سيد قُطب قلبُ الثورة الإسلامية التي لم تر النور بعد.. إن السر العجيب في قوة تعبيره ليس في بريق كلماته، وإنما هو في قوة إيمانه بهذه الكلمات، واعتزازه بها، وثقته في بقائها في الناس كزرعٍ أخرج شطْأَه.
مر سيد قُطب رحمه الله بثلاث تجارب مهمة أثرت في تفكيره وقناعاته أشد التأثير:
الأولى: سفره وهو مُدرس إلى أمريكا في نوفمبر 1948م في بعثة تدريبية لدراسة برامج التعليم، وهي التجربة التي سقطت من خلالها رمزية الحضارة الحديثة في نفسه تمامًا حيث رأى عن قُرب ماديتها المتوحشة وجاهليتها الإنسانية، وقد وصف ذلك في مقال أمريكا التي رأيت في مجلة الرسالة بقوله عن الشعب الأمريكي: “شعب يبلغ في عالم العلم والعمل قمة النمو والارتقاء، بينما هو في عالم الشعور والسلوك بدائي لم يفارق مدارج البشرية الأولى، بل أقل من بدائي في بعض نواحي الشعور والسلوك”.
الثانية: أحداث 26 يوليو واقترابه من مجلس قيادتها وعمله أمينًا عامًا مساعدًا لهيئة التحرير، ومن خلالها تشكلت لديه أفكار وقناعات عن عقيدة العسكر وأعلن رفضه لأي تغيير سلطوي رافض للشريعة بعيد عنها، بل لم يجد أي حرج في الإعلان عن هواجسه في حفل تكريمه من قِبلهم في أغسطس 1952م بقوله: “ولقد كنت في عهد الملكية، مهيئًا نفسي للسجن في كل لحظة، وما آمن على نفسي في هذا العهد أيضًا، فأنا في هذا العهد مُهيئ نفسي للسجن، ولغير السجن أكثر من ذي قبل”.
الثالثة: اعتقاله سنة 1954م، ثم عام 1965م، وهي التجربة التي حفرت في فِكره منهج التغيير وإصلاح الأُمة الحقيقي، وأظهرت صلابته ومعدنه الأصيل الفريد، يُجسد ذلك قوله في محاكمته: ‘ليس للقائد أن يأخذ بالرُّخص”، وقوله حين ساوموه ليرجع عن موقفه في معاداة السُلطة: “لماذا أسترحم؟! إن سُجِنتُ بحقٍ، فأنا أرضى حُكمَ الحق، وإن سُجِنتُ بباطلٍ، فأنا أكبرُ من أن أسترحم الباطل، إن إصبع السبابة الذي يشهدُ لله بالوحدانية في الصلاة ليرفضُ أن يكتبَ حرفًا يُقر به حُكم طاغية”، ثم وفي ختام هذه التجربة لما سيق لتنفيذ حكم الإعدام، وتقدم إليه أحد الدعاة ليُلقنه الشهادة أجاب مُبتسمًا: “يا بُني نحن نُعدم من أجل لا إله إلا الله، وأنتم تأكلون خبزًا بلا إله إلا الله”!
معرفة هذه المراحل الأساسية في حياة قطب لها أبلغ الأثر في فهم كلامه والتمييز بين كتاباته، فأهم كتبه في المرحلة الأولى قبل رحلته إلى أمريكا: (التصوير الفني في القرآن الكريم)، (النقد الأدبي أصوله مناهجه)، (العدالة الاجتماعية في الإسلام)، (مشاهد القيامة في القرآن).
وأهمها في المرحلة الثانية قبل اعتقاله: (معركة الإسلام والرأسمالية)، (السلام العالمي والإسلام)، (دراسات إسلامية).
وفي المرحلة الأخيرة من حياته – وهي الأهم: (معالم على الطريق)، (المستقبل لهذا الدين)، (خصائص ومقومات التصور الإسلامي)، (الإسلام ومشكلات الحضارة)، (في ظلال القرآن).
