أكثر تظاهرات إعلامية ودعاوى جماهيرية اندهش لها في أعقاب جرائم القتل والعنف؛ العقوبة الرادعة والمحاكمة العاجلة!
هل يستطيع أحد أن يُنكر أن جرائم القتل تزداد في وتيرتها وبشاعتها؟َ!
رغم أن أحكام الإعدام لا تقل، حتى أصبح لهذه الجرائم وأحكامها صحافة مخصوصة.
لم يكن الردع وحده يومًا حلًا لمنع الخطأ أو الحد منه، هذه أكثر فكرة سذاجة عرفتها البشرية، وأفدح كذبة صدقها الناس..
لك أن تعلم أن أمريكا أكثر مكان في العالم يُغتصب فيه الأطفال ويُتحرش فيه بالنساء وتُضرب فيه المرأة؛ في ظل نظم صارمة، ووجود أشهر حركات النسوية!
لك أن تعلم أن تجارة الخمر حين كانت ممنوعة ومقررًا لها أقصى الإجراءات والعقوبات في أمريكا؛ كانت أكبر حركة تجارة للخمر في العالم موجودة فيها وكانت تعادل تقريبًا ربع تجارة الخمر في العالم!
القانون لم يصلح في أي زمان ولا أي مكان أن يكون بديلًا للدين في إصلاح الناس.. ولو قلتَ في نفسك: وهل الشريعة ليس فيها عقوبات؟! وهل عقوبات الشريعة ليست صارمة مثل عقوبات القوانين؟!
أقول لك: بلى، أشد صرامة، لكن متى تصل الشريعة بالإنسان للعقوبة؟!
العقوبات في الشريعة عارض وليست أصلاً، أي لا تعاقب إلا بعد إجراءات كثيرة تشد الإنسان شدًا عن أي طريق مرذول، بل ولو تورط في أي طريق منها تسمح له بالعودة وتُجبر المجتمع على قبول عودته وإدماجه فيه!
فالإسلام لا يُقيم بناءه على العقوبة، بل على الوقاية من الأسباب الدافعة للعقوبة..
لذلك فالشريعة تخاطب كل أنواع النشاط الإنساني، حتى النوايا والمقاصد والأفكار، لا السلوك الخارجي فقط كالقانون، أو بعبارة أدق: لا تهتم فقط باللقطة الأخيرة التي ينتهي لها وفيها الإنسان؛ قاتلاً كان أو سارقًا أو مغتصبًا.. إلخ.
فالشريعة لا تنتظر حتى تتشبع النفوس بالرذائل في معتقدها وقلوبها وأفكارها ومقاصدها ونواياها.. بل تنظف فورًا وتغسل أولًا بأول قبل أي ترجمة لسلوك..
ولذلك من الدقائق البليغة جدًا في الخطابين القرآني والنبوي، أنهما جعلا مفهوم التوبة مفهومًا مركزيًا في النظام الاجتماعي – ليس من خلال بنية الزهد والإيمانيات فقط كما نظن، بل أيضًا البنية الفقهية وترتيب عشرات الأحكام العملية؛
في حين لم يلتفتا لفكرة السجون كنظام عقابي مؤسسي دائم كفكرة مركزية كما فعلت الدولة الحديثة.. وهذا من أقيم المعاني في الشريعة وحرصها على صلاح الإنسان وتحريره!
لماذا؟!
لأن الشريعة راعت الغرائز البشرية والطبائع الإنسانية التي لا مناص عنها، ولم تقع في فخ النظرة الملائكية للمجتمع المسلم؛ التي تتسبب في كثير من الصدمات في العلاقات الإنسانية، فلم تفترض – كما القانون – أن الأصل في الناس الصلاح والأصل في المجتمع المثالية، فمن يُخطئ يُعاقب؛
أبدًا، لكنها افترضت أنهم حتمًا سيخطئون، فقطعت عليهم كل طريق للخطأ، ومنه عرف الفقه؛ الفكرة العبقرية سد الذرائع ؛ أي سد الطرق المؤدية إلى الخطأ، وحسم مادة الفساد من أصلها، واعتباره من مصادر الشريعة!
باختصار؛ لم تفترض أنه مجتمع أخلاقي، لكنها سعت أن تُصيّره مجتمعًا أخلاقيًا.
ومنه تفهم السر في الأمر الشرعي بملازمة الأخيار .. “مثلُ الجليس الصالح وجليس السوء: كحامل المِسْك ونافخ الكير”، “تُنكح المرأة لأربع … فاظفر بذات الدِّين تَرِبَتْ يداك”.
وأعم منها قول الله تعالى: “واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغَداةِ والعَشِيِّ”..
فتأمل اللفظة العجيبة “اصبر نفسك” والصبر: حبس النفس، أي: لازمهم كأنك تحبس نفسك معهم لا تنتقل عنهم ولا تبدلهم بغيرهم..
هذه محاضرة تناقش نفس الأفكار بشكل أوسع: