للشيخ أحمد علي الجرجاوي (ت ١٢٨١هـ)
كشاف الموضوعات:
مدخل
مُقدمات حول الحِكمة والعلة التشريعية
- بين العلة التشريعية (الحِكمة) والعلة القياسية (العلة الأصولية)
- الجدل حول مسلك البحث في حِكم الشريعة وعللها
- ضوابط التعليل التشريعي
- أدبيات التعليل التشريعي
- حول كتاب (حكمة التشريع وفلسفته):
أولًا: مؤلف الكتاب.. الشيخ علي أحمد علي الجِرْجاوي
ثانيًا: كتاب (حكمة التشريع وفلسفته).. قيمته العلمية والمنهج في تهذيبه
حكمة التشريع وفلسفته: قراءة وتهذيب
- مُقدمة المُؤلف
الفصل الأول: الحِكمة في أصول الشريعة ومقاصدها وبعض خصائصها
الفصل الثاني: الحِكمة في تشريع الطهارة
الفصل الثالث: الحِكمة في تشريع الصلاة
الفصل الرابع: الحِكمة من تشريع الزكاة
الفصل الخامس: الحِكمة في تشريع الصوم
الفصل السادس: الحِكمة من تشريع الحج
الفصل السابع: الحِكمة من تشريع النكاح
الفصل الثامن: الحِكمة من تشريع الطلاق وما يلحق به
الفصل التاسع: الحِكمة من تشريع النفقات وما يلحق بها
الفصل العاشر: الحِكمة من تشريع الفرائض
الفصل الحادي عشر: الحِكمة من تشريع البيوع وما يلحق بها
الفصل الثاني عشر: الحِكمة من تشريع القضاء
الفصل الثالث عشر: الحِكمة من تشريع الجنايات والديات
الفصل الرابع عشر: الحِكمة من تشريع الجهاد وما يلحق به
مقدمات الكتاب:
مدخل
بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد..
من المعلومِ أن العقولَ مهما اجتمعت ومهما تميزت فإنها لن تصل إلى إدراك علل الشريعة ولن تقدر على حصرها في وجوه معدودة وصور محدودة، بل كلما ازداد التدبر في آيات القرآن وكشف البحث العلمي عن أسرار الكون وسُننه ودقائقه، تجلت حِكم الشريعة وعللها ووجوه إعجازها.
وإن من شكر الله وحمده الإشارة إلى محاسن شريعته والتدليل على أنها مُضافة بمعانيها الحسنة الحكيمة الصائبة إلى مُتعبَّدٍ مستحق لكل إجلال وتعظيم لا يُضاهيه فيه غيره ولا يشترك معه فيه شيء، لأن كُفر الناس وجحودهم لا يكون إلا من باعثين:
الأول: التعلُّق بغير الله تعالى، وأعلاه التعلُّق بالذات، ومنشؤه الكبر، والتعلُّق بالمال والأهل والعشيرة والمنصب وما في حكم ذلك، ومنشؤه الشهوة، والتعلُّق بالعُرف والعادة وما في حكمهما، ومنشؤه الهوى.
الثاني: الاعتقاد بفساد شريعته وقوانينه، إما لبطلان مقاصدها، أو لغموض معانيها وبُعدها عن استحقاق ما عُلق بها من علة، والقوانين والشرائع لا يجوز أن تأتي بما لا يُعقل معناه.
وفساد الباعث الأول متعلق بعمل القلب، وأما الثاني ففساده متعلق بعمل العقل، ولذلك بيَّن الله عز وجل بعض حِكمه من الشرائع، لا من جهة أن ذلك يلزمه، ولكن من جهة بيان نعمه واستحقاقه للعبودية بلا ند ولا شريك، وتقرير صلاحية شريعته وخيريتها.
قال تعالى بعد آيات الوضوء: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ} [سورة المائدة: 6]، وقال عند ذكر الصلاة: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [سورة العنكبوت: 45]، وقال في القِبلة: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} [سورة البقرة: 150]، وفي الجهاد: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [سورة الحج: 39]، وفي القصاص: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [سورة البقرة: 179]، وفي الخمر والميسر: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [سورة المائدة: 91]، قال الشاطبي في أهمية هذا البيان: (وإذا دل الاستقراء على هذا، وكان في مثل هذه القضية مفيدًا للعلم، فنحن نقطع بأن الأمر مُستمر في جميع تفاصيل الشريعة) [1].
وكل ذلك مقصوده التنبيه وإقامة الحُجة، قال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [سورة النساء: 165]، وقال: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [سورة هود: 7].
والمُسلم لا يلزمه أن يعقل كل معنىً للشريعة، لأن استنباط الحِكمة في كثيرٍ من مسائل الدين وأحكامه قد يتعذر لخفائها على من كان في مثل حاله من العلم والعمل، فلا يلزمه إلا التسليم بوجوب الشريعة وبخيريتها، ثقةً في أن مبناها وأساسها تحقيق مصالح العباد، وإيمانًا بأن الله تعالى وهو صانع كل شيء مما أوجده من الموجودات لا يُريد إلا الخير لعباده، إذ كيف يستصلح لهم ما استصلحه مما لا يتم لهم البقاء في الدنيا إلا به، دون أن يكون مريدًا لهم الخير؟!
ومع هذا، فإنه تعالى قد حث عباده على أن يتدبروا آياته وخلقه، لتكون أحكامه أوقع في النفس وأبعث على الاستجابة، قال عز وجل: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [سورة محمد: 24]، وقال: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [سورة ص: 29]، وقال تبارك وتعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} [سورة المؤمنون: 68]، وقال: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [سورة يونس: 101]، وقال جلَّت حكمته: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [سورة الجاثية: 13]، وقال في سياق مدح عباده المُتفكرين في مخلوقاته فأيقنوا أنه تعالى لم يخلقها باطلًا فسبحوه وحمدوه وسألوه الرحمة لأنهم أدركوا أن الخلق يستلزم مُؤاخذة الجاحدين وعقاب المُنكرين: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [سورة آل عمران: 191].
ولم يُعاتب عز وجل الخليل عليه السلام حين طلب منه أن يُريه كيف يُحيي الموتى، لأنه إنما طلب ذلك لا لنفي شك، ولكن ليَحصل له الاطمئنان الزائد على الإيمان وذلك مقتضى قوله: {بلى ولكن ليطمئن قلبي}، وكذلك وقع من غلام الأخدود لما طلب من الله أن يُظهر له حقيقة أمر الراهب من أمر الساحر في قتل الدابة العظيمة التي حبست الناس، وقريبًا من هذا؛ طلب الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه من النبي صلى الله عليه وسلم أن يسأل الله له آية تكون عونًا فيما يدعو إليه قومه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: »اللهم اجعل له آية»، وكل هذا ليسكن الاعتقاد بتظاهر الأدلة، لأن كثرة طرق العلم آكد للحُجة.
قال ابن قيم الجوزية: (التفكر والتذكر أصل الهُدى والفلاح وهما قطبا السعادة) [2]، فإن خلق الله عز وجل العقل لعباده وتمييزهم به عن سائر المخلوقات، يستلزم إرادة أن يتدبروا في المصنوعات وأسرارها والأحكام وعللها، وإلا انتفت العلة من تركيب عقولهم.
وكان بمقدوره تعالى أن يُطلعهم على كُل علةٍ، ويُعرفهم كل حِكمة، ويُبيَّن لهم كُل سرٍ في الحياة والوجود، فليس ذلك بمُستعصٍ عليه جلَّ شأنه، كما هو مستعصٍ على الملوك والسلاطين وجُملة البشر فيما يقع تحت أيديهم وفي دائرة تدبيرهم، بل هو قادر على ذلك لأنه يملك القُدرة المُطَلَّقة التي لا يحدها حد ولا يُقيدها قيد، لكن الحِكمة من إخفائه كثير من أسرار الموجودات وعلل الأحكام مع تركيبه عقول البشر أعظم أثرًا في تحقيق عبوديتهم.
فهذا التركيب الفريد العجيب المميز المُسمى بالعقل يستطيع أن يقوم بعدد غير محدود من الوظائف والأعمال الفكرية بما أودعه الله تعالى فيه من قُدرات على التخيُّل وقوانين للفهم والاستنباط من خلال ما يصل إليه من طرق الحسّ الظاهر أو الباطن، لذلك كان هو مناط التكليف، وبه تعلقت منافع الدنيا والدين.
والله تعالى لم يُوجد شيئًا ولم يضع شرعًا إلا لحِكمةٍ، علمها من علمها وجهلها من جهلها، وقد سُئل بعض السلف عن مسألة في الحلال والحرام فقال: (إن الله لم يجعل شيء إلا لشيء)، فكل مأمور به فيه مصلحة الدارين أو إحداهما، وكل منهي عنه ففيه مفسدة فيهما أو في إحداهما، لكنه تعالى طوى عن عباده كثير من معان أحكامه وأسرار صُنعه واستأثر بعلم كثير من الحِكم والحقائق، لا إضلالًا لعباده، ولكن إصلاحًا لعقولهم لتُؤدي وظيفتها في استنباط هذه العلل والأسرار والمعاني، ويحدث التفاوت في استجابة المُكلَّفين بحسب تفاوتهم في القرائح والفهوم والإيمان.
ولذلك جرت عادة الفقهاء على إثبات الأحكام الفقهية ومسائلهم المذهبية بالمؤيدات من المعقول بعد عرض الأدلة من الكتاب والسُّنة وأقوال الصحابة والأئمة، وكتب الفقهاء القدامى مشحونة بهذا النوع من المؤيدات، فحسب الشريعة أنها استنهضت العقول وأثارت قريحتها، فأدت بها إلى ما أدت إليه من إصلاح العالم في الوقت الذي كان يرسف فيه في ظلمات الجهل، وقد قدم العقل الإسلامي في العلم والحضارة ما لا يقل في العلوم الشرعية التي كانت سببًا في تكوين العقلية المُبدعة الخلاقة التي أنتجت علمًا كعلم “الجبر” الذي لا يستطيع كائنٌ من كان أن يُجادل في أنه صنيعة خالصة للحضارة الإسلامية، فإن أحد أكبر فلاسفة العلم المُعاصرين وهو د. رشدي راشد يُقرر بعد دراسة مستفيضة أن الخوارزمي وإن لم يُصرح بمصادره في وضع علم الجبر لكن تتبع حياته وأعماله وأفكاره تُؤكد أن مصادره تركزت في مصدرين أساسيين هما منهجيات تقعيد اللغة العربية، وأصول الفقه كعلم منهجي بامتياز.
وقد عهدت إليَّ دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة تحقيق هذا الكتاب لإخراجه في الصورة اللائقة لتعميم الاستفادة منه، وقد سبق ليَّ الاطلاع عليه والاستفادة منه أثناء إعداد كتابي (إعجاز التشريع الإسلامي) الذي أصدرته ذات الدار من عدة سنوات، وأهميته اليوم خاصة وكبيرة، بسبب انتشار حركات الإلحاد وموجاته في المجتمعات العربية وشيوع بعض الشُّبهات وكثرة المطاعن حول الشريعة الإسلامية لاسيَّما في الأحكام التعبدية والأوامر والنواهي الإلهية التكليفية، والكتاب يرد شيئًا كثيرًا من هذه الشُّبهات ويدحض كثيرًا من المطاعن بأسلوب عقلي فلسفي مدعم بالنصوص الشرعية في أغلب الأحيان.
على أن مُنطلقي في تحقيق هذا الكتاب والتعليق عليه لم يكن نابعًا من هذه الوجهة التبريرية، فحري بالمسلم ألا ينزوي في قفص الاتهام وخانة الدفاع، فهذا أليق ما يكون بالمتهم، لكن مُنطلقي الأساسي هو استثارة الهمم نحو التفكير واستنهاض العقول المؤمنة نحو اكتساب أسباب العلم، وإثبات أن الشرع لا يُغلق باب الاجتهاد وطلب المعرفة والتوسع في البحث والنظر والتدبر والتأمل المُبدع، فأحكام الشريعة لا تُجافي الفِكر أو تُضاد إعمال النظر بل توطن بذاتها المنهجية العلمية في التفكير والتعقل، كل ذلك إذا تجردت الضمائر وأخلصت للحق.
ورغم القيمة العلمية لمادة الكتاب، إلا أنني رأيتُ من المناسب عدم إخراجه في نفس صورته التي كتُب بها اكتفاءً بتحقيقه لأسباب أذكرها لاحقًا في منهج العمل فيه، مُفضلًا القيام بتهذيبه مما تضمنه من موضوعات حديثية وتاريخية ومُخالفات شرعية وتكلفات فقهية ظاهرة، مع تخريج أحاديثه وآثاره والحُكم عليها بما تستحقه، وإعادة ترتيب أبوابه وموضوعاته، والتعليق على المواضع التي لزم التعليق عليها بالاستدراك أو الإيضاح أو إكمال الفائدة، وذلك حتى يتسنى للقارئ أو الباحث تحقيق أكبر استفادة من الكتاب دون مشقة أو تكلف، والله أسأل أن يوفقني لإتمام هذا العمل على الوجه الذي يحبه ويرضاه.
—-
[1] إبراهيم بن موسى الشاطبي: الموافقات، تحقيق مشهور بن حسن آل سلمان، دار ابن عفان، الطبعة الأولى 1417هـ / 1997م، ج 2 ص 13.
[2] محمد بن أبي بكر قيم الجوزية: مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة، دار الكتب العلمية (بيروت)، ج 1 ص 213.
مؤلف الكتاب: الشيخ علي أحمد علي الجِرْجاوي
الحقيقة أنه لا يحضرنا كثير عن حياة الجِرْجاوي ونشأته، ولعل ذلك بسبب قلة المصادر التي عَنت بتراجم علماء وكُتَّاب هذا العصر.
ويذكر محمد عزت الطهطاوي أن الجِرْجاوي ولد في قرية (القرعان) إحدى قرى مركز (جِرْجا)، وفيها تعلم مبادئ القراءة والكتابة، وحفظ القرآن الكريم في الكُتَّاب، ثم انتقل إلى مدينة (جِرْجا)، التي كانت تتمتع بشهرة واسعة في العلوم الدينية بين مدن صعيد مصر آنذاك، حيث تلقى أوليات العلوم عن عدد من علماء عصره ثم رحل إلى القاهرة طلبًا لاستكمال الدراسة، فتتلمذ على يد عدد من علماء الأزهر، ثم التحق بمدرسة القضاء الشرعي عند تأسيسها سنة 1907م / 1325هـ، حتى تخرج منها ونال إجازتها العلمية [1].
