أن نُدركها لو عشنا ألف سنةٍ فوق ألف سنةٍ كالتي عشناها فيما مضى!

من أين لنا أن نُدرك كيف يستمر الظلمة في موالاة أعداء الله عز وجل، والانغماس في الاعتزاز بهم، مهما ظهرت عداوتهم للدين وموالاتهم لبعضهم، وعداوتهم للمسلمين، ومهما نكّلوا بإخوانهم، ومهما بدت البغضاء من أفواههم، من قول الله تعالى: {يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ والنَّصارى أوْلِياءَ بَعْضُهم أوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرى الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ} [سورة المائدة: الآيتان ٥١: ٥٢]؟!

وتأملوا لفظة {فِيهِمْ} فلم يقل “إليهم” مع أنها الأوقع لأنظارنا القاصرة، لكنه قال {فِيهِمْ} لأنهم مستمرون في موالاتهم والاعتزاز بهم، منغمسون في محبتهم، مستقرون في الاعتزاز والموالاة!

كيف كنا سنُدرك كيف يميز الله تعالى المؤمن الصادق من الكاذب من قوله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}؟! كيف لنا أن نُدرك كيف ينسلخ الذي أوتي العلم من الدين من قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ}؟! من أين لنا أن نُدرك كيف يكون الركون إلى الظالمين وكيف يكون خسرانهم من قول الله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ ورَسُولَهُ ولَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ}، وقوله: {ولا تَرْكَنُوا إلَى الَذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ومَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ}؟! كيف كنا سنُدرك أن من ثمن الجنة مصابرة الضعف والصبر على البلاء الشديد من قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ ولَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ والضَّرَّاءُ وزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ}؟! كيف لنا أن ندرك كل هذا، دون أن نُعاينَ ما مررنا به من محنة؟!

عَوْدٌ على بَدْء، فالقرآن يستحث المؤمنين على هذا النفير بالتأكيد على خيريته، ولذلك لاحظوا كيف أن معظم انبهاراتنا بعد “طوفان الأقصى” تبدلت بين عشيةٍ وضُحاها، سواء بالأشخاص أو الأشياء أو الأفكار، بل حتى عالم الأفكار يؤكد هذا المعنى، فسنجد ‏ابن خلدون يُعَبر عن ذلك بفكرة المغلوب مولع بالغالب، والمسيري يُعبر عنها بفكرة الخضوع النفسي للنموذج المُهيمن، فإن العِزة موجبة لتوحيد الكلمة وإصلاح النفس وجمع الناس، ‏لذلك سنجد القرآن يربط بين القوة وصلاح الناس بقوله: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [سورة النصر: الآيتان ١: ٢]، حتى قال البِقاعي: “كانوا يُسْلمونَ أُمةً أُمةً في خِفةٍ وسُرعةٍ ومُفاجأةٍ ولين”، ‏فمراغمة العدو وكسر شوكته؛ أول خطوة في إصلاح الناس والأخذ بيدها للخير.

ولذلك، يستغرب القرآن من المسلمين كيف لهم أن يستقبلوا هذا الأمر بـ “النّفير” بـ “التثاقل”؟ فقال عز وجل: {ما لَكم إذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا في سَبِيلِ اللَّهِ اثّاقَلْتُمْ إلى الأرْضِ} [سورة التوبة: الآية ٣٨]، فانظروا كيف عبر عن هذه الممانعة بـ “التثاقل“؛ {اثّاقَلْتُمْ إلى الأرْضِ}، تأملوا هذا اللفظ البليغ {اثّاقَلْتُمْ} الذي يفيد معاني كثيرة: القعود والتخلف والجُبن والكسل والضعف واليأس والإحباط، فكل هذه الأشياء من طبيعة واحدة، ولذلك تأملوا كيف جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين بعضها في سياق واحد عند الاستعاذة منها: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الهَمِّ وَالحَزَنِ وَالعَجْزِ وَالكَسَلِ وَالبُخْلِ وَالجُبْنِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ، وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ»، لأن كُلها موجب للتثاقل إلى الأرض وهو سر الاستعاذة منها جميعًا في سياق واحد، ولذلك في بعض الروايات كان مما استعاذ منه فيما استعاذ منه؛ “الْهَرَمَ” لما يترتب عليه من الخرَف والسوء والكسل.

وليس كل العجز خروج عن القُدرة كما يظن البعض خطأً، بل أكثر العجز شعور، وهو المُلام عليه، يدل على ذلك سياق المكروهات المذكورة، لأن كُره العجز الذي هو خروج عن القُدرة قد يُنافي التسليم بالأقدار والرضا بها، فدلّ ذلك على أن العجز المراد في الاستعاذة هو الأسباب التي تؤدي إلى ذلك، وعدم إدراك أسباب الفعل والقُدرة، لذلك في الحديث الآخر: «إِنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ، وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ، فَإِذَا غَلَبَكَ أَمْرٌ فَقُلْ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ»، فالكيس الأخذ بالأسباب التي تتوفر للمسلم، وضده العجز وهو التفريط فيه، وهو نظير قوله صلى الله عليه وسلم: «اسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ»، لأنه كما قال ابن قيم الجوزية: “أَصْلُ الْمَعَاصِي كُلِّهَا الْعَجْزُ”.

لنعلم أن أسباب التخلف عن النّفير كثيرة، وكلها مرتبطة بمخاوف الدنيا وأطماعها، وما أجمل تعبير سيد قطب رحمه الله عن هذا التثاقل بـ “تصورات الأرض”، ولذلك من بلاغة القرآن العظيم أن الآية التي بعدها مباشرةً جعلت جزاء هذا التثاقل؛ “الاستبدال“، قال تعالى: {إلّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكم عَذابًا ألِيمًا ويَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكم ولا تَضُرُّوهُ شَيْئًا واللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[سورة التوبة: الآية ٣٩]، فحين أخلدوا إلى الأرض تُركوا لها، فكان الجزاء من جنس العمل، فتأملوا كيف أن ترك الجهاد موجب للاستبدال، سواء كان جهادًا بالنفس أو بالمال، فالاستبدال وهو سُنة من سُنن الله عز وجل الإلهية لم يرد في القرآن إلا في موضعين، الموضع السابق في الجهاد عامةً، وفي قول الله عز وجل في الجهاد بالمال: {ها أنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا في سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكم مَن يَبْخَلُ ومَن يَبْخَلْ فَإنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ واللَّهُ الغَنِيُّ وأنْتُمُ الفُقَراءُ وإنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكم ثُمَّ لا يَكُونُوا أمْثالَكُمْ} [سورة محمد: الآية ٣٨]، قال الفخر الرازي: “لِئَلّا يَتَوَهَّمُوا أنَّ غَلَبَةَ أعْداءِ الدِّينَ وعِزَّ الإسْلامِ لا يَحْصُلُ إلّا بِهِمْ”، وهذا كلام حقيقي بليغ يصدقه التاريخ، لذلك قال الله عز وجل في الآية الأولى: {ولا تَضُرُّوهُ شَيْئًا}، وفي الآية الثانية: {ثُمَّ لا يَكُونُوا أمْثالَكُمْ} يعني أفضل منكم.

فحين تضع تعبير {انْفِرُوا} مقابل {اثّاقَلْتُمْ}، تُدرك أن الأمر بالنّفير ضد الجاذبية النفسية للأرض، فلا يقدر على هذا الأمر كل أحد، فعلى قدر الجاذبية لتصورات الأرض كان استعداد المؤمن للاستنفار لله عز وجل.

ولذلك ولأن “التثاقل” عيب نفسي في الأساس؛ استُثني منه هؤلاء الذين لا يجدون، يعني لا ينقصهم إلا القُدرة المادية، فالقُدرة المعنوية والاستعداد النفسي موجودة، والذين عبرت عنهم الآية بـ: {ولا عَلى الَّذِينَ إذا ما أتَوْكَ لِتَحْمِلَهم قُلْتَ لا أجِدُ ما أحْمِلُكم عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وأعْيُنُهم تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا ألّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ} [سورة التوبة: الآية ٩٢]، بعد قوله تعالى: {لَيْسَ عَلى الضُّعَفاءِ ولا عَلى المَرْضى ولا عَلى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إذا نَصَحُوا لِلَّهِ ورَسُولِهِ ما عَلى المُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ واللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[سورة التوبة: الآية ٩١]، فاقتضت المفارقة بين الآيتين المتعاقبتين أننا أمام عدة أصناف من أصحاب الأعذار في ساعة العُسرة:

أصحاب الأعذار الأصليين من المرضى والضعفاء ومن لديهم نقص في البدن.

والصنف الثاني: الذين لا يجدون ما ينفقون، أي الَّذِينَ لا يَجِدُونَ الأُهْبَةَ والزّادَ والرّاحِلَةَ.

وصنف آخر متميز أفرد الله عز وجل ذكره بآية مخصوصة وهم {الَّذِينَ إذا ما أتَوْكَ لِتَحْمِلَهم قُلْتَ لا أجِدُ ما أحْمِلُكم عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وأعْيُنُهم تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ}، فَإنْ قِيلَ: ألَيْسَ أنَّ هَؤُلاءِ داخِلُونَ في جملة الصنف الثاني تَحْتَ قَوْلِهِ: {الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ}، فَما الفائِدَةُ في الإعادة والتخصيص؟!

هنا نحن أمام معنيين، أن يُقال إن هؤلاء يملكون لكن لا يملكون بالقدر الكافي الذي يكفي للحقاهم بالذين جاهدوا، وهذا قال به الفخر الرازي وغيره من المفسرين، فإذا كان {الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ}؛ فقراء، فإن {الَّذِينَ إذا ما أتَوْكَ لِتَحْمِلَهم}؛ بمثابة المساكين الذين ملكوا النفقة ولم يملكوا الوسيلة (المركوب هنا في غزوة تبوك).

وفي تقديري ثمة معنى آخر أهم، لأن في الآية نفسها قال: {ألّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ} فحالهم المادي هو حال الفقراء نفسه، فالأبلغ أن يُقال إن هؤلاء من جنس صنف {الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ}، لكنه تعالى خصهم بالذكر لهذه الفضيلة العظيمة التي لم تحصل لغيرهم وهو أنهم لم يكتفوا بأعذارهم، إنما جاهدوا في تحصيل الوسيلة ما أمكنهم {إذا ما أتَوْكَ لِتَحْمِلَهم}، فلم عجزوا {تَوَلَّوْا وأعْيُنُهم تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا}، فكأن هذا العجز أكل قلوبهم حتى فاضت أعينهم بالدمع!

فآيات ساعة العُسرة الكريمة، لم تُغفل هذا الصنف من الناس، ليُزيل الشرع أي توهم حولهم، وكي لا يجتمع عليهم همّان؛ هم الحزن على ما فاتهم وهم الحزن من توهم تقصيرهم، فنفهم المعنى الحقيقي لكل من “النّفير” و “التثاقل”.

فهذا الحزن الذي يُمزقك ربما كان أرضى ما فيك لله عز وجل، هذه الحُرقة التي في صدرك ربما كانت أحسن ما فيك.

