إن تدريس علم القانون في أي أُمة تحترمُ شعبَها يجب أن يتناسب – في مناهجه وموضوعاته – مع تاريخ هذه الأُمة وتطوراتها الأنثروبولوجية، لكن الواقع الجامعي العربي عانى من حالة انفصام شبه تام بين العلوم العربية التراثية وأهمها العلوم الشرعية، والمناهج والمقررات التي يتم تدريسها في الجامعات العربية، وهو ما ترتب عليه انفصاله – لا عن الموضوعات التي يحتاجها المجتمع والقضايا التي يهتم بها – بل عن القيم والرؤى المعرفية ومنهجيات البحث التي تكونت إبان النهضة الإسلامية والعربية.
لقد تخطت المساهمات العلمية التي قدّمها التراثُ العربيُّ فكرة التنظير؛ حيث تمتعت بقيمة سلطوية وفعالية واقعية، اعتبر فيها العلم مصدرًا أساسيًّا من مصادر التشريع، واكتسبت بموجبها مؤلفات العلماء قوة القانون؛ حيث كان العلم القانوني هو الضامن لاستقرار التشريع واستمراره، ففرضت سُلطة العلماء نفسها على الأفراد والدولة، ولذلك لم تعان المناهج العلمية من أزمة في الفاعلية أو من أزمة وظيفية، وأزعم أنها التجربة التاريخية الوحيدة التي ارتقى فيها العلم لهذه المنزلة.
- تمهيد:
إن العلوم الاجتماعية أكثر من سواها فيما تحمله من ثقافة مُنشئيها وفي تأثيرها في عقلية حامليها، وفي العوامل التي تأخذها من الهُوية والمرجعية ومنظومة القيم وأنماط السلوك، ومن ثمَّ يتكثف احتياجها للنموذج الإرشادي الخاص.
ويشهد تاريخ العلم العربي بوجود نظام علمي لدى المسلمين كان قادرًا على استيعاب الأفكار والمهارات عبر مجموعة كبيرة من التقنيات أثرت في سرعة وحجم تلقي العلوم ودمجها، وكما أن ثمة أسبابًا قوضت هذا النظام منذ نهاية القرن الثامن عشر ورسخت لفكرة الفصل بين العلم الإسلامي الخاص والعلم بمفهومه التقليدي، أو على الأقل إحداث نزاع كبير حول مكانة العلوم الشرعية ومفاهيمها وأدواتها داخل نسق العلم العام، فثمة عوائق حالت دون دمج العلوم الاجتماعية وإصلاح علاقاتها بصفة عامة، وبين العلوم الاجتماعية والشرعية بصفة خاصة.
ففي عام ٢٠١٠ أصدرت منظمة اليونسكو تقريرها العشري عن العلوم الاجتماعية [1]، وأوضح التقرير ملامحَ العلوم الاجتماعية في دول الخليج العربي وشمال إفريقيا بالإضافة لسوريا والعراق، وانتهى إلى أن عددًا كبيرًا من الطلبة والجامعيين العرب الموهوبين لا يكاد يوجد لديهم أهداف محددة لبحوثهم ودراساتهم، كما أكد أن حالة دراسة العلوم الاجتماعية ليست جيدة بأي مقياس، وفسَّر كل ذلك بخضوع المجتمعات العربية لأنظمة استبدادية.
ولا يخفى أن الأبنية الاجتماعية في البلاد العربية تعاني من مشكلات كثيرة وكبيرة، وهي ناشئة في الأساس من الأزمات المنهجية التي تمرُّ بها العلوم الاجتماعية، حيث ترتبَ عليها عدمُ القدرة على استيعاب واقع المجتمع العربي.
وفي هذا الصدد يُمكننا أن نركز على معوقين كبيرين حالا دون إصلاح العلوم الاجتماعية في البلدان العربية: معوق الهُوية، ومعوق الوظيفة، يوضحهما مؤشرانِ رئيسانِ، هما:
- الفجوة بين التنامي الكمي لعدد الدارسين للعلوم الاجتماعية وضعف إنتاج المعرفة متمثلًا في ضعف الجودة النوعية للبحوث ونتائجها العلمية.
- الفجوة بين التنامي الكمي لمؤسسات التعليم وتكلس الأبنية الاجتماعية.
وهذه الدراسة تهدف إلى معرفة الطرق المعرفية والمناهج العلمية التقليدية في المجتمع العلمي العربي، وتعنى بحالة “علم القانون”[2] على وجه الخصوص، لبيان؛ هل يعاني المجتمع العلمي في مجاله من تبعية أكاديمية؟ وما أشكالها وأسبابها؟ وكيف يُمكن التخلصُ منها في ضوء الاتجاهات الكبرى للنهضة العلمية وتجاربها المختلفة؟ وأين تقع مسألة مراجعة الأُطر النظرية أو المفهومية لعلم القانون، وتحديد دوائر الاتفاق والتضاد، الاحتواء والاشتباك، الصلاحية وعدم الصلاحية، التي يُمكن الاستفادةُ منها أو يلزمُ تغييرَها؟
وذلك في سبيل إبراز الذاتية الثقافية للمجتمع العلمي العربي، ومحاولة التوصل إلى توطين المفاهيم والمناهج العربية الأصيلة بالكيفية التي تحقق التواصل مع الموروث العلمي العربي في العلوم الاجتماعية والإنسانية، بتمثل علم القانون كنموذج يمكن تقريب تصورات الأزمة / الحل، من خلاله.
- إشكاليات تدريس علم القانون في البلاد العربية:
لا نكاد نخطئ إذا قلنا إن أهمية كليات القانون في بلادنا العربي تختزل في مجرد دراسة القانون لدخول عالم القضاء وأروقة المحاكم، وهذا بلا شك يمثل مصادرة كبيرة على أهمية القانون من جهة الدراسة ذاتها وآثارها، فبغض النظر عن السمت العام الغربي الوضعي لهذه النوعية من الدراسات، فالحقيقة أن القانون والاقتصاد السياسي والفلسفة السياسية وما يُكملها ويجري مجراها من العلوم الاجتماعية – بشكل عام – يُقدم رؤية كبيرة شاملة لما يحدث في العالم، وتُنظم أفكار المُتلقي في شأن حركة التاريخ، وتبيُّن حقيقة الصراع، وكيفية بناء الدول وسيرها وتفكيكها، وطبيعة النُظم التي تعمل في العالم، وفهم الفلسفة الغربية لهذه النُظم والاستفادة مما يُمكن الاستفادة به منها أو رد ما يتعين رده منها، وغير ذلك من نواحٍ لا توفرها غيرها من التخصصات.
فضلًا عن التأثير في جوانب مهارية في غاية الأهمية، تتعلق بالبحث والجدل والتنظير والقراءة التحليلية وطرح الأسئلة والاستنتاج والمعيارية، ولا تكاد توجد دراسة نظامية توازي دراسة علم القانون في تدريب الدارس على هذه المهارات التي تُحدث الفارق في العقلية الجادة المُستعدة.
وعلى قدر الأهمية السابقة، يمكن أن ندرك التأثير العكسي الذي يمكن أن يحدثه هذا النوعُ من العلوم عندما يعتريها الخللُ في الهُوية والمرجعية أو التوظيف والتوجيه، وهما الجانبانِ اللذانِ مثلا أزمةً حقيقيةً في دراسة العلوم السابقة في العالم العربي، وهو ما نحاول إيضاحَه في هذا القسم من الدراسة.
أولًا: أزمة الهُوية:
وإذا جئنا للقانون – بصفة خاصة – فنجده لا ينفصل عن الذات الإنسانية التي كوَّنها المكان عبر الزمن، ولهذا كان العرف دومًا مصدرًا مهمًا من مصادر القانون، بل عَرّف بعضُ الفلاسفةِ القانونَ بأنه ما هو إلا عادات تنمو بين الناس وتتطور حتى ترسخ في المجتمع وتنشأ الحاجة لتقنينها، وهذا يُمثل وجه ارتباط الماضي بالحاضر فيه، فالقانون ثمرة تطور الجماعة، ولهذا فالبحث فيه – في الأصل – عصي على الاستيراد والنقل من بيئة لأخرى.
إن تدريس علم القانون في أي أُمة تحترمُ شعبَها يجب أن يتناسب – في مناهجه وموضوعاته – مع تاريخ هذه الأُمة وتطوراتها الأنثروبولوجية، لكن الواقع الجامعي العربي عانى من حالة انفصام شبه تام بين العلوم العربية التراثية وأهمها العلوم الشرعية، والمناهج والمقررات التي يتم تدريسها في الجامعات العربية، وهو ما ترتب عليه انفصاله – لا عن الموضوعات التي يحتاجها المجتمع والقضايا التي يهتم بها – بل عن القيم والرؤى المعرفية ومنهجيات البحث التي تكونت إبان النهضة الإسلامية والعربية.
وإذا كان أصحاب الاتجاه الوضعي العلموي اعتبروا أن أزمة العقل العربي تكمن في عدم استطاعته استيعاب المقولات المعرفية والمنهجية للعلوم الاجتماعية، نتيجة تكلس بناه المعرفية وعجز أدواته المنهجية، نتيجة هيمنة التراث عليه[3]، فإن واقع علم القانون ينفي هذه الفرضية، فقد انتقل علم القانون في الغرب بمناهجه ومقرراته ووسائله، وحتى أساتذته في أغلب الأحيان في عهود نشأته الأولى في البلاد العربية من الجامعات الأوروبية إلى الجامعات العربية[4]، واختزلت النظرة إلى التراث الفقهي في كونه مُخلفا من مخلفات التاريخ الإسلامي، ولم يُوظّف في المناهج الجامعية إلا بقدر ضئيل للغاية، لم يصل لحد اعتباره حتى مدونة من مدونات القانون المقارن.
وما استُخدِمَ من العلوم التراثية كعلم “أصول الفقه”[5] لم يُوظّف بشكل جيد، لا في فهم القانون ولا تفسيره ولا صياغته، ولعل سبب ذلك يرجع إلى:
- عدم تعرض علم الأصول – في جملة العلوم الشرعية – لأي حركة تجديد، اللهم إلا بقدر محدود نتيجة بعض الجهود الفردية من قِبل مصطفى الزرقا وغيره.
ويرجع ذلك، كما يقول د. عدنان الإمام، إلى الخلط الواقع في الوعي الجماعي للأُمة بين ما هو نتاج الوحي، والذي لا يقبل الزيادة أو النقصان، وما هو نتاج الاجتهادات البشرية؛ حيث أضفيت هالة من القداسة على العلوم الشرعية برمتها، التي اعتبرت وكأنها كل لا يتجزّأ يمثل الدين.
وكأن الاجتهادات الفقهية حول أصلٍ مشتركٍ أسفرتْ عن قبولٍ عامٍّ لدى الإسلام السني منذ عدة قرون، يحصرُ كلَّ النشاط المستقبلي في شرح وتطبيق وتأويل الدين كيفما وقع تحديد مضمونه وبصفة نهائية من طرف الفقهاء، بحيث لم يعد الناس يرجعون مباشرة إلى الكتاب والسُّنة لاستنباط الأحكام الشرعية، وقد تضافرت عدة عوامل اجتماعية وسياسية وفكرية، لإرساء عقلية التقليد الفكري والعقائدي وبدأ – بحكم ذلك – في فترة ما بين أواسط القرن الرابع للهجرة إلى حدود انهيار الخلافة العباسية، العصر الذهبي لكتب المذاهب المدرسية، فتحولت قابلية الفقه الإسلامي للتطور إلى تصلب تام، مفضية إلى ما أطلق عليه Alfredo Morabia: “كلاسيكية قانونية”، ذلك الجمود وَسع الهوة بين نظرية جامدة متحجرة وواقع حي متغير[6].
- النظر المعاصر إلى علم أصول الفقه باعتباره يُمثل خطاب عَقدي خالص، فتمت دراسته – في كثير من الأحيان – كما لو أنه امتداد لعلم أصول الدين، والواقع أنه بذلك يرد إلى خطاب ذا علاقة ضعيفة بالفقه (= القانون)، وذا علاقة بوسائل إيضاح الممارسة القضائية (= القانونية) أشد ضعفًا، وليس ثمة كبير شك في أن الطبيعة التجريدية لعلم أصول الفقه – فضلًا عن المسائل الكلامية واللغوية التي يخوض فيها – قد أفضت إلى تعزيز هذه المقاربة، لكن لا يُمكن عد هذا هو وحده المسئول عن ذلك، فالباحثين المُحْدَثين تبنوا مقاربة مغايرة مفادها؛ أن الشريعة الإسلامية حتى في جانبها العملي (الفقه) منبتة الصلة بالواقع الاجتماعي والسياسي، وهو مذهب بحثي قديم تطور في أعقاب الاستعمار[7].
والحقيقة، أن الوظيفة الأساسية لعلم الأصول كانت أكثر تعقيدًا، لأنها تجاوزت الوظيفة التفسيرية لعلوم القانون التفسيرية كعلم أصول القانون، وعلم القانون العام في العلوم الجنائية، وغيرهما، إلى وظيفة أكثر توجيهًا وبناءً، ولذلك فالفقه التراثي (الشرعي) يختلف جذريًا عن الفقه القانوني (المعاصر) في طرائق الاستدلال والحجاج، حيث يتضمن الأول مجموعة من الموجهات النشطة التي تسمح باتساع النص القانوني لمجموعة أرحب من التطبيقات، وبمرونة تحرره من كل جمود يناقض الطبيعة الاجتماعية للظاهرة القانونية، فنراه أكثر مرونة فيما يتعلق ببنية الأدلة الثبوتية ومسالك الاجتهاد في التعليل والتفسير والموازنة بين التنافرات المتوقعة في البنى القانونية، فيقدم منهجًا حقيقيًا للاستنباط قابل لتشييد نظم قانونية متعددة ومتنوعة بتنوع البنى المجتمعية واختلاف السياقات الاجتماعية، بالإفادة من موارد نصية أولية، كنصوص دينية أو عادات وأعراف أو حتى سوابق وضعية ونحوها[8].
- وأخيرًا، وجود فجوة كبيرة بين الشرعيين والقانونيين في الجامعات العربية، سواء من حيث مصدر التعلم والمرجعية أو من حيث الموازنة بين العلوم القانونية وعلوم الشريعة.
هذه الفجوة أدت إلى نتيجة أكثر تطرفًا تمثلت في نبذٍ واسع المدى للكتابات الأساسية في مناهج الاستنباط والتفسير، ومعها تم استبعاد عدد كبير من القواعد الكلية والخطوط العريضة للألفاظ الفقهية وعدد لا متناه من التفاصيل الجزئية في ذات السياق، لصالح طرق جديدة – ليس لها خط ناظم منهجيًا – للاستنباط والتحليل، وتبع ذلك التخلي عن القواعد التقليدية التي تحكم المجمل والمبين والمطلق والمقيد والخاص والعام، كما تم التخلي عن نظريات النسخ والإجماع وقياس الفرع على الأصل وغيرها، فانبنت الثقافة القانونية على أساس التشريع الحكومي والسوابق القضائية وليس الصوت الجماعي للآراء المستقلة للمجتهدين في الجماعة العلمية، وما تم توظيفه من الكتابات الأصلية – إذا ساغ تسميتها كذلك – في البناء العلمي القانوني تم توظيفه بشكل هامشي عشوائي، وهذا أدى بدوره إلى جمود تطوير المناهج التفسيرية الموروثة تمامًا، واقتصار العمل فيها على التخير والتلفيق.
وكان الأجدر أن يتم النظر إلى العلوم الشرعية ذات الطابع التفسيري، كعلم أصول الفقه وعلوم اللغة العربية ومصطلح الحديث ونحوها، على أنها حصيلة الاجتهاد البشري الذي قامت به الجماعة العلمية قديمًا في إطار القيم الموروثة، وأنها مصدر غني بمناهج البناء الفكري واستخراج الأحكام والترجيح بين طرق الاستدلال عند تعارضها، بحكم أن وظيفة هذه العلوم: صون الاجتهاد عن العبث والزلل والتلاعب بالنصوص.
ويرتبط هذا بلا شك، عدم إخضاع العلوم الشرعية للتحديث والتجديد من جهة المصطلح والقواعد ومنهجيات التلقي والطرح، حيث اعتبرت من علوم الماضي البعيد، الذي لم يعد مناسبًا للحاضر، رغم أن تجديد هذه العلوم ووظائفها العملية هو من المأمورات الدينية، لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله يبعثُ لهذه الأُمةِ على رأس كُلِّ مائة سنةٍ مَنْ يُجدِّدُ لها دِينَها»[9].
والحقيقة أن الابتعاد بعلم القانون عن مناهج الدلالات اللغوية وأصول الفقه تسبب في الوقوع في مشكلات منهجية وعملية كبيرة، منها:
- عدم الإحاطة بالمصادر الأساسية للقانون في البلاد العربية، وبالظروف التي نشأت فيها وبتطورها وتنزيلها على الواقع التاريخي وكيف يُمكن الاستفادة منها في الواقع المعاصر.
- تغريب المصطلحات، وإضعاف القُدرة على استعمالها حتى في الجوانب التي يُحيل فيها القانون الوضعي على التراث الفقهي والأحكام الشرعية في مجال الأحوال الشخصية أو المدنية.
- إذكاء الصراع بين شُراح القانون وأساتذته حول تفسير النصوص، وتحميلها أكثر من مقاصدها.
وإلى جانب الموقف المرتبك من مناهج العلوم الشرعية، ثمة موقف آخر لا يقل ارتباكًا من المناهج التاريخية والفلسفية، إذ تكاد تختفي من معالجات سائر العلوم القانونية في البلاد العربية، فلا يكاد الناظر يجد لهذه المناهج انعكاسًا في الكتب القانونية لا من حيث النصوص ذاتها، ولا من حيث تفسيراتها والنظريات التي تستند إليها، بحيث ينطبع في ذهن المطلع والقارئ بأنها “لقيطة” بلا أي امتداد تاريخي أو فلسفي في المجتمعات العربية تمامًا.
بما يُمكن معه القول، إنه لا يوجد لعلم القانون في البلاد العربية هُوية واضحة، ولا يوجد في ذهن أعضاء المجتمع العلمي العربي – والحكم للغالب – تصور واضح لدور علم القانون في تطوير المجتمع والنهوض به، ولذلك لا يوجد ربط كافٍ بين دراسته والمجتمع، ونجد المقارنة بين القوانين العربية وبين القوانين الغربية لا سيما الفرنسي كثيرة جدًّا، دون نظر فيما إذا كانت هذه القوانين تصلح للبيئة العربية أم لا، أو البحث في ظروف وملابسات إصدارها في البلاد التي صدرت فيها.
ثانيًا: أزمة الوظيفة:
والأزمة الثانية التي يُعاني منها علمُ القانون هي أزمة وظيفية، فالقانون الذي كان يجب أن تكون وظيفته تحقيق سعادة المجتمع، بات أكبر وسيلة استبدادية لجأت إليها الدولة الحديثة لإخضاع المجتمع وتبرير قراراتها القمعية، ولعل أهم مظاهر هذه الأزمة؛ تقلص مبدأ سلطان الإرادة لحساب تدخل الدولة.
وفكرة الخضوع في القانون طالما كانت – تاريخيًّا وفلسفيًّا – فكرة أساسية وحاسمة، لكن الخضوع المقصود هو الخضوع لنظام اجتماعي يُعتقد أنه كِيان فوق المجتمع وفوق الدولة أيضًا، نظام يقدم المصلحة العامة على كل مصلحة، وفي الوقت ذاته يُوازن بين المصالح – الفردية والمؤسسية – بحيث لا يحدث بين أي منها تصادم، لذلك يفرض نفسه ابتداءً من التزام أدبي بضرورته دون أي اعتبار لعنصر القوة، وهذا هو جوهر فكرة العقد الاجتماعي الذي هو أساس قيام الدولة الحديثة التي يعبر عنها الفلاسفة بشكل صريح وواضح بأنها “دولة القانون”، وبرغم بساطة هذه الفكرة ومثاليتها إلا أنها شديدة الإيهام، ونتيجتها المؤكدة هو إخضاع المجتمع لمصالح الدولة وحدها واستخدامها القانون ومؤسساته المختلفة لتبرير قمعها المصالح الأخرى[10].
من هنا يُمكن أن نفهم الأزمة الوظيفية لعلم القانون، إن القانون لا يجب أن يُشكل القيم والمعتقدات والقيم النهائية بقدر ما ينبغي أن يحميها، ومن هنا تأتي أهمية الممارسات المقبولة في الماضي بمعايير موضوعية، بوصفها مصدرًا مهمًا من مصادر القانون، لا مصدرًا هامشيًّا؛ إذ هي جوهر العلاقات الاجتماعية التي يواجهها القانون.
وإذا جئنا إلى التعليم القانوني، أو تشكيل الثقافة القانونية في البلاد العربية، نجد مناهجهما في هذا الإطار تُعاني من خللينِ أساسيينِ:
- غياب العلاقات البينية بين القانون والمجتمع عبر مداخل الماضي المتمثلة في التراث والمعتقدات والتقاليد والأعراف والقيم الكلية الموروثة، وتفسير هذه العلاقات وتحليلها، وهو ما يُثير مشكلات فلسفية معقدة غائبة تمامًا عن مناهج علم القانون في البلاد العربية.