ويتضح من سياق كلامه في كُتبه لاسيَّما كتابه (حكمة التشريع وفلسفته) حول بعض أمور القضاء أنه عمل بعد تخرجه مدةً في المحاماة أو القضاء الشرعي، ولذلك كثيرًا ما يسترسل في ذكر بعض الأحكام القضائية بوقائعها وحيثياتها ومنطوقها والأمور التاريخية في القضاء في مصر.
ويبدو أن الجِرْجاوي كان ينتمي لأسرة ميسورة الحال، فقبل التحاقه بمدرسة القضاء الشرعي، قام بتأسيس صحيفة (الإرشاد) التي تولى رئاسة تحريرها والإشراف عليها، حيث صدرت أولًا في الأسكندرية سنة 1899م، ثم نُقل مقرها للقاهرة، واشتهرت بالدفاع عن الأوقاف الإسلامية.
ويذكر خير الدين الزركلي وغيره أنه إلى جانب ذلك ساهم في تأسيس جمعية الأزهر العلمية التي كانت تُعرف بالجمعية الأزهرية سنة 1909م، وترأسها طيلة حياته [2]، وكذلك أصدر مجلة (الأزهر المعمور) سنة 1907م / 1325هـ [3].
كما ذكر د. عبد الله أحمد قادري عميد كلية اللغة العربية بالجامعة الإسلامية بالمدينة أن أول محاولة لإدخال الإسلام إلى اليابان في العصر الحديث جرت على يد الجِرْجاوي وآخرين [4]، حينما زاروها سنة 1906م / 1324هـ، بناء على دعوة الجِرْجاوي نفسه، حيث كتب في صحيفة (الإرشاد) يحث علماء المسلمين على حضور مؤتمر تقيمه الإمبراطورية اليابانية للمقارنة والمناظرة بين الأديان.
ويذكر القاضي الطهطاوي عن والده الذي كان صديقًا للجِرْجاوي أنه باع أربعة أفدنة من ميراثه عن والده لتغطية تكاليف رحلته إلى اليابان [5].
وقد أشار الجِرْجاوي نفسه إلى تفاصيل رحلته إلى اليابان في كتابه (الرحلة اليابانية)، وكذلك أشار إليها بعض إشارات يسيرة في كتابه (حكمة التشريع وفلسفته) عند كلامه عن بعض العادات والتقاليد اليابانية.
واختُلف في تاريخ وفاته، فذكر الزركلي أنه توفي سنة 1922م / ١٣٤٠هـ [6]، وذكر الطهطاوي أنه توفي سنة 1961م / 1381هـ, ودفن بمقابر أسرته بمسقط رأسه [7]، وهو الصواب [8].
أما كتبه، فلم يكن مكثرًا من التصنيف، له كتاب (الرحلة اليابانية): ويُعتبر أشهر كتبه، وهو أول عمل أدبي يُنشر عن اليابان، صدر سنة 1907م (1325هـ) عن مطبعة جريدة الشورى، سجل الجِرْجاوي من خلاله مشاهداته فيها وتفاصيل رحلته إليها بهدف الدعوة الإسلامية، واستخدم فيه لغة نثرية سهلة سلسة بسيطة، تمزج بين الأسلوب الوعظي والأسلوب القصصي الروائي.
وله أيضًا كتاب (الإسلام ومستر سكوت): وهي رسالة مختصرة، رد فيها على مطاعن المُستشرق سكوت حول الإسلام في كتاب له كان يُدرس في مدارس الحكومة المصرية [9]، وكان للجِرْجاوي وغيره من علماء هذا الوقت فضل التنبيه على هذا الأمر، ثم اتخاذ نظارة المعارف قرارها بمنع تدريسه.
هذا بالإضافة إلى الكتاب الذي بين أيدينا، والمنشور بعنوان (حكمة التشريع وفلسفته)، وله مختصر له بعنوان (مختصر كتاب حِكمة التشريع وفلسفته) لكن لم أقف عليه.
وكان الجِرْجاوي مؤيدًا للثورة العرابية، مهتمًا بالأدب ونَظم الشعر، وله قصائد يسيرة منشورة في صحيفة (الإرشاد).
—-
[1] محمد عزت الطهطاوي: من أعلام الأزهر: الشيخ علي بن أحمد علي الجِرْجاوي، مجلة الأزهر، عدد ذي الحجة 1407هـ / أغسطس 1987م، السنة التاسعة والخمسون.
[2] خير الدين محمود الزركلي: الأعلام، دار العلم للملايين (بيروت)، الطبعة الخامسة عشرة 2002م، ج 4 ص 262.
[3] وهي ليست مجلة (الأزهر) الشهيرة التي كانت تُعرف بمجلة (نور الإسلام) والتي بدأت في الصدور سنة 1930م، ولعل مجلته المشار إليها كانت تصدر عن جمعية الأزهر العلمية التي كان يرأسها.
[4] عبد الله أحمد قادري: في المشارق والمغارب (مقال)، مجلة الجامعة الإسلامية، المملكة العربية السعودية (المدينة المنورة)، العددان 47، 48، سنة 1423هـ / 2002م، ص 51.
[5] محمد عزت الطهطاوي: من أعلام الأزهر: الشيخ علي أحمد الجِرْجاوي لا محل للتشكيك في رحلته إلى بلاد اليابان، مجلة الأزهر، عدد ذي القعدة 1413هـ / مايو 1993م، السنة الخامسة والستين، ص 1747.
وقد شكك بعض الباحثين في زيارة الجِرْجاوي لليابان أصلًا، محتجين ببعض الإشارات في كتابه، المُبالغ فيها والخاطئة عن اليابان ومؤتمر الأديان المُشار إليه، لكن الطهطاوي وغيره أثبتوا زيارته لليابان بما لا يدع مجالًا للشك، من خلال بعض الشهادات، وكذا بعض الوثائق والكتابات اليابانية والمقالات في الصحافة المصرية وقتها.
[6] خير الدين محمود الزركلي: الأعلام، مرجع سابق، ج 4 ص 262.
[7] محمد عزت طهطاوي: من العلماء الرواد في رحاب الأزهر، مكتبة وهبة (القاهرة)، طبعة ١٩٩٠م، ص ١١٨.
وذكر الطهطاوي أنه تلقى معلوماته عن وفاة الجِرْجاوي نقلًا عن أحد تلامذته وجيرانه المقربين.
[8] ويُؤيد ما ذكره الطهطاوي ما يُفهم من كلام الجِرْجاوي نفسه في مقدمة هذا الكتاب من صدور خمس طبعات له في حال حياته، وبرغم أنه لم يذكر تاريخ الطبعة الأخيرة، إلا أنه وبعد البحث وُجدت إشارة مرجعية في كتاب (مُزيل اللبس في مسألتي شق القمر وردّ الشمس) لمُؤلفه محمد مهدي الموسوي الشيعي، والصادر عن مكتبة الروضة الحيدرية (قُم)، الطبعة الأولى 1428هـ، ص 523: أن تاريخ صدور الطبعة الخامسة سنة 1381هـ، وهذا مما يُؤيد وهم الزركلي في تأريخ وفاة الجِرْجاوي بسنة ١٩٢٢م / 1340هـ.
[9] ولا عجب، فمعلوم أن مصر وقتها كانت تحت نفوذ الاحتلال الإنكليزي، وأن التعليم المصري كان تابعًا بصورة شبه كُلية للاستعمار وللسيطرة الغربية، ولا أدل على ذلك من أن مراجعة الكتب المدرسية ومقرراتها كانت تخضع لإشراف دانلوب راسخ القدم حينئذٍ في نظارة المعارف.
كتاب (حكمة التشريع وفلسفته): قيمته العلمية والمنهج في تهذيبه
صدر كتاب (حكمة التشريع وفلسفته) في بداية القرن المُنصرم، وقد ذكر سركيس في مُعجم المطبوعات العربية أن طبعته الأولى صدرت سنة 1912م عن مطبعة الحلبي بالقاهرة [1]، ونقله عنه الزركلي في الأعلام، في حين ذُكر في معجم البابطين لشعراء العربية في القرنين التاسع عشر والعشرين؛ أن الطبعة الأولى إنما صدرت سنة 1885م / 1303هـ عن مطبعة الرغائب (القاهرة)، ولا خلاف في أن طبعته الأخيرة في حياة المؤلف – وهي الخامسة – صدرت سنة ١٩٦١م / 1381هـ [2]، أي في ذات العام الذي توفي فيه.
ويُعد من المُؤلفات القليلة المُتخصصة في موضوع (التعليل التشريعي)، وبرغم حداثته النسبية بالمقارنة بغيره من التصانيف في هذا الباب، إلا أنه تميز بشموليته وتنوع مسائله وتعدد العِلل والحِكم التي يوردها، حتى يكاد لم يترك بابًا أساسيًا من أبواب الفقه إلا وخاض فيه، كما تميز بتحرره المذهبي، لتعلُّق مادته في الغالب بالعموميات في الجزئيات ووجوه الإجمال في الأحكام الشرعية، لا التفاصيل والفرعيات الفقهية المذهبية، وتميز كذلك بإيراد الكثير من الشواهد الحديثية من الصحيحين وغيرهما، وتوظيفها في مواطنها بصورة مناسبة في الغالب.
ورغم ما تقدم، فالكتاب يستحق خدمة واسعة تُجاوز حدود التحقيق العلمي المعروف، تارةً بالتهذيب الذي لابُد منه، وتارةً بالاستدراك والتصحيح، وتارةً بالتعليق والتكميل، بسبب كثرة إشكالياته الواضحة، ويُمكن تلخيصها فيما يلي:
- الاسترسال في بعض الموضوعات التي لا تعلُّق لها بالعلية أو الحِكمة، كبعض الموضوعات التاريخية والقانونية، مثل: تاريخ الختان، وتاريخ عبادة الأحجار وتقديسها في الأُمم السابقة، وكذلك عبادة الحج فيها بأشكال مختلفة، وتاريخ تقديم القرابين والذبائح عندها، وتاريخ الوقف، وفكرة تخصيص القضاء، وموقف القانون الدولي من زواج المسلمة من الكتابي.
وبعض الأحكام الفقهية البحتة كفرضية الصلاة، ومسألة الحرمان من الميراث، ومسألة قراءة القرآن بغير اللغة العربية في الصلاة، وحُكم إسقاط الصدقات إذا أخذها السلاطين ولم يضعوها في مصارفها الشرعية، ونكاح المملوك بغير إذن مولاه، وإقامة الحد عليه هل هو حق للإمام أم المولى، وتأديب الرجل زوجته، ووجوب نفقة الزوجة، ومسألة كيف يُعدم القاتل وبأي أداة يُقتل، وغير ذلك من مسائل فقهية استطرد فيها المؤلف تارةً بالاسترسال في ذكر الأدلة وتوجيهها وتارةً بذكر الخلاف بين الفقهاء فيما اختلفوا فيه بشأنها وتارةً بالتوسع في النقل عن كتاب بدائع الصنائع.
إضافةً إلى استرساله في بعض الآداب والفضائل، مثل آداب الصيام وأنواعه، وآداب القضاء، والمُحادثة، والمجالسة، والزيارة، والأكل، والمعاملة مع الله تعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم، والغير، والنفس، وفضائل قراءة بعض سور القرآن.
فضلًا عن إيراد عدد من الأحكام القضائية بوقائعها وحيثياتها ومنطوقها، وكذلك الاسترسال في بعض المباحث الطبية بصورة غير علمية دقيقة وغير منهجية صحيحة.
- الاستطراد في استخلاص العلة والحِكمة في أحكام العبادات على حساب أحكام المعاملات والجنايات، برغم أن وجوه العلية والحِكمة في أحكام الأسرة والمعاملات والجنايات أظهر منها في أحكام العبادات، التي تكون في الغالب غير معقولة المعنى، لارتباطها بشكر النعمة واختبار السمع والطاعة.
- بعض علله غير مفهومة وغير منطقية إما بسبب الاختزال الشديد في العرض، أو التكلُّف الزائد في استخلاص العلة والحِكمة، أو ربط الحِكمة في الحُكم بالفضل والأجر والثواب فحسب.
- صياغة بعض عبارات الكتاب بأسلوب وعظي ركيك بعيد عن الصياغة العلمية، واستعمال بعض الألفاظ والأساليب الخطابية التي لا تليق بمادة الكتاب وموضوعه، فضلًا عن استعمال صيغ الجَزم والتأكيد والمبالغة في مواطن لا تقبل ذلك، لطبيعة كونها اجتهادية تقبل المعارضة أو التعديل أو الإضافة.
- الاستدلال بأحاديث موضوعة وضعيفة جدًا في بعض الأبواب، بل الاستطراد أحيانًا في إثبات صحة ما لم يختلف أهل العلم في وضعِه وتضعيفه، كذلك عدم صحة نسبة بعض الآثار لبعض الصحابة والتابعين والسلف، فضلًا عن الاستدلال ببعض الأحاديث الصحيحه على غير وجهها إما من جهة الرواية أو من جهة الاستدلال.
بما نتج عنه من التعسف في استخلاص بعض العِلل، وترتيب الاستنتاجات الخاطئة، والاضطراب في بعض الأحكام الشرعية، ككلامه في مسألة وقوف الشمس لبعض الأنبياء، وفي رؤية الصائم المجتهد للملائكة والجن والشياطين وانكشاف الحُجب له في ليلة القدر، وفي قضية المُحلل، والغلو في الدين، وإنكار جهاد الطلب.
- إغفال عزو كثير من الأقوال والاقتباسات وكذلك البيانات والمعلومات العلمية المتخصصة إلى مصادرها، وعدم صحة عزو البعض الآخر إلى المصادر المذكورة أو المنسوبة إليهم كليةً.
بالإضافة إلى الإطالة الشديدة فيما ينقله عن بعض أهل العلم من استدلالات، لاسيَّما ما نقله عن (بدائع الصنائع)، متجاوزًا حدود الاستدلال.
- تسلسل عرض مادة الكتاب وتبويباته، غير متناسق منهجيًا ومُختل موضوعيًا.
- إغفال تخصيص مُلخص لمنهجية المُؤلف في استخلاص العلل وترتيبها وتبويبها وأهميتها وأثرها الديني، وكذلك القصور في حصر المُؤلفات السابقة والمراجع المُتاحة في ذات موضوع الكتاب ومادته، حيث أشار المُؤلف في مُقدمة كتابه إلى أنه بذل جهدًا كبيرًا في البحث عن مُصنف في هذا الموضوع لكنه لم يظفر بشيء، إلا نُبذًا متفرقة في بطون الكتب، وهذا خطأ واضح، فالموضوع كما سبق وأشرت فيه عدد من المُؤلفات القديمة، لكن لعل عذر المُؤلف في عدم الوقوف عليها ضعف عملية الطباعة وتحقيق المخطوطات في زمانه فضلًا عن حالة الجمود والركود العلمي التي سادت عصره.
