وقت القراءة 4 دقيقة
1٬180 عدد المشاهدات

لا يكاد الباحث في تاريخ القانون في البلاد العربية يُخطئ إذا أرجع القانون الوضعي فيها في أصوله التاريخية إلى القانون الفرنسي بصفة خاصة، فقد كان نابليون أول من حاول استبدال القانون الوضعي بالشريعة الإسلامية في البلاد العربية استبدالًا كليًا في العصر الحديث، فبعد احتلاله لمصر ­ التي كانت خاضعة للحكم العثماني ­ عام 1798م أنشأ محاكم القضايا ومحاكم الطوائف غير الإسلامية، وكان الهدف من ذلك تقليص دور المحاكم الشرعية، وصاحب ذلك إحداث بعض المشروعات المُؤثرة في البنية الثقافية للمجتمع، منها: إنشاء معهد مصر في أغسطس 1798م على غرار المعهد القومي الفرنسي والذي كان بمنزلة هيئة التعليم العالي في المملكة المصرية، ومنها نشر الثقافة الفرنسية من خلال عدد من الخبراء والمستشرقين الفرنسيين الذين قدموا مصر ومعهم خمسمائة وخمسين كتابًا في مختلف الفنون ومطبعة للطباعة بثلاث لغات الفرنسية والعربية واليونانية بالإضافة إلى تجهيزات أخرى فنية.

ورغم كل الآثار التي خلفتها الحملة الفرنسية إلا أنها لم تكن من الخطورة بمكان على نحو التطورات اللاحقة، فقد رفض المجتمع التجاوب بصورة أو أخرى مع المُحتل، لاسيَّما مع المبالغة في سلبه الأموال وفَرْض الضرائب الباهظة على المصريين، وكثير من مظاهر التغريب التي خلفها المُحتل الفرنسي اندثرت مع خروجه، ومنها المحاكم الخاصة التي أنشأها نابليون، إذ حُلت وتلاشت بخروجه من مصر، وأُعيد الاختصاص العام للمحاكم الشرعية في نظر الخصومات والقضايا، لكن سُرعان ما ازداد الأمر سوءًا مع تولي محمد علي باشا حكم مصر في الفترة من عام 1805م حتى 1848م، فإن فترة حكمه كانت بمنزلة امتداد فكري وثقافي للاحتلال الفرنسي، ولم يكن أحفاد محمد علي بأفضل من جدهم فيما تعلق بالتغييرات الجوهرية التي أحدثوها في البنية الثقافية للمجتمع، ويُمكن اعتبار الخديوي إسماعيل أسوء سلاطين تلك الأُسرة، فقد أحدث في هذه البنية تَغَيُّرات في غاية الخطورة، كان لها أثرها البالغ في توطين القوانين الوضعية في نفوس الأفراد وتلقيهم لها بالقبول.

كشاف الموضوعات:

الفصل الأول: إقصاء الشريعة وتمكين القوانين
  • تمهيد تاريخي
  • المرحلة الأولى: الحملة الفرنسية
  • المرحلة الثانية: محمد علي
  • المرحلة الثالثة: ما بعد محمد علي
  • المرحلة الرابعة: الاستعمار وإرثه
الفصل الثاني: التعليم القانوني بين التجريف الوضعي والإصلاح الشرعي
  • مدرسة الحقوق
  • مدرسة القضاء الشرعي (١٩٠٧: ١٩٣٠م)
  • النخبة القانونية في مصر وموقفها من تحكيم الشريعة
الفصل الثالث: في مظاهر انحراف القوانين الوضعية عن الشريعة
  • تقسيمات أولية
  • التقنينات الجنائية
  • التقنينات المدنية
  • تقنينات الأحوال الشخصية
الفصل الرابع: تقنين الشريعة الإسلامية: الآليات والتجارب
  • ماهية التقنين وغايته وأصله التاريخي
  • بين المجوزين والمانعين
  • الصياغة القانونية الحديثة وأدوات التقنين
  • التجارب التاريخية
الفصل الخامس: المرجعية الشرعية الدستورية
  • التطور التاريخي للمرجعية الشرعية في الدساتير المصرية
  • المدلول الشرعي والقانوني لمصطلح “مبادئ الشريعة”
  • النطاق الشرعي والقانوني للأحكام “قطعية الثبوت قطعية الدلالة”
  • جهة الخطاب الدستوري
  • المحكمة الدستورية العُليا المصرية: تناقض الممارسات
  • حول الموقف من المرجعية الدستورية الشرعية
الفصل السادس: تطبيق الشريعة وإشكاليات العودة
  • معوقات تطبيق الشريعة:

(١) المعوقات النفسية والفكرية

(٢) المعوقات المادية والواقعية

  • دور القُضاة في تفعيل الشريعة والإصلاح السياسي الشرعي
  • بين الشريعة والقانون

مُقدمة الكتاب:

بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد..