ولنرجع إلى هذه اللحظة التاريخية، فِي شهر مايو 1964م حين أُفرج عن قُطب رحمه الله بعفو صحي بعد شفاعة لدى جمال عبد الناصر من عبد السلام عارف وغيره من زعماء العرب، والحق أن عبد الناصر ما وافق على العفو عن قُطب رحمه الله والإفراج عنه إلا بعدما تيقن أن المرض قد أنهكه وأن التعذيب قد كسره، فأضحى حطام إنسان لا يقوى على الكلام أو الكتابة أو إثارة الناس بأي وسيلة، بيد إن قطب رحمه الله كان قد أضحى – كما قال عن نفسه – خيرًا من أيِّ وقتٍ مضى في إيمانه وفكره، لا تزعزعه قوى الأرض، ولا يهزه جبروت الطُغيان، إن كانوا قد اغتالوا صحته، فلا زال قلبه يمتلئ نورًا وثقةً في موعود ربه، ولا زال عقله مُفعمًا بالحياة كشاب استوى على سوقه، فما لبث فاجئ النظام بكتابه (معالم على الطريق) الذي ما خرج إلى النور حتى نفذت طبعته الأولى في وقت قصيرٍ جدًا، فاستثار حفيظة الحكومة التي لم تلبث بدورها أن اعتقلته بعد اعتقال أخيه محمد رحمه الله في أغسطس 1965م، وقُدم وآخرون للمحكمة العسكرية بقيادة الفريق الدجوى بزعم اشتراكهم في تنظيم سري يسعى نحو قلب نظام الحكم في مصر، فحُكم عليه وسبعة آخرين من قيادي الإخوان ومعارضي عبد الناصر بالإعدام في محاكمة عاسفة جائرة.
أُعدم قُطب رحمه الله، لكن كلماته بقيت صادقة، فانتفضت خالدةً بين الأحياء، ولعل من أبقاها في الناس وأعظمها قيمةً فكرية؛ تلك التي ضمها (معالم في الطريق) بين دفتيه، فلا يسع القارئ بعد قراءته لهذا الكتاب إلا أن يعترف لمُؤلفه بعُمق فكره، وقوة إدراكه، ومعرفته الحقيقية بسبيل عودة الأُمة لسابق عهدها .. فهو يرى أن العالم يعيش اليوم جاهلية مُركبة في كل مقومات الحياة وأنظمتها، وهذه الجاهلية على ضربين:
مُجتمع ينكر وجود الله تعالى، ويًفسر التاريخ تفسيرًا ماديًا جدليًا.
ومُجتمع لا يُنكر وجود الله تعالى، ولكن يجعل له ملكوت السماوات، ويعزله عن ملكوت الأرض، فيُعطل شريعته في الحياة.
وعلى الأُمة الإسلامية أن تمضي في خضم هذه الجاهلية الضاربة الأطناب في أرجاء الأرض وهي تضع في حُسبانها أن تصوراتها وأوضاعها وأنظمتها وقيمها كُلها يجب أن تنبثق من المنهج الإسلامي على نهج جيل الصحابة الأول، ولابُد من عودتها إلى هذا المنهج كي يُؤدي الإسلام دوره المعهود في قيادة البشرية، ولن يتسنى لها ذلك إلا من خلال مشروع عقائدي في إطار تنظيمي وحركي يُقرر حاكمية الشريعة بكل وضوح.
ويوضح قُطب فكرته بشكل حاسم بقوله أن هذه الحركة يجب أن تتفاعل مع الجاهلية من حولها كما تتفاعل مع الجاهلية الراسبة في نفوس أصحابها لتنتزعهم من الوسط الجاهلي.
هذه هي السمة الأهم في منهج هذا الدين؛ الواقعية الحركية، فهو لا يُقابل الواقع بنظريات مجردة، والمُجتمع المسلم الجديد لن ينشأ ولن يتقرر وجوده إلا إذا بلغ درجةً من القوة يواجه بها ضغط المُجتمع الجاهلي القديم؛ قوة في الاعتقاد والتصور، وقوة في الخلق والبناء النفسي، وقوة في التنظيم والبناء الجماعي، وسائر أنواع القوى التي يواجه بها ضغط المجتمع الجاهلي ويُمكنه بها أن يتغلب عليه، أو على الأقل يصمد له.
فقيم الإسلام – على حد تعبير قُطب – ليست مثالية خيالية إنما هي قيم واقعية عملية يُمكن تحقيقها بالجُهد البشري في ظل المفهومات الإسلامية الصحيحة، بل يُمكن تحقيقها في كل بيئة بغض النظر عن نوع الحياة السائدة فيها، وعن تقدُمها الصناعي والاقتصادي والعلمي.
فالحضارة الإسلامية يُمكن أن تتخذ أشكالًا متنوعة في تركيبها المادي والتشكيلي، بغير حصر ولا حد، إذ هي تستخدم المقدرات الموجودة في كل بيئة فعلًا وتُنميها، لكن الأصول والقيم التي تقوم عليها ثابتة لأنها هي مقومات هذه الحضارة، وليس في هذه الأصول والقيم ما يخجل المسلمون منه وما يضطرهم للدفاع عنه أو إلى التلعثم في الجهر به على حقيقته.
فنظام المجتمع الإسلامي من ناحية شكله وتركيبه ونوع الحياة السائدة فيه ليس صورة تاريخية ثابتة، بل هو يتمدد في كل القوالب الحضارية بأصول ثابتة وقيم لا تتغير ولا تتبدل، فالشريعة جاءت في صورة مبادئ كلية وقواعد عامة ومقاصد عُليا يُمكن أن تنبثق منها عشرات بل مئات وألوف الصور الاجتماعية، ويُمكن أن يعيش المجتمع في كل زمان ومكان في داخل إطارها العام ويتخذ منها مقومات أساسية تتفرع عنها عشرات بل مئات وألوف التطبيقات الحياتية دون أن تصادم المقاصد الثابتة والغايات الدائمة التي تتعلق بكل إنسان بوصفه إنسانًا وبكل جيل غير محدود في فترة من فترات التاريخ ولا مكان على وجه البسيطة.
ولذلك فالكاتب يرى أن أشكال الحضارة الإسلامية – التي تقوم على أُسس وقيم ثابتة – تتأثر بدرجة التقدم الصناعي والاقتصادي والعلمي، لأنها تستخدم الموجود منها فعلًا في كل بيئة، ومن ثم لابُد أن تختلف أشكالها، لابُد أن تختلف لتضمن المرونة الكافية لدخول كافة البيئات والمستويات في الإطار الإسلامي، والتكليف بالقيم والمقومات الإسلامية، وهذه المرونة – في الأشكال الخارجية للحضارة – ليست مفروضة على العقيدة الإسلامية التي تنبثق منها تلك الحضارة، إنما هي من طبيعتها.
والحقيقة أن قُطب سبق وأن عبر عن هذه الفكرة – التي عرضها في (المعالم) – قبل اعتقاله في كتاب (معركة الإسلام والرأسمالية) ثم أعاد طرحها بعد اعتقاله في (الإسلام ومشكلات الحضارة)، وما كلامه في (المعالم) بشأنها إلا تأكيد لأفكاره لا انقلاب عليها، فيقول في كتابه الأول: (المجتمع الإسلامى ليس صورة تاريخية مُحددة الحجم والشكل والوضع، وإننا في العصر الحديث لا نستهدف إقامة مجتمع من هذا الطراز من حيث الشكل والوضع، إنما نستهدف إقامة مجتمع مُتكافئ من النواحي الحضارية المادية – على الأقل – للمجتمع الحاضر، وفي الوقت ذاته له روح ووجهة وحقيقة المجتمع الإسلامى الأول الذي أنشأه المنهج الرباني، باعتباره قمة سامقة فى روحه ووجهته وحقيقته الإيمانية وتصوره للحياة ولغاية الوجود الإنساني ولمركز الإنسان في هذا الكون ولخصائصه وحقوقه وواجباته وقمة سامقة في تناسقه وتماسكه) [1].
ويقول في كتابه الثاني: (أما الشكل والصورة والأوضاع فتتحدد وتتجدد بتطور الزمن وبروز الحاجات واختلاف أوجه النشاط الواقعي إلى آخر الملابسات المتغيرة المتحركة، ولكن ينبغي أن يكون تحركه – المجتمع الإسلامي – داخل إطار المنهج الإسلامي وحول محوره الثابت، وعلى أساس الإقرار بألوهية الله وحده، بإفراد الله سبحانه بخصائص الألوهية دون شريك، وأولى هذه الخصائص هى حق الحاكمية والتشريع للعباد وتطويعهم لهذا التشريع) [2].
قد مضى سيد قطب إلى ربه بسجل حافل في البذل لدينه، والدعوة لشريعته، والصبر على الأذى دون ذلك حتى فاضت روحه إلى بارئها.
————
* أصل المقال نُشر في موقع “ساسة بوست” الإلكتروني بتاريخ ٦ أغسطس ٢٠١٥م.
[1] معركة الإسلام والرأسمالية (66).
[2] الإسلام ومشكلات الحضارة (187).