- حضور قيمة الدولة والعلاقات بمؤسساتها من خلال منظومة هائلة من الأفكار والمفاهيم والنظريات، وعقد صلات قاطعة بين القانون كعلم وقيمة الدولة، بحيث يُمكن اعتبار هذه القيمة تعبيرًا مباشرًا عن فلسفة القانون وجوهره.
هذه الحركة المعاكسة (الغياب / الحضور) لعلاقات علم القانون، جعلته مساقًا معزولًا عن الحياة الاجتماعية، وبنفس القدر لكن في الاتجاه المضاد (مندمجًا) في الحياة السياسية، فضلًا عما أدت إليه من هشاشة القيم المعرفية للعلم ذاته، وأضحى السؤال القائم: هل الدرس القانوني عملية علمية تستهدفُ صناعةَ ملكةٍ علميةٍ أو فكريةٍ ذات خصوصية منهجية، أم عملية سياسية تستهدفُ تكوينَ عقليةٍ وظيفيةٍ لمهن الدولة القانونية على اختلافها؟!
- تأثير أزمتي الهُوية والوظيفة على المنهجية العلمية لعلم القانون:
الملمح الأكبر الذي يُمكن تلمسه من أزمتي الهُوية والوظيفة، هو “التبعية”، وهي بمدخلينِ متميزينِ:
الأول: تبعية خارجية غربية، متعلقة باعتماد المجتمع العلمي العربي على الرصيد الغربي في التعليم القانوني والممارسة لا سيما الفرنسي، وإلى حد ما الإنكليزي والأمريكي.
الثاني: تبعية داخلية سياسية، متعلقة بالتأثير السُّلطوي في مناهج تدريس القانون ومسار حركته العلمية.
أولًا: التبعية الغربية:
وأقصد بها اعتماد المجتمع العلمي العربي في فهم وتفسير الأُطر العامة للقانون التي تُشكل المفاهيم وتُحدد الإجراءات على الرصيد الغربي؛ حيث استبطنت التصورات الغربية اعتقادًا بصلاحيتها المُطلقة وتفوّقها، على الرغم من تخلص المنظومة الغربية من عدد كبير من موروثاتها العلمية، وأوضح مثال على ذلك؛ المبادئ التي قام عليها القسم العام من القانون الجنائي، ومبادئ الإثبات الجنائي والإجراءات الجنائية، بل امتدّ ذلك حتى لفرع تاريخ القانون وفلسفته الذي هو أسير بالكُلية للمركزية الأوروبية.
ولعل هذه المركزية تبدو أول ما تبدو في الرتابة الشديدة للمعالجات المنهجية للعلوم القانونية، من حيث السباق المحموم في السرد لأسماء فقهاء القانون الغربي ومفاهيمهم، كنوعٍ من المباهاة في العرض دون أدنى إعمال للنظر في تفسيرها أو حتى إفساح المجال لنقدها أو محاكاتها وإبداع وجهات النظر وبناء نظريات خاصة.
كما تبدو في الترجمات الحرفية للنظريات القانونية وشرحها، فضلًا عن النصوص القانونية ذاتها وتفسيرها، يقول د. عبد الوهاب خلاف: “إنه ليس من الصائغ قانونًا ولا عقلًا، أن يسن الشارع قانونًا من القوانين بلُغةٍ، ويطلب من الأُمة أن تفهم ألفاظه ومواده وعباراتها على مقتضى أساليب وأوضاع لغة أخرى، لأن شرط صحة التكليف بالقانون: قُدرة المكلفين به على فهمه، ولا يكون أيُّ تشريع – شرعي أو وضعي – حجةً على أصحابه إلا إذا كان وَفقًا لمعهودهم في التعامل”[11]، فاللغة هي السمة الأولى للانتماء إلى الثقافة، وعليها تقوم وحدة الهيئة الاجتماعية، والسلوك اللغوي إنما هو جزء من السلوك العام للفرد، من خلاله يتضح مدى انتمائه للثقافة والمجتمع.
نستطيع أن نفهم التأثيرات الأوروبية – لا سيما الفرنسية منها – في علم القانون في الجامعات العربية، لا كما قد يتصور بعضهم من واقع التاريخ الاستعماري للمنطقة العربية فحسب، فأبسط استدراك على هذا التبرير هو أن التاريخ الاستعماري الفرنسي لمصر لم يكن على ذات مستوى التاريخ الاستعماري الإنكليزي لها، لا من حيث المدة الزمنية ولا من حيث التأثير الوظيفي.
ولا كما يصور بعضهم من واقع التفوق الأوروبي في العلوم القانونية، فأوروبا نفسها طورت من نظمها القانونية ومناهجها في تدريسه تطويرًا كبيرًا، تجاوز تقسيم نظمها القانونية إلى لاتينية حرة وأنجلوسكسونية مُقيدة ومختلطة تجمع بين النظامينِ، لا سيما مع تطور الجريمة وتطور المعاملات وتطور أدلة الإثبات، مما أدى إلى خروج الاتجاهات التشريعية الحديثة عن دائرة صياغات النظم القانونية المعروفة التي كانت تدور في فلكها، ولم تعد متقيدة أو متأثرة بما يأخذ به هذا النظام أو ذاك، بحيث يُمكن القول إن العالم الغربي بات يتبنى نظمًا ومبادئ قانونية شديدة الاختلاط والتداخل والتعقيد[12].
والثابت الذي يمكن معه فهمُ التأثيرات الأوروبية في علم القانون العربي هو الأُلفة القديمة منذ نهاية القرن التاسع عشر، التي ربطت القانونيين والأكاديميين العرب بالنماذج القانونية الفرنسية، هذا الارتباط لم يكن على المستوى التشريعي فحسب، بل على المستوى الوظيفي أيضًا؛ حيث كانت المحاكم في بيروت ودمشق ومعظم بلاد شمال إفريقيا بما فيها مصر الراضخة للاحتلال الإنكليزي، تقوم على أغلبية من القضاة الفرنسيين، وكان من أوائل المعينين في هذه المحاكم فضلًا عن كليات القانون رجال قانون تلقوا دراسة جامعية في باريس، اللهم إلا المحاكم الشرعية حتى منتصف القرن العشرين تقريبًا.
وعلى سبيل المثال، وفي سياق علم القانون الذي نحن بصدده؛ حين أُنشئت مدرسة الحقوق في مصر في عهد الخديوي إسماعيل عام ١٨٦٨م، وهي الأقدم في تدريس القانون في البلاد العربية؛ عُهدت نظارتها إلى الفرنسي فيكتور فيدالVictor Vidal، فتولى تنظيمها ووضع مناهجها، وكان يعاونه نحو عشرين مُدرسًا أجنبيًّا، واستمر في نظارتها حتى عام 189١م أي لنحو ثلاثة وعشرين عامًا؛ حيث خَلفه الفرنسي شارل تستو Charles Testoud حتى عام 1902م، ثم مواطنهجرانمولان MJ Grandmoulin فمواطنهم إدوارد لامبير Édouard Lambert لمدة عام واحد، ثم و. هـ. هيل حتى عام ١٩١٢م، ثم موريس إيموس Maurice Amos حتى 1915، ثم أعقبه الإنكليزي ف. ب. والتون حتى عام 1923م عميد كلية الحقوق في جامعة ماكجيل بمونتريـال، والذي اتبع سياسةَ الخلط بين النظامين الإنكليزي والفرنسي في المادة العلمية التي تُدَرس، بعد أن كان فرنسيًّا خالصًا [1].
وكانت إنجلترا حريصة على تكثيف حضورها في هيئة التدريس في المدرسة، وتقليص الحضور الفرنسي قدر الإمكان، فظل القسم الإنجليزي في المدرسة يزدهر، بينما القسم الفرنسي يتضاءل حتى أُلغي القسم الفرنسي كليةً، وأصبحت لغة الدراسة هي الإنجليزية، وكان هذا من أغرب سياسات المدرسة، فإذا كان ثمة ما يبرر دراسة القانون باللغة الفرنسية فإنه لا يوجد ما يبرر دراسته باللغة الإنجليزية، إذ القانون المصري الذي يأخذ بالنظام اللاتيني يختلف تمام الاختلاف عن النظام القانوني الإنجليزي والأمريكي الذي يأخذ بالنظام الأنجلوسكسوني، ولم تكن في هذا الوقت ثمة مراجع قانونية إنجليزية يمكن أن يرجع لها طالب القانون أو باحث الدراسات العليا، بل هي حتى وقتنا الحاضر يندر وجودها في عالمنا العربي، فكان الأجدر إذا ما عقد العزم على إلغاء القسم الفرنسي أن تكون الدراسة باللغة العربية باعتبارها لغة المجتمع والقضاة والمحامين ولغة القانون الذي يحكم البلاد وجذوره المستمد منها والتي تظهر في المصطلحات العربية والشرعية، لكن هذا لم يحدث.
وفي الجملة استحوذ العنصر الأوروبي على هيئة التدريس في المدرسة تمامًا؛ حيث اعتمدت اعتمادًا كليًا في نظارتها ومدرسينها على الأساتذة الأجانب مُنذ تأسست، ولم تصبح اللغة العربية لغة الدراسة الأساسية في المدرسة إلا بعد تحويلها إلى كلية وضمها للجامعة بعد إعادة تأسيس الجامعة المصرية كجامعة حكومية عام ١٩٢٥م، مع بقاء التعمق في اللغة الفرنسية شرطًا في مرحلتي الليسانس والدكتوراه.
وحتى بعد تحول “المدرسة” إلى “كلية” بعد إنشاء الجامعة المصرية فقد اعتمدت اعتمادًا كبيرًا على الأساتذة الأجانب في عهودها الأولى، وكان الفرنسي ليون ديجي Léon Duguit (1859: 1928م) عميد كلية حقوق بوردو بفرنسا هو أول من تولى عمادتها من نوفمبر 1925 حتى مارس 1926م.
وتاريخ مدرسة الحقوق في بيروت لا يقل عن مدرسة الحقوق في القاهرة؛ حتى أنها كانت تُعرف بمدرسة الحقوق الفرنسية ثم كلية الحقوق الفرنسية حتى عام ١٩٥٨م.
ولم تكن كليات القانون هي الوحيدة التي حدث فيها هذا الارتباط وهذه الأُلفة، بل كل الكليات تقريبًا لم تسلم من هذا الارتباط والاتصال، بل كان تأثيرها أعظم في الأثر والنتيجة في كليات مثل كليات الآداب وفي القلب منها أقسام الفلسفة [2]، ربما يعزى ذلك إلى أن مؤسسي الجامعة المصرية كانوا في الغالب من المفكرين الليبراليين الذين انتقدوا النظرة الوظيفية بالعلم وارتباطه بالمجتمع وتقاليده وتاريخه، ولأن ذلك في نظرهم لم يكن ممكنًا في بلدان تفتقد للتقدم، فكان الاهتداء بالغربيين وبما هو متبع في أوروبا أمرًا لا غنى عنه.
وكان تعليم القانون – من الناحية الشكلية – في الجامعات العربية يتم بأسلوب تربوي شبيه بذلك الذي كانت تأخذ به الكليات الفرنسية[13]، وفي شأن ذلك كتب جميل بيام في ثلاثينيات القرن المنصرم يقول: “لقد تخرج من مدرسة حقوق بيروت أساتذة كانت معارفهم قاصرة على القانون الفرنسي واللغة الفرنسية، اعتمدت السلطة الحاكمة عليهم وعينتهم تدريجيًّا في الوظائف القضائية، وعمدوا بدورهم إلى نشر معارفهم بين زملائهم من المحامين، الذين اعتمدوا على القانون الفرنسي واللغة الفرنسية”[14].
ورغم أن حال المحاكم في هذا الشأن تغيّر كثيرًا بدخول النصف الثاني من القرن العشرين، إلا أن الجامعات العربية ظلت كما هي حتى سنوات قريبة، فيذكر Bernard Botiveau أن من بين سبعة وعشرين عضوًا في هيئة تدريس كلية الحقوق بجامعة المنصورة بمصر عام ١٩٨٥م، كان يوجد أربعة وعشرون حاصلًا على درجة الدكتوراه من كلية حقوق فرنسية، ومثلهم تقريبًا بجامعة القاهرة عام ١٩٨٠م، فضلًا عن عدد كبير حصلوا على درجة الماجستير من جامعات فرنسية وأمريكية، ولا يختلف الوضع كثيرًا في سوريا، بل في عام ١٩٨٠م لم يحصل أحد على درجة الدكتوراه من جامعة سورية من بين واحد وعشرين عضوًا في هيئة التدريس أكثرهم حصل على الدكتوراه من جامعات فرنسية ومصرية[15].
إن العلوم الاجتماعية أكثر من سواها فيما تحمله من هُوية مُنشئيها والمرجعية ومنظومة القيم وأنماط السلوك السائدة في المجتمع، فالمعارف الاجتماعية ليست نبتة أو حيوانًا يمكن تدجينه بتكييفه مع البيئات المختلفة والجديدة، بل هي أدوات ومفاهيم ومنهجيات وقوانين دقيقة لعلاج أمراض والتعاطي مع ظواهر محددة في ثقافات بعينها، وفي الغالب ما تكون عديمة النفع – إن لم تكن مضرة – خارج هذه الثقافات، وهي الحالة التي عبر عنها مالك بن نبي بـ “الأفكار المميتة” [1] أي التي قد تبدو رائدة أو تنويرية في ثقافاتها ومجتمعاتها لكنها قاتلة في ثقافات أخرى مدمرة لمجتمعات أخرى.
والنماذج الإرشادية السائدة الوضعية وما بعد الوضعية، بأصولها الغربية اليونانية والرومانية ثم امتداداتها أو انقلاباتها الحداثية وما بعد الحداثية، مهما تدّعي العمومية والعالمية والكونية لا تستطيع أبدًا أن تُلبي الحاجات المعرفية الوصفية والتفسيرية التي يُنتظر استيفاؤها من التناول العلمي الممنهج للظواهر الإنسانية الخاصة، مما يجعل الحاجة ملحة إلى نموذج إرشادي موائم ومطابق لطبيعة الظاهرة في الحضارة المعنية وحامل لخصوصياتها وما يُميزها[16].
إن عجز الباحثين في العلوم الاجتماعية خارج المنطقتين الأوروبية والأمريكية عن إبداع نظريات ومناهج أصيلة في البحث، أو تأسيس مدارس علمية جديدة لها ذاتية ثقافية، مثلت مشاكلَ حقيقيةً للعلوم الاجتماعية ليس للعالم العربي فحسب، بل في العالم الآسيوي أيضًا، لكن الأخير استطاع أن يقطع شوطًا كبيرًا في تجاوز هذه المشاكل متخلصًا بشكل أساسي من مشروعية هيمنة الأبستمولوجيا الغربية، وكان لعلم القانون نصيبٌ وافرٌ من هذا المسلك، فقد اهتم كثيرٌ من الباحثين الآسيويين بدراسة تاريخ القانون وفلسفته من منظور وطني، واهتموا بإنشاء مؤسسات علمية وأكاديمية ومراكز أبحاث لدراسة وتطوير علوم القانون وفروعه في ضوء علوم الاجتماع والتاريخ والسياسة والاقتصاد وظواهرها الوطنية، بحيث مثلت مع بعضها شبكة ذات خطوط مشتركة في المنطلقات والمناهج والنتائج، أو بعبارة أدق لا تنافر بينها وتضاد كما كان موجودًا من قبل نتيجة اختلاف مصادرها في التبعية.
على سبيل المثال، تشكلت النظم القانونية الحديثة لليابان وكوريا والصين في الماضي عن طريق استيراد النماذج القانونية الغربية – الألمانية تحديدًا – بدرجات متفاوتة وبطرق مختلفة، لكن تراث النظام القانوني الألماني لاقى مصيرًا مختلفًا في كل من البلدان الثلاثة، فبينما واصلت كوريا والصين التزامها بمنهج النظام القانوني الألماني، فالإصلاحات اليابانية في المجال القانوني أحرزت من التقدم نحو المنهج العلمي ما هو أكثر رحابة من موروثاتها الأوروبية، ففيما يتعلق برقمية المعلومات أوجدت قواعد جديدة تحكم التوقيعات والعقود الإلكترونية والتسجيل عبر الإنترنت للأموال غير المنقولة وأرباح السندات المالية، ولم يغير هذا من الهيكل الأساسي للقانون المدني، بل جعل القانون المدني أكثر مرونةً وتنوعًا، ومن ثمَّ أخذ القانون الياباني بتطوير هُويته تدريجيًّا بما يناسب نهضته وثقافته الحديثة، وإيجاد طريقه الخاص نحو المستقبل وهذه التطورات والنهضة التي شهدتها اليابان ما كانت لتتمكن من التعامل مع المسائل الحاسمة دون أن تشتمل على مجموعة من المواد القانونية أكبر مما كانت تشتمل عليه التشريعات السابقة، والتي أخذت في الشكل ما يُعرف بالقانون المرن Soft Law، عبر معايير أخلاقية وقواعد تكنولوجية وإدارية واقتصادية وغيرها[17].
ثانيًا: التأثر السُّلطوي:
وأقصد به تحول المؤسسة العلمية القانونية إلى إحدى أدوات تبرير أوامر السُّلطة وممارساتها، بدلًا من أن تقوم بدورها في الرقابة عليها من خلال تقييم وتقويم أدواتها، وتصويبها وتوجيهها، وقبل هذا بدلًا من تقديمها تفسيرات لظاهرة الدولة وتطوراتها ومؤشرات تحولاتها البنيوية الراهنة؛ حيث اختزلت فكرة القانون – حقيقةً – في تبرير طاعة الأفراد للسُّلطة باعتبارها الضمانة الوحيدة للنظام الاجتماعي، فتحولت العلاقة بين العلم والسُّلطة إلى علاقة ضرورية مثلت عائقًا أساسيًّا أمام استقلال المؤسسة العلمية والمجتمع العلمي.
فكما أن القانون كان أفضل الوسائل لتوجيه إرادة الأفراد نحو الأغراض السياسية التي نشدتها الدولة، فإن دراسة القانون كانت أفضل الوسائل لمنْطَقة سلوك الدولة وأغراضها، ومن منظور آخر يُمكن القول إنه حين تولت المحاكم إنفاذ إرادة الدولة عبر قوانينها، عززت كليات القانون هذه الإرادة عبر تدريس هذه القوانين وتفسيرها، باعتبارها عملية منصبة على المعايير.
فلا غرابة أن نجد بعد ذلك واحدًا من أبرز أساتذة القانون المدني في منتصف القرن العشرين يطرح سؤالًا حول المقدار الذي يجب أن يُساهم به الفقيه القانوني في الحياة السياسية، ثم يُجيب عنه بقوله: “الجواب عن هذا يتوقف على المهمة الموكولة إلى الفقيه، فإن كان يقوم بدور المشرع، وذلك عندما يوكل إليه وضع تشريع جديد أو تعديل تشريع قائم فهذا عمل سياسي، وعندئذ لا يجوز أن يكون الفقيه بمنأى عن الوسط السياسي الذي يزاول عمله فيه، فلا يجوز له أن يضع التشريع على نقيض ما تقتضيه الحياة السياسية التي يُشرع لها وإلا كان خائنًا لواجبه.
ولا كذلك الحكم عندما يزاول الفقيه عمله الآخر وهو شرح قانون قائم؛ إذ إن عمله عندئذ يكون عملًا فنيًّا وليس عملًا سياسيًّا، ومن ثمَّ يجب أن يتقيد بالقانون القائم لا يحيد عنه، أي أنه في هذه الحدود لا يجوز أن يكون الفقيه رجل سياسة، صحيح أنه يجوز له أن ينقد القانون القائم، ولكن صحيح ذلك أنه لا يجوز له أن يخرج على ذلك القانون ما دام أنه لا يزال قانونًا معمولًا به”[18]!
ولعل من عوامل هذا التزاوج بين الدولة والمجتمع العلمي العربي في مجال القانون: غياب المنهج النقدي واختفاء المدرسة النقدية عن ميدان علم القانون تمامًا، وانخراط جمهور المشتغلين بالقانون وخريجي مدارس القانون ومؤسساته التعليمية في هياكل الدولة وبُناها التحتية الإدارية والسياسية، وانصهارهم في أنظمتها الشمولية[19]، لكن العامل الأبرز – من وجهة نظري – هو عدم تغلغل القانون من حيث هو “علم” في أعماق الكِيان الاجتماعي من حيث المصدرية والاعتبار والتأثر والتأثير والفاعلية.
ولذلك توجد ظاهرتانِ بارزتانِ في التأليف القانوني:
- التكرار الشديد في الموضوعات والمعالجات، والإسهاب والتطويل في شرح القوانين وتفسيرها مع عدم إضافة أي جديد علمي يُذكر، ولا تكاد دائرة الاهتمام حيالها تتجاوز المشتغلين في العمل القانوني من القضاة والمدعين العموميين (أعضاء النيابة) والمحامين وأساتذة القانون، بل حتى في مؤلفات مداخل القانون وأصوله رغم أنها مجال رحب للإبداع العقلي بوصفها ميدانًا فلسفيًّا بالأساس.