لأن المسلم لا يكون عاجزًا حقيقةً أبدًا، ربما يكون عاجزًا حكمًا أو مجازًا، لكن حقيقةً أبدًا لا يكون عاجزًا إلا بالموت أو إرادته، فمن دقائق الشريعة أن كل مساحة عجز لابد أن تُقابلها مساحة استطاعة، وإن قلت! وتأمل مثلًا كيف أن إنكار المنكر؛ مراتب، فمن تعذر عليه عمل اليد؛ تبقى له عمل اللسان، ومن فاته عمل اللسان تبقى له عمل القلب والمشاعر، فالمسلم لا يخلو عن عمل تجاه واقع، مهما شعر بالعجز تجاه نفسه أو تجاه إخوانه، لماذا؟

لأن غاية وجود المسلم العبودية، والعبودية واجبة بالمقدور عليه لا بما خرج عن القدرة، وهو سر قول النبي صلى الله عليه وسلم: «اسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ»، قال أبو إسحاق الزَجّاج: “من قدم العجز في أمرٍ أضاعه”.

ولذلك من وصايا النبي صلى الله عليه وسلم البليغة؛ «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ الْخَيْرُ، فَاحْرِصْ عَلَى مَا تَنْتَفِعُ بِهِ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ»، فمناسبة قوله: «وَلَا تَعْجِزْ» مع قوله: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ»، أي خذ بأضعفِ الأسباب واستعن بالله، ولا تعجز عن الحرص والاستعانة، فإن الله تعالى يُعطيك قوة بها إذا استقمت على الاستعانة به، والقوة كما تكون في البدن؛ تكون في الإرادة والهمة والبصيرة والثبات وعزم القلب والمشاعر تجاه المسلمين.

وهذا يضعك أمام سؤالٍ مهم؛ هل أنت عاجز حقًا؟!

فأغلبنا ينظر إلى ما يعجز عنه لا ما يقدر عليه، والشريعة أرحب وأرأف بنفس الإنسان التي بين جنبيه من الإنسان، وتأملوا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِغَزْوٍ مَاتَ عَلَى شُعْبَةِ نِفَاقٍ»، فجعل مجرد طلب النفس للجهاد بصدق مبلغًا لمنازلِ الشهداء!

فهذه الإضافة: «وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِغَزْوٍ» ليست شكلية، بالضبط مثل فكرة إنكار المنكر بالقلب: «فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ، فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ»، فهذا خط ناظم في الشريعة له مغزىً مهمًا هو استدعاء ما يكون في مَقْدور الإنسان ويدخُل في حَيِّز اسْتطاعته، وحشد طاقته النفسية التي تسَعه دومًا وتدخُل في حُدود قُدرته، ولذلك في الأمرين لم يلتمس أي عُذر، بل قطع علاقة الإيمان ونفاها عمن لم يسعه هذا الشعور النفسي، في الأول «مَاتَ عَلَى شُعْبَةِ نِفَاقٍ»، وفي الثاني «وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ»، وليتحقق معنى آخر مهم، وهو تحريك كل قوى المؤمنين، المادية والشعورية، فلا يبق فيهم أي عاطل، ولهذا قُلتُ أن المؤمن لا يكون عاجزًا أبدًا.

ولذلك في آيات ساعة العُسرة نفسها، لاحظوا دقة التعبير القرآني: {فانْفِرُوا ثُباتٍ أوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} [سورة النساء: الآية ٧١]، أي جَماعاتٍ مُتَفَرِّقَةً، أو مُجْتَمِعِينَ كَوْكَبَةً واحِدَةً، ومثلها قول الله تعالى: {فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أوْ رُكْبانًا}، ونحوه: {انْفِرُوا خِفافًا وثِقالًا} [سورة التوبة: الآية ٤١]، فالإسلام يفتح المجالات ويُفسح الطرق لتخير أساليب العمل وفعل ما أمكن، يُريد أن يقول أفعل ما تستطيع، ولذلك من عبقرية الفخر الرازي أنه لما جاء لتفسير الآية الأخيرة، وبعد أن ذكر أقوال المفسرين وأهل اللغة في معناها، قال: “والمُرادُ انْفِرُوا سَواءٌ كُنْتُمْ عَلى الصِّفَةِ الَّتِي يَخِفُّ عَلَيْكُمُ الجِهادُ، أوْ عَلى الصِّفَةِ الَّتِي يَثْقُلُ”، فالفكرة ليست في الصفة إنما في استجابتكم للأمر الشرعي، وما ينبغي أن تكونوا عليه.

ومن العجائب التي تروى في هذا الموضوع عن سعيد بن المُسيب التابعي الجليل أنه خَرَجَ إلى الجهاد وهو كبير، وقَدْ ذَهَبَتْ إحْدى عَيْنَيْهِ، فَقِيلَ لَهُ: إنَّكَ عَلِيلٌ صاحِبُ ضَرَرٍ، فَقالَ: “اسْتَنْفَرَ اللَّهُ الخَفِيفَ والثَّقِيلَ، فَإنْ عَجَزْتُ عَنِ الجِهادِ؛ كَثَّرْتُ السَّوادَ، وحَفِظْتُ المَتاعَ”!

ويحكي صَفْوانَ بْنِ عَمْرٍو أحد تابعين التابعين الثقات، يقول: كُنْتُ والِيًا عَلى حِمْصَ، فَلَقِيتُ شَيْخًا قَدْ سَقَطَ حاجِباهُ، مِن أهْلِ دِمَشْقَ عَلى راحِلَتِهِ يُرِيدُ الجهاد، قُلْتُ: يا عَمِّ أنْتَ مَعْذُورٌ عِنْدَ اللَّهِ، فَرَفَعَ حاجِبَيْهِ وقالَ: “يا ابْنَ أخِي اسْتَنْفَرَنا اللَّهُ خِفافًا وثِقالًا، ألا إنَّ مَن أحَبَّهُ ابْتَلاهُ”!

لذلك كان من أصول هذا الدين أن المسلم غير مطالب بنتائج، فكل نصوص الشريعة تضافرت على كونه مُكلفًا مأمورًا بالفعل لا النتيجة، بل ولا حتى انتظار النتيجة، فقد تتحقق ويقر بها عينه، وقد لا يراها في حياته وينعم بها من بعده، وربما لا تتحقق كليةً!

فمن أصول الدين أن تعلم أنه ليس لك من الأمر شيء، إنما عليك السمع والطاعة والعمل لله والتسليم له، ولك الأجر وهو عنده لن يضيع، سيُجزيك عليه وقتما شاء في الدنيا أو الآخرة أو فيهما معًا، أنت مطالب ببذل عناية لا تحقيق نتيجة، لأن النتائج على الله بأسباب وبلا أسباب بمقدمات وبلا مقدمات، كما يقول سيد قطب عن الصحابة والسلف: “كانوا أُجراء عند الله، حيثما وكيفما أرادهم أن يعملوا؛ عملوا، ثم قبضوا الأجر، ليس لهم ولا عليهم أن تتجه الدعوة إلى أي مصير، فذلك شأن صاحب الأمر لا شأن الأجير”!

لماذا يشغلك أن ننتصرَ أو نُهزم؟! أنت مطالب بـ “خذِّل عنَّا ما استطعت”، هكذا كان أمر النبي صلى الله عليه وسلم لنُعَيْم بن مسعود رضي الله عنه يوم الأحزاب: «إنما أَنْت فِينَا رجل وَاحِد، فخذل عَنَّا ما استطعت، فَإِن الْحَرْب خدعة»، وفي رواية: «مَا اسْتَطَعْتَ أَنْ تُخَذِّلَ عَنَّا النَّاسَ فَخَذِّلْ»، ونُعَيْم فردٌ بطولِه، لم يستغرب الأمر أو يرتاب فيه فيقول: أي تخذيل أفعل؟! وكيف يُفيدهم تخذيلي؟! يا رب، وما مصيرُ المؤمنين، منصورونَ أم مهزومون؟!

بل مضى فورًا لما يَقْدر عليه، بيقين لا يتزعزع مضى يُخذل عن المؤمنين، فأمرُ الله أحب وأصدق!

أجمل ما في هذا الدين أنه لا يعرف النهايات، فضلًا عن أن يترقبها أو ينتظرها، بالغ في السعي ولا تبالغ في الآمال، وإذا كان لابُد من أن تستنزف مشاعرك فاستنزفها في غيظِ عدوك.. لا يَهم من مات، ومن بقي.. فمن مات.. لم يمت حقيقةً بل أحياء سبقونا لأرحب الأوطان وأصدقها.. مات ياسر وسُمية رضي الله عنهما وماذا رأوا من الإسلام إلا “صبرًا آل ياسر، فإن موعِدكُم الجنة”؟!

ومن بقي.. فمُبتلى، بجولةٍ أخرى حتى يلقى الله؛ فإما صادقٌ أو مخذول؛ فالصادقُ منصورٌ وإن مات، والمخذولُ مهزومٌ وإن عاش.. كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا عاد مريضًا يقول: «اللهم اشفِ عبدك؛ يشهدُ لك صلاةً وَيَنْكَأُ لك عدوًا»، فهذه وظائف المؤمن في الحياة، العبودية، وإقامة حُكم الله في الأرض.

ولذلك أيضًا كانت “الاستطاعة” أحد المعاني المركزية التي أكدت عليها الشريعة، قال تعالى: {لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} [سورة البقرة: الآية ٢٣٣]، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [سورة البقرة: الآية ٢٨٦]، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [سورة الطلاق: الآية ٧]، {وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [سورة المؤمنون: الآية ٦٢]، {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [سورة البقرة: الآية ١٨٥].

فكل الأوامر والنواهي الشرعية؛ الاستطاعة إما أن تكون ركنًا فيها أو شرطًا أو سببًا أو علة، لأن الإسلام دين رحمة، جاء بما يوافق فطرة الناس، وأتى بما يُناسب استعداداتهم الروحية والجسدية.

والبعض يفهم هذا “الأصل” في الشريعة بوصفه مبررًا للهروب من الأحكام الشرعية، ويتخذه سبيلًا للتنصل من الأوامر، وهذه جناية في حق الشرع، فعذر الاستطاعة – ونحن في مجال الكلام عن النّفير والنُصرة – يجب أن يكون حقيقيًّا، أي لا ينتقل فيه المسلم من حال أعلى إلى حال أدنى إلا بعذر حقيقي تنتفي به الاستطاعة في التكليف الأعلى، فحين يتوجب عليك أن تنصر المسلمين بالمال أداءً أو امتناعًا، أداءً لهم وامتناعًا عن عدوهم (الذي هو المقاطعة)؛ فلا ينبغي أن تكتفي بالدعاء!

على كل مسلم أن يبذل ما استطاع لهم، من يملك أن ينصر بنفسه ويشاركهم الجهاد والرِّباط يفعل، ‏من يملك المال أو إيصاله لهم يُنفق ويوصل، ‏من يستطيع البيان يتكلم ويكتب؛ يرفع صوتهم ويُبين الحق ويفضح الباطل ويُثبت المؤمنين، من يستطيع الدعوة الفردية فيمن حوله، يدعو ويُضيف للمؤمنين.. وتأملوا كيف أن بعض الأقوام في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كان إسلامها بفضل رجل واحد، مثل أبو ذر الغفاري وضِمَاد الأزدي وطُفَيل الدوسي، رضي الله عنهم جميعًا، بل في حديث إسلام ضِمَاد الأزدي لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: “هَاتِ يَدَكَ أُبَايِعْكَ”، فَبَايَعَهُ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَعَلَى قَوْمِكَ»، قَالَ: “وَعَلَى قَوْمِي”!

وطُفَيْلُ بن عمرو الدَّوْسِيُّ رضي الله عنه لما تمنع بعض قومه في البداية؛ أتى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ دَوْسًا عَصَتْ وَأَبَتْ، فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهَا، فَقَالَ النَّاسُ: هَلَكَتْ دَوْسٌ، فقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَأْتِ بِهِمْ».

ولذلك، من جملة ما حث رب العزة نبينا صلى الله عليه وسلم عليه في كتابه العزيز؛ أن يُحرض المؤمنين على القتال، فلم يكتف بالأمر بالقتال، بل جعل التحريض في ذاته عبادة يُتعبد بها الله عز وجل، فقال: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ}بعدها مباشرةً: {وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ}.. ثم بيَّن لماذا، فقال: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا}، فبيَّن أن للذين كفروا بأسًا وأذىً.. لكن الله تعالى يكُفه لا ببذل النفس فحسب، بل بتحريض المؤمنين عليه كذلك، فلا يستقل أحد نفسه، من لم يملك النصرة بالنفس فعليه النصرة بالبيان.. فمن أدى الواجب الذي يقدر عليه فقد اهتدى، وما أدق قول ابن القيم في تفسير الآية: “لئلا يتوهم سامع أنه وإن لم يكلف بهم – أي بحملهم على بذل أنفسهم – فإنه يهملهم ويتركهم”!

ولاحظوا لفظة {الْمُؤْمِنِينَ}، ولم يقل “المسلمين”، فالعادة أن العدد يقوي النفس، لكنه تعالى أراد أن يُذكرنا بأن الإيمان قوةً للنفس تدفع عنها وهم استشعار الضعف أمام بأس عدوها.

وأيضًا تأملوا كيف أن ذكر “النفير” كله في القرآن، الذي تكلمنا عنه منذ قليل، يتعلق بالجهاد وفي سورة التوبة إلا موضع واحد في سورة النساء، وفي خضم الحث والحض عليه يتغير مجال الحث والحض عليه من الجهاد إلى العلم، في قول الله تعالى: {وما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِنهم طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا في الدِّينِ ولِيُنْذِرُوا قَوْمَهم إذا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهم يَحْذَرُونَ} [سورة التوبة: الآية ١٢٢]، فاستَعمل تعبير “النفير” ذاته، وفيه دلالة على أن العلم أيضًا قوة وضرورة، فالجهاد والعلم ليسا غاية، إنما هما وسيلة لغاية كُبرى هي تعبيد الناس لرب العالمين وإقامة حُكم الله عز وجل في الأرض.

‏فاليوم لا نستطيع مشاركة إخواننا جهادهم ورِّباطهم؛ فلنعد ونستعد، نكتسب ونُكسب، نكتسب ما استطعنا من قوة بكل أشكالها، ونُكسب من يحيطون بنا من المؤمنين كل قوة، وهذا من آكد الواجبات، معنا هنا مثلًا أمهات وآباء ربما لا يملكون شيئًا يمكن فعله لإخواننا في غزة؟ فهل هم عاجزون حقًّا؟!

فليسألوا أنفسهم ماذا فعلوا ليُعدوا أولادهم لجولة أخرى في هذه المعركة؟ قبل أن يتعللوا بأنهم عاجزون حقًّا!

وفي كل الأحوال، نملك جميعًا الدعاء لإخواننا وتثبيتهم بالكلمة، نملك إضعاف عدونا وعدوهم بالمقاطعة، ومع ذلك كله، وبعد ذلك كله؛ ينبغي مشاركتهم همومهم؛ فنفرح لفرحهم ونحزن لحزنهم.

ولذلك لاحظوا كيف أن الجهاد دائمًا ما يُذكر في القرآن بالمال قبل النفس، {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ}، {وجاهَدُوا بِأمْوالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ}، ومن المعلوم أن الجهاد بالنفس أعظم من الجهاد بالمال بلا شك! لكنه قدم الجهاد بالمال لئلا يتوهم السامع أنه إذا لم يكن قادرًا على الجهاد بالنفس، لا يستطيع أن يبذل للإسلام والمسلمين.

وكما أن العبرة في الاستطاعة بحقيقة الحال، لا بالأعذار المتوهمة، فكذلك يجب أن تكون هي نفسها غير متوهمة، فيُكلّف المسلم نفسه أو غيره ما لا يطيق، بل يُخذل عن المسلمين ما استطاع سبيلا، لا بما لا يقدر عليه فيفتن نفسه ويفتن الناس، وفي الحديث: «لا ينبغي للمؤمنِ أن يُذِلَّ نفسَه، قالوا: وكيف يُذِلُّ نفسَه؟! قال: يتعرضُ من البلاءِ لما لا يُطِيقُ»، فإذا وقع البلاء صبر وشكر وكان على قدر ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن الحق، «إِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا» كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.

فالاستعداد نوع من الاستطاعة، وتركه نوع من التقصير، ومن ملك الاستعداد لا يُقال عنه عاجز، كان أبو الدَّرْداء يقول: “إِنَّمَا تُقَاتِلُونَ بِأَعْمَالِكُمْ”، ومن فقه البخاري أنه حين روى هذا الأثر في صحيحه بوَّبَ له بعنوان: “بَابٌ: عَمَلٌ صَالِحٌ قَبْلَ القِتَالِ”، ثم أورد حديثًا عظيمًا بديعًا أن رجلًا مُقَنَّعًا بالحَدِيد جاء للنبي صلى الله عليه وسلم قبل القتال في غزوة مباشرةً يُريد الإسلام، فقال للنبي صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم: “يا رَسولَ اللَّهِ، أُقَاتِلُ أَوْ أُسْلِمُ”؟ يعني أُقاتِلُ معكَ أوَّلًا ثم أُسلِمُ بعْدَ انتِهاءِ القِتالِ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أَسْلِمْ ثُمَّ قَاتِلْ»، فأسْلَمَ الرجل، ثُمَّ قَاتَلَ فَقُتِلَ، فسأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم بعد القتال، فإذا هو قد قُتل، فَقالَ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «عَمِلَ قَلِيلًا، وأُجِرَ كَثِيرًا»! وعبقرية البخاري هنا في أنه لم يفهم ما قد يتبادر للذهن لأول وهلة من أن الله يُثيب الثواب الجزيل على العمل اليسير، وهذا حق وواضح، لكن المعنى الأبلغ والأعمق أن العمل الذي تستطيعه؛ بادر به، فربما وفقك للعمل الذي تؤجر به الأجر العظيم الكبير!

وهو معنى حديث ظهور المهدي في آخر الزمان، الذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «يُصْلِحُهُ اللَّهُ فِي لَيْلَةٍ»، فليس معنى ذلك أن يكون فاسدًا ثم يصبح صالحًا فجأةً بغير عمل، أو جاهلًا ويصبح بين عشية وضحاها عالمًا بغير تعلم، إنما المعنى أن الله عز وجل يُهيئ له أسباب نصره، ويرفع قدره لقيادة الأُمة ويُؤلف الناس حوله للقيام بمهمته الكبرى، بما استعد به من عمل وصلاح، بعد أن كان مجهولًا في الناس لا يُلتفت إليه، ولذلك قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: «يملأها عدلاً كما مُلئت جورًا».

‏فليبدأ كل منا بما يستطيع لا ينظر لغيره، إن كان قد بدأ أم لا، يقول محب الدين الخطيب رحمه الله: “أما نحن فقد رضينا أن نكون غُثاءً كغُثاء السيل، وسنظلُّ غثاءً حتى نَرجِعَ مسلمين، فيصهرنا الإسلام بحرارته، ويجعلنا كما كان أجدادنا أُمة عمل، فنتأهلُ بذلك للخلافة على الأرض، ولكن متى نبدأ؟!

‏سنبدأ يوم يُبادر كل واحد منا فيبدأ، غير مُلتفت إلى غيره إن كان قد بدأ أم لا”.

Share via
Copy link