- ولزوم ما تقدم، كان من الصعوبة بمكان إخراج الكتاب على صورته الأصلية اكتفاءً بتحقيقه، لاسيَّما وأن حجمه كان ليتضاعف من كثرة الاستدركات التي تخرج به عن هدفه الديني العلمي والدعوي، وصار الأليق هو القيام بنوع من التهذيب وإعادة الترتيب، لإعادة إخراج الكتاب بما يليق بشرف موضوعه وعظمة فكرته، إذ بقاء الكتاب على هيئته الأولى يُبعده عن تحقيق مقصوده، بل قد يُسيءُ لمادته ويُشين مُؤلفه وناشره، لذا قمتُ بما يلي:
- حذف ما لا تعلُّق له بموضوع الكتاب وفكرته الأصلية المتعلقة بحِكمة التشريع وعِلله الفلسفية، دونما إفراط، حتى لا يزيد حجم الكتاب بما لا طائل علمي أو دعوي من ورائه، فيسهل على القارئ الاستفادة من مادته الأساسية.
بالإضافة إلى حذف الأحاديث والآثار الموضوعة التي لا يجري غيرها من الصحيح مجراها في المعنى، وما بُني عليها من استنتاجات شرعية خاطئة لا تليق بمادة الكتاب، أو ما فيه تكلف ومبالغة مضرة بالشرع، مما يَصعب إصلاحه في تعليق هامشي، وبما من شأنه تجنب إيقاع القارئ في فتنة أو غلط شرعي.
- تقديم بعض أجزاء الكتاب وتأخيرها بما يتناسب مع ترتيبه منهجيًا على الأبواب الفقهية، مع الحفاظ على نص كلام المُؤلف باستطراداته واستدلالاته، ودون إضافة لمتن الكتاب، اللهم إلا الواو وغيرها من حروف الربط التي اقتضاها السياق، وكذا ما كان من عناوين الفصول التي وضعت لزوم ترتيب الأبواب وتصنيفها وقمتُ بتمييزها بوضعها بين قوسين بهذه الهيئة [ ].
بالإضافة إلى دمج بعض أجزاء الكتاب المُشتركة من الناحية الموضوعية تحت عنوان واحد، حتى لا يتشتت ذهن القارئ والباحث.
- نسبة الآيات الواردة في الكتاب إلى أرقامها وسورها، في متن الكتاب.
- تخريج الأحاديث والآثار وما تسنى من أقوال السلف، والحُكم عليها بما تستحقه، في الهامش، فما كان في الصحيحين أو أحدهما متصلًا فأكتفى بعزوه إليهما بالرقم واسم الكتاب، وما كان في غيرهما فأقوم بتخريجه بما يُحقق معنى التخريج فحسب مما تيسر الرجوع إليه من كتب السُّنن أو المسانيد، دون تطويل حتى لا يزيد حجم الكتاب، ولا أصير إلى الأجزاء الحديثية أو كتب الرجال والعلل أو نحو ذلك من المظان البعيدة إلا إذا خلت كتب السُّنن والمسانيد من الحديث أو الأثر اللهم إلا لفائدة مُعتبرة في المتن أو السند.
وما لم يكن له أصل من الأحاديث المنسوبة للنبي صلى الله عليه وسلم أو آثار الصحابة والسلف، فأُنبه عليه بعد بذل الجهد المُناسب الكافي لإعطاء هذا الحُكم، مع تبيين الرواية الصحيحة أو الألفاظ الزائدة في حال اختلاف الرواية التي يُوردها المُؤلف مع الصحيحة، اللهم إلا إذا كانت الألفاظ مُقاربة والمعنى مُتحد منعًا للإطالة.
- تفسير الألفاظ الغامضة وشرح المُفردات الغريبة، والتعليق بتراجم مُختصرة لبعض الأعلام الذين يذكرهم المُؤلف، مع الإعراض عن الصحابة رضوان الله عليهم ومشاهير الأئمة، لغناهم عن ذلك ومنعًا للإطالة.
- عزو الأقوال والاقتباسات إلى مواضعها الصحيحة، مع حذف ما لم يثبت صحة عزوه إلى قائله من العلماء والمفكرين المسلمين، دون غيرهم من الغربيين، لقِصر الوقوف على المراجع الأجنبية، ولاحتمال أن يكون المُؤلف قد وقف عليها خلال رحلته الشهيرة إلى اليابان.
- التعليق على بعض المواضع من الكتاب، بما يستكمل مقاصده ويزيد فرائده وفوائده، دونما تفريط ولا إفراط، مع التركيز على إضافة ما أمكن من وجوه حِكمة الشرائع والأحكام وإثبات معقوليتها ودفع الشُّبهات المُثارة حولها.