- غياب الكتابة في طرق البحث القانوني، وفلسفة القانون، والأساس الفلسفي الذي يرتكز عليه، وتمحيص طبيعة القانون ومصادره وعلاقته بالعلوم الاجتماعية الأخرى[20].
وهاتانِ الظاهرتانِ وإن دلتا، فإنهما تدلانِ على أن القانون لم ينشأ في البلاد العربية أو يتطور كثمرة للحياة الاجتماعية وتطورها، وإنما كقواعد تُمثل إرادة الدولة.
ولا يكاد يُخطئ من يعتبر المجتمع العلمي العربي في مجال علم القانون – في المجمل العام – هو مجرد امتداد لمدرسة “الشرح على المتون” أو مدرسة “التزام النصوص” الأوروبية التي نشأت في فرنسا في أوائل القرن التاسع عشر واندثرت في أوروبا تمامًا في بدايات القرن العشرين[21]، لكنها حافظت على امتدادات نشطة في كثير من الجامعات العربية والمجتمع العلمي العربي[22]، لا سيما المصري الذي كان له أثره البالغ في نشر الثقافة القانونية وتصدير القانونيين في سائر البلاد العربية خاصةً في الخليج العربي.
ولذلك انصرف أتباع هذه المدرسة – جيلًا بعد جيل – إلى شرح النصوص وتوضيحها غير خارجين حتى على الترتيب الشكلي للقانون، فتقيدوا بترتيب أبواب ونصوص التقنينات، وهو ما يعكس الاعتقاد الراسخ بقدسية هذه النصوص وتضمنها – في الجملة – ما يلزم من قواعد لمواجهة كل أمور الحياة بوقائعها وأحوالها، ونستطيع أن نُلخص أهم مبادئها في:
- ارتباط العلم القانوني بالنصوص القانونية وألفاظها على أساس أنها مصدر المعرفة.
- الالتزام التام بإرادة المشرع عند التفسير، وتحديد وظيفة الشارح بالبحث عن هذه الإرادة والكشف عنها، أو بعبارة أدق؛ حصر مصادر القانون في إرادة المشرع.
- عدم إقامة أي وزن لتطور المجتمع وتغير ظروفه.
وعلى حد تعبير د. حسن كيرة – أحد أكبر أساتذة القانون في العالم العربي: “القانون عندهم هو إرادة الدولة ولا شيء غير إرادتها”، مما أدى إلى قسر النصوص لاستخلاص حلول ومبادئ ونظريات، ومن ثمَّ جمود القانون وعرقلة تطوره وحصره في إرادة مفترضة، وإن تغيرت ظروف الحياة في الجماعة أيما تغير[23].
لذلك اعتمدت مناهج هذه المدرسة على دراسة النصوص والتعليق عليها بأحكام القضاء، والدوران في مدارها كدوران الأجرام في المجموعة الشمسية، ويرجع الفضل في تلاشي هذه المدرسة تمامًا من أوروبا إلى دخول العلوم القانونية في علاقات حيوية بالعلوم الاجتماعية[24]، مما أدى إلى ميلاد علوم جديدة لا يغلب عليها الطابع القانوني بقدر ما يغلب عليها الطابع الاجتماعي، كعلم الاجتماع القانوني، وعلم الإنسان القانوني وغير ذلك، وهو نفس السبب الذي أدى إلى استمرار هذه المدرسة في العالم العربي بل إلى انفرادها بنشر الثقافة القانونية وتضخم آثارها وتأثيراتها، ولكن من جهة معاكسة؛ حيث لم يكن للعلوم الاجتماعية أي قبول – تقريبًا – داخل الأوساط القانونية أو في المجتمع العلمي القانوني.
وقد أثر هذا على المنهجية العلمية لدراسة القانون بفروعه المختلفة في الجامعات العربية، فيشير د. إمام حسين – في دراسته المسحية التقييمية لأدبيات القانون في البلدان العربية – إلى أنه وعلى صعيد رسائل القانون الجامعية، فقد عابها غياب المفاهيم الأساسية للدراسة ومشكلتها في ذهن العديد من الباحثين واعتبارهم موضوع الدراسة هو ذاته الإشكالية، أو الصعوبات التي تواجه البحث على أنها إشكالية البحث، بما يعكس قلة الوعي بقواعد البحث العلمي ومدلوله ومصطلحاته، فضلًا عن قصور استخدام المنهج العلمي والقدرة على التعبير الصحيح عنه، وضعف استخدام الأساليب المنهجية[25].
حتى في الظواهر المستحدثة غالبًا ما تكون الإشكالية البحثية في معظم الدراسات والرسائل العربية هي مدى توافق أو كفاءة نصوص القوانين في مواجهتها، وسمتها العام يتناول الموضوعات بطريقة سطحية وغير متعمقة، ولا تطرح حلولًا عملية لما تناولته من مشكلات، بل تقتصر على حلول تتعلق بتعديل التشريعات القائمة أو وضع تشريعات جديدة دون أن تحدد طبيعتها والجدوى منها وما إذا كانت تناسب ظروف ومتطلبات الحياة الاجتماعية[26].
ومهما أكد أساتذة القانون وشراحه في البلاد العربية على أهمية مبادئ العدالة وقواعد القانون الطبيعي، إلا أن الباحث في المناهج العلمية وطرائقها في علم القانون لا يكاد يرى لذلك أثرًا في الفهم أو البحث أو التحليل.
ويُمكن القول إن التأثير العلمي المنهجي في تشكيل علم القانون ومساره في العالم العربي، لم يكن على ذات مستوى التأثير السياسي فيه، بل كان أدنى بمستويات كثيرة، فلا غرابة بعد ذلك أن نجد تقرير اليونسكو عام ١٩٩٩م حول العلوم الاجتماعية في العالم العربي يُقرر أن ثمة اثنتين من أبرز العوامل المؤثرة في تشكيل مسار العلوم الاجتماعية في الشرق وشمال إفريقيا ووضعها الراهن وهما: المال والسياسة، ومن ثمَّ قدّم التقرير عرضًا سلبيًّا لواقع العلوم الاجتماعية في العالم العربي، أُعيد التأكيد عليها في تقارير اليونسكو التقييمية في الأعوام اللاحقة!
- الحركة الأكاديمية العربية: وتوطين الذاتية الثقافية:
إن توطين الذاتية الثقافية هو الأقدر على تقديم ابتكارات ورؤى بديلة في مناهج العلوم الاجتماعية وتفسير ظواهرها الخاصة، والأكثر صلاحيةً على حل ألغازها العلمية، ومن ثمَّ مشاكل المجتمعات، بحيث تنفي عن هذه العلوم اغترابها عن مُحيطها وتُحقق شخصيتها الثقافية.
وإن حل الأزمات التي تُعاني منها العلوم الاجتماعية – ومنها علم القانون – في البلاد العربية، يرجع في الأساس إلى الهدف من تعلمها وتعليمها، فإذا كان الهدف منهما هو “حمل المعنيين بالحقوق على دخول عالم النصوص القانونية وتحفيزهم على فهمها وتفسيرها في سياقات اجتماعية متنوعة من أجل تطبيق أمثل” [27]، فإنه لا يكون ذا معنى ولا قيمة إلا بقدر ما تكون نظرياته واستدلالاته متجهة نحو غاية عملية هي الفهم الأمثل لتطبيق واستخدام القانون، وهذا لا يتم إلا بما يتفق مع روح الجماعة التي يُطبق فيها وأوضاعها.
إن علم القانون – كعلم التاريخ وعلم الاقتصاد وعلم السياسة وعلم الاجتماع – لا يُمكن أن يُدرس بطريقة مناسبة إذا اقتصرت الدراسة فيه على الجوانب النظرية البحتة للعلم دون أن تمتد لأوضاع المجتمع وظواهره الخاصة، إنه إفقار لهذه العلوم وإفراغ لها من مضامينها الوظيفية.
لقد عانت الحركة الأكاديمية العربية الحديثة من ازدواجية ثقافية (علمانية / دينية) تدافع تارةً عن العلم ضد الدين، وأخرى عن الدين ضد العلم، فانشغلت بمعارك فكرية وصراع ذاتي كان هدفه في المقام الأول إحداث توافق بين العلم والدين، مرةً على حساب العلم ومرةً على حساب الدين، متأثرةً بعاملينِ أساسيينِ:
الأول: تجربة العلم ذاته بمركزيته الغربية، إذ لم يستطع في هذه التجربة أن يتلمس طريقه في التقدم والنهوض إلا بعد أن تحرر من سُلطة الدين وسُلطة رجال الكنيسة.
الثاني: انقضاض الثقافة العربية المعاصرة بانتفاضتها العلمانية على الدين، بعد أن ظهر التيار العلماني فيما بدا في المجتمع والأوساط الثقافية محتفيًا بقيم العلم متشبعًا بقيم الحرية، وهو عنها أبعد ما يكون[28].
وكانت النتيجة أن ساهم الفكر العربي الحديث في ترسيخ فكرة تضاد العلم والدين، وتوسيع الفجوة بينهما على النسق الغربي، بدلًا من محاولة خلق نماذج إرشادية (براديغمات) خاصة في العلوم تناسب المجتمعات العربية، وتوطين منهجيتها العلمية الخاصة.
إن التقدم العلمي لا يُمكن أن ينبني من نقل أو استيراد العلم، بل طريق التقدم هو توطين المنهجية العلمية الخاصة، ففي الحقيقة لا يوجد ما يُسمى نقل العلم أو استيراده، فحتى حركات الترجمة لا يُمكن أن تُؤتي ثمارها إلا من خلال عمليات تكرارها وإعادة النظر فيها كما جرت حركة الترجمة العربية في الحضارة الإسلامية.
وحدوث هذا التوطين رهن تضافر بنيات المجتمع المختلفة، العلمية والسياسية والاجتماعية، وبدون ذلك فلن يكون هناك توطين للعلم، بل سيكون هناك فقط مؤسسات علمية وأساتذة معلمون، ظاهرهم العلم وحقيقتهم الوهم، فالعلم لم يكن قطُّ بنية معزولة عن البنيات الاجتماعية الأخرى[29]، كما لا يتصور أن يُحدِث المجتمع العلمي تأثيره بعيدًا عن ثقافة المجتمع العامة.
ويبدأ دور المجتمع العلمي في أي نظام أو أُمة من تبني وتكوين تقاليد وطنية في البحث العلمي، وبخاصة البحث الأساسي، وهذا لا يتطلب فقط تخصيص الموارد اللازمة لإنشاء المؤسسات البحثية ولتكوين العلماء وكفالتهم وتأمين معايشهم، بل يتطلب بالأهم دعم الثقافة العلمية العامة وتشجيعها، بدءًا من نشر المعرفة العلمية، والبحث في تاريخ العلوم وفلسفتها وتدريسها، وحتى فسح المجال للكتابات العلمية ذات المستوى المتجاوز للنقل والترجمة.
ولا يُمكن الكلام عن المجتمع العلمي دون الكلام عن البحث العلمي نفسه، فالمجتمع العلمي يكون موجودًا عندما توجد تقاليد وطنية في البحث العلمي تُمهد لإيجاد هذا المجتمع وتُقدم له الخصائص التي تُميزه، وإذا انعدمت هذه التقاليد في البحوث، لا يبقى سوى كمية من المُعلمين وتَجمع من التقنيين ذوي تكوين متساوٍ في تنافره وفي عدم تجانُسه، أما إذا وجدت التقاليد العلمية الوطنية، فإنها تظهر في أسماء العلماء وفي عناوين مؤلفاتهم وفي المواضيع التي طوروها والتجديدات النظرية والتقنية التي قاموا بها[30].
والحقيقة، أن الضمانة الوحيدة لأي نظام اجتماعي هو التحرر المنهجي من التبعية بكل أشكالها، وهو تحرر معرفي بالأساس، من خلال توطين المنهجية الخاصة وتحقيق استقلاليتها، والانطلاق منهما لتجديد وتأسيس فروع العلم وتطوير نظرياتها، وفي التراث العربي ما يُمكن به تحقيق ذلك وأكثر، ففرع “أدب القضاء” وحده – والذي يُشبه إلى حد كبير علم “المرافعات القضائية” المعروف في كليات الحقوق والقانون وفي المجتمع العلمي القانوني المعاصر، مع استقلالية وتميز خاص لعدم انفصال دائرة العلم فيه عن دائرة القيم – يتضمن أكثر من مائة مصنف، تعد من أفضل ما قدمته الإنسانية في علم القانون، وليس كما يظن بعض الباحثين أن الحضارة العربية لم تقدم أيَّ مساهمةٍ حقيقيةٍ في هذا الشأن، أو أن مساهماتها لا تعدو سوى مساهمة بمجموعة من الواجبات الدينية والأعراف الإنسانية التي تناولها الفقه بالشرح والتعليق، مما أدى إلى حسر حقل المعرفة العربية، وحصر التراث العربي في دوائر نقاش ضيقة اختزلته موضوعيًّا في بعض القضايا الجزئية.
فتحتَ ذاتِ العنوان “أدب القضاء”، كَتب أبو يوسف القاضي (ت ١٨٢هـ)، والقاسم بن سلام (ت ٢٢٤هـ)، وابن سماعة (ت ٢٣٣هـ)، والخصَّاف الشيباني (ت ٢٦١هـ)، وابن جرير الطبري (ت ٣١٠هـ)، والقدوري (ت ٤٢٨هـ)، والماوردي (ت ٤٥٠هـ)، والسروجي (ت ٧١٠هـ)، وغيرهم كثير، وبعض هذه المصنفات تعاقبت عليها عشرات الشروح والمختصرات، مثل: شرح “أدب القاضي لأبي يوسف”، وشرح “أدب القاضي للخصَّاف” الذي زاد على العشرة شروح وحده.
وكذلك دونوا عددًا من المصنفات في تاريخ القضاء، رصدوا فيها تطور الوظيفة وتجارب القضاة وخبراتهم وأحوالهم وكثير من السوابق القضائية، فتحتَ عنوانِ “أخبار القضاة”، نجد أخبار قضاة البصرة لمعمر بