ما زال الحقُّ والباطلُ يتفقان في أن كليهما في عين أهله حقٌّ، لكن الفرق بينهما كبير، فأهلُ الباطلِ سرعان ما ييأسون، لأن الباطل لا يولد قوةً للدفع، لا في ذاته ولا لسبب خارج عنه.
أما أهلُ الحقِّ الحقُّ فلا يتمكن اليأسُ من قلوبهم، لأن القوةَ التي تدفعهم للانتصار للحق لا تنشأ من إيمانهم بالحقِّ ذاته فحسب، بل من يقينهم بأن خصومهم على الباطل، فهم دومًا في حال ابتلاء، وعادةً في موضع اختبار، لكنهم لا يتنازلون أبدًا عن الحق، ولا يسْتكينون ساعةً للباطل، وإن بلغوا ذروة محنتهم، أو كان أهل الباطل في أقصى قوتِهم، لأنهم يُدركون أن قوتَهم لم ولن تنبع يومًا من كثرةٍ أو عتاد، بل لن تنبع إلا من عقيدتهم التي يُؤمنون بها ويذودون عنها.
ولذلك فهم على يقينٍ تام بنصرِ الله لهم، لأنهم لا يُريدون مقصدًا إلا إعلاء كلمته على كلمة من سواه، وهم في ثباتٍ مطلقٍ حتى يُظهرَهم الله على عدوه وعدوهم، ولو كانوا أقل عددًا أو أضعف عتادًا، وكلما اضطُهدوا من أجل العقيدة التي يؤمنون بها كلما ازدادوا ثباتًا عليها، بل لن تُؤتيَ عقيدتُهم أُكُلَها في الناس إلا بقدر ما يلاقونه من الصعاب من أجلها، فدعوتَهم لن تبلغَ منتهاها إلا بالبذل والتضحية، ولن يُدركوا غايتَها أبدًا براحةِ الأبدانِ وسلامةِ الأنفسِ وكَنْز الأموالِ، بل لن تعلوَ صيحتُهم التي يُريدون لها أن تدوي في العالم إلا ببذل التضحيات وتَحمُّل مشاق الجهاد، وعدم تعجُّل النتائج، وتخليص النُّفوس من الشُّح والهوى والدَّعة والراحة، ومعرفة حقيقة الابتلاء بالنعم، وإعلاء الهمة، والثِّقة بالنفس وبسلامة الطَّريق الذي يسيرون فيه، وعدم الانخداع بالواقع أو الجهل به، وعدم التخاذل والركون إلى الدنيا، أو التمسك بشيء من حُطامها وشوائبها، والإيمان بأن التاريخ لن ينسى صبْرهم وجَلَدهم في سبيل قضيتهم التي يُؤمنون بها، ويُرخصون من أجلها كلَّ غالٍ ونفيس، وكلُّ هذا يحتاج إلى تضحيات باهظة جدًا، لكنها رخيصة في سبيل هذه القضية.
فمهما طال الزمن واشتدت ظلمةُ الليل، واستحالت القضيَّة واستحكمت حلقاتُها، فهم على يقينٍ بأنه لا بُدَّ للحقِّ أن يرتفعَ، وللظُّلمةِ أن تنجليَ، وللقضية أن تُحَلَّ، وهذا الإيمان إنما يتولد بالعلم والمعرفة والتصور؛ فالإيمانُ بالشيء فرعٌ عن تصوره.