على أني تركتُ متن الكتاب لمادته الأصلية التي هي من كلام الجِرْجاوي رحمه الله، أما كلامي عليه تفسيرًا أو شرحًا أو تخريجًا أو عزوًا أو تعليقًا باستدراكٍ أو إضافةٍ فقد خصصتُ له الهامش السفلي، وبالله قصد السبيل.
د. محمد وفيق زين العابدين
—-
[1] يوسف بن إليان بن موسى سركيس: معجم المطبوعات العربية والمُعربة، مطبعة سركيس (القاهرة)، طبعة 1346هـ / 1928م، ج 2 ص 682: 683.
[2] وهي الطبعة التي اعتمدت عليها دار الفكر ببيروت في نشر الكتاب لاحقًا، وتم أخذها في عين الاعتبار عند تهذيب وتحقيق وتصحيح هذا الكتاب.
مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين، وبنبيه الكريم نهتدي إلى الطريق السوي، قال الله تعالى وهو أصدق القائلين: {قل أعوذ برب الفلق* من شر ما خلق* ومن شر غاسق إذا وقب* ومن شر النفاثت في العقد* ومن شر حاسد إذا حسد} [سورة الفلق: 1 5].
أما بعد، فإن الله جلّ شأنه وعلت قدرته شرَّع لنا من الدين هذه الفرائض في العبادات والمعاملات، على لسان نبيه المصطفى عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين أفضل الصلاة والسلام وما أودع فيها من الحكم التي هي جامعة لكل ما فيه صلاح أمري الدنيا والدين معًا، وليست هي أمور تعبدية فقط أمرنا الخالق جل وعلا بأدائها، فنحن نؤديها ولا نبحث عن الحِكمة فيها، وفي أنها أبواب متنوعة، وضروب متعددة وكيفيات مخصوصة قولية وفعلية وبدنية ومالية.
هذا، ولقد كنتُ متشوقًا إلى رؤية سفر من الأسفار يبين لنا تلك الحِكم والأسرار، وكم مكتبة سألت أصحابها ودار كتب طرقت بابها، وكم قلبت صحائف الكتب الدينية الموضوعة في الأحكام الشرعية، فما وجدت كتابًا وافيًا بموضوع (حكمة التشريع الإسلامي) [1]، وكل ما وقفتُ عليه واهتديتُ إليه نُبذًا متفرقة أيدي سبأ [2] في آلاف من الكتب، تُذكَر لعلاقتها بمسألةٍ شرعية في العبادات والمعاملات، وحينئذٍ وجدتُ في صدري حرجًا، وسألت الله أن يجعل لي من أمري مخرجًا.
وشرعت أجمع من الشوادر ما صعب فهمه، لصعوبة العبارة، وغمض معناه، لغموض الإشارة، وبعد جهد طويل وضعتُ كتابي هذا وسميتُهُ (حكمة التشريع وفلسفته)، وبينتُ فيه تلك الحِكم البالغة زيادةً على رأس الفضيلة، وأنا الضعيف العاجز الذي لا حول لي ولا قوة إلا بتوفيق من العزيز الحكيم، وإني ألتمس ممن يطلع عليه ويظهر له بعض خطأ أن يعذرني، فإنه إن كان هناك من خطأ فما غير حسن النية قصدت، وما فيه من صواب فهو ما إليه نزعت، أقول هذا خشية سفسطة متعنت أو جاهل يحاول النقد على غير علم.
هذا، وقد نفدت الطبعة الرابعة وها هي الطبعة الخامسة [3] التي تمتاز عن الأولى والثانية والثالثة والرابعة بذكر أحكام كثيرة لم أكن وقفت عليها، ولا اهتديت إليها حين الطبعة الأولى والثانية والثالثة والرابعة، لأنها كانت مبعثرةً في آلاف من الكتب التي تحتاج لزمن طويل وعمر مديد، وهاك ما جرى به القلم، ووقفت عنده الهمم، وإلى الله المآب، وعليه بفضله حسن الثواب.
علي أحمد الجِرْجاوي
—-
[1] بل في المكتبة الإسلامية عدة كتب في هذا الشأن، ككتاب (محاسن الشريعة) لأبي بكر محمد بن علي بن إسماعيل الشاشي المعروف بالقفال الكبير (ت 365هـ)، وكتاب (محاسن الإسلام وشرائع الإسلام) لأبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن البخاري (ت 546هـ)، وكتاب (علل الشرائع) لأبي جعفر محمد بن علي بن الحُسين بن بابوية القمي الشيعي (ت 381هـ)، وقد أشرتُ لكل مُؤلَّف مع نبذة تعريفية عنه في مقدمة هذا الكتاب.
[2] أي مثل سبأ في تفرقهم وتبددهم في البلاد حين أُرسل عليهم سيل العرم.
[3] سبق أن ذكرت في مقدمات هذا الكتاب أن سنة صدور الطبعة الخامسة التي أشار إليها المؤلف هي ١٩٦١م / 1381هـ، أما الطبعة الأولى له فقد صدرت سنة 1912م بحسب ما ذكره سركيس في معجم المطبوعات، ونقله عن الزركلي في الأعلام.