يقول فلاسفة القانون إن القانون هو مقياس الأشياء، أي الفاصل المميز بين الخير والشر، بين الحق والباطل، بين الاستقامة والانحراف، وهو سر الإلزام به، فإذا كان ذلك؛ فهل يسوغ أن ينفصل عن طبيعة المجتمع الذي يحكمه، وعادات هذا المجتمع التي ترجع إلى الأخلاق السائدة فيه؟! أو أن تمتد جذوره إلى ثقافة غير ثقافته الأصلية وما استقر فيها من تحسين وتقبيح؟!

لقد عاشت البلاد العربية في ظل الحكم الإسلامي لعقود طويلة من الزمان، وظل أهلها مُنذ فتحها يحتكمون إلى الشريعة المتمثلة في القرآن والسُّنة والأحكام التي استمدت منهما باستعمال أصول الفقه وضوابطه وقواعده الكلية التي وضعها الفقهاء المسلمون، مستلهمين الحلول من سوابقهم وسوابق أسلافهم والأشباه والنظائر إذا لم يجدوا في كتاب الله وسُنة نبيه صلى الله عليه وسلم بُغيتهم، وقد اجتهدوا في ذلك أيما اجتهاد، وصنفوا في أصول التقاضي والأحكام والدعاوى ما عجزت سائر الأمم السابقة عن الإتيان بمثله، بل سبقوا إلى تأصيل النظريات التي يُفاخر القانونيون المعاصرون بتأصيلها وذِكْرها في كتبهم، وبلغ بهم الشأن العظيم أن كانوا مرجعًا للأوروبيين في المسائل الحقوقية والمعضلات القانونية يفزعون إليه كلما دعتهم الحاجة ليجدوا لدى المسلمين كلمة الفصل فيما يهمهم ويشغل بالهم.

عن ذلك يُحدثنا علي حيدر وزير العدلية في الدولة العثمانية، والأستاذ بكلية الحقوق في الأستانة، ورئيس محكمة التمييز (النقض)، وأمين الفُتيا (١٨٣٧: ١٩٠٣م) فيقول: “وقد استُفْتِيَتْ دارُ الاستفتاء هذه في بعض الأحوال من قبل دول أوروبا في بعض المسائل الغامضة الحقوقية” [1].

وفي الجملة كانت الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيس والأوحد للأحكام لأكثر من ألف وثلاثمائة عام حتى نهاية القرن الماضي حين تزايد النفوذ الأجنبي الذي استهدف إقصاء الشريعة وتغيير البنية الاجتماعية للأُمة، حيث أُنشئت المحاكم المختلطة، وأُلغيت المحاكم الشرعية، واستمدت القوانين من مصدر أجنبي غير شرعي لا يتصل بانتماء البلاد الإسلامي ولا بخصائصها الثقافية والاجتماعية التي حددت ذاتية البلاد وهويتها الإسلامية، وكان من الأولى أن تنعكس على القانون الذي يحكمها ويسود فيها، فالتشريع الصحيح وليد روح الأُمة وقيمها ومبادئها الدينية والاجتماعية.

هذا الكتاب ما هو إلا إسهام في إماطة اللثام عما دار من مؤامرات لإقصاء الشريعة الإسلامية بالكلية واستبدالها بقوانين وأنظمة لا تتصل بانتماء البلاد الإسلامي وبحضارتها وثقافتها الإسلامية، في ظل الانسياق الشرقي للانبهار الغربي بمجموعة نابليون القانونية، الذي ساد التاريخ القانوني والاجتماعي في القرن التاسع عشر، حيث كان يُنظر إليه بوصفه أعظم تطور قانوني حصل في التاريخ بعد القانون الروماني، والله أسأل أن يوفقني لإتمام هذا العمل على الوجه الذي يحبه ويرضاه.

———————————-

[1] علي حيدر خواجة أمين أفندي: درر الحكام شرح مجلة الأحكام، ترجمة: فهمي الحسيني، دار الكتب العلمية (بيروت)، ج 4 ص 566.

Share via
Copy link