ولا شك في أن الإخلاص واستحضار التقوى والتجرد لله تبارك وتعالى وسؤاله التوفيق يُعين على بذل التضحيات وتحمُل المشاق وتجاوز المَهالك، وكذا قناعة القلب وغنى النفس واليقين والصبر ومعرفة حقيقة الابتلاء بالنعم، وأن الله تعالى مستحقٌ على كلِّ نعمةٍ شُكرًا يليق بها، فالصحةُ لها شكر يُناسبها، وكذا العلمُ والوقتُ والجاهُ والقوةُ والذكاءُ والمالُ، وأن كُلاًّ منها منحةٌ وعطيَّةٌ من الله عز وجل لينظرَ الله أعمالنا، ويَظهر الشاكرُ مِن الكَفورِ، وأن الله عز وجل يبارك فيما بقي، عملًا بالقاعدة المشهورة: (مَن ترَك شيئًا لله عوَّضه اللهُ خيرًا منه)، وتحقيقُ ذلك بالدليل المادي التاريخي أنَّ اللهَ بارك في أوقاتِ العلماء الربانيين، ففعلوا ما يصعب تصورُه في الحسابات المادية، وباركَ الله تعالى في أقوالهم وأفعالهم وكتبهم؛ فبلغَت مبلغًا من النفع والأثر لم يكن ليَخطر لهم ببال، وقد كانوا عظيمي التضحية بأوقاتهم وعلومهم.
وكما أن هناك أمورًا تُعين على بذل التضحيات، فهناك أمورٌ تبعث على التخاذل، أهمها: ضعفُ الإيمان بالقضية، وتزعزعُ القَناعة والثقة بالنفس وبسلامة الطريق الذي يسير فيه، والرُّكونُ إلى الدنيا وحُبُّها والتعلق بشوائبها ولذاتها، بحيث يطلبها المتخاذلُ لذاتها وعينها، ويسعى لها سعيًا حثيثًا بلا نية صالحة، ويشغل همه بالتعلق بها، فالقلب لا يُمكن أن يَصرف همه إلى أكثر من وِجهة، فإذا وُجهت همته إلى الشهوات واللذات لم تعد لديه طاقة تقوده إلى مواجهة الباطل أو هِمة تدفعه للانتصار للحق.
ومما يبعثُ على التخاذل أيضًا: إيثارُ الدَّعة والراحة، وطولُ الأمل، والجُبن والبخل والطمع والعجز والكسل والشعورُ بالأثرةِ وحبُّ النفسِ وانعدامُ الجدية ودنو الهمة والانخداع بالواقع أو الجهل به.
وبعضُ هذه الأسباب بل وقليلٌ منها كافٍ في حدِّ ذاتِه في تحطيم النفس، وتثبيط الهمة عن البذل والتضحية، فما بالنا باجتماعها أو اجتماع أكثرها؟!
فالنصرَ لا يأت بمحض إدراك الحقِّ أو نُصرة قضيته، بل بالثبات عليه ثباتًا بعد ثباتٍ، والتجرد من الدنيا وشوائبها تجردًا بعد تجردٍ، حتى يظنُ أهله ويظنُ أهلُ الباطل معهم أنهم فانون لا محالة، فيكون الامتحانُ الشديدُ لعقيدتِهم، والاختبار الحقيقي لولائهم، ليظهرَ معدنُهم الأصيل، فيتميز المخلصُ الصادقُ عن المنافقِ الكاذبِ، كحال الذهب حين يُختبر بالنار، فيزداد لمعانًا بعد لمعانٍ، أما الشوائبُ التي تختلط به فلا تزداد إلا احتراقًا بعد احتراق.
وهكذا أهل الحق ما زالوا في تمحيصٍ بعد تمحيصٍ، واختبارٍ بعد اختبارٍ، وشدةٍ بعد شدةٍ، حتى ينفرَ منهم الغشُ والضعفُ والجبنُ والأنانيةُ والزغلُ، فإذا ما ظنوا أنهم هالكون بثباتهم لا محالة؛ أتى نصرُ اللهِ الموعودُ لهم، فيتقهقر الباطل شيئًا فشيئًا، ويعلو الحقُّ رويدًا رويدًا.
ألا قد عَلم كلٌّ منا ما يجب عليه.. ألا قد علم كلٌّ منَّا السبيل إلى الغاية القصوى.
ومَن أرادَ العُلاَ عفوًا بلا تعـبٍ | قضَى ولم يقض من إدراكِها وطرَا | |
لا يُدرك المجد إلا بعد مؤلمـةٍ | ولا يتـمُّ المُنـــى إلا لمـَـن صبــــرا |
ــــــــــ
* نُشر المقال لأول مرة في موقع “الألوكة” بتاريخ ٢٤ فبراير ٢٠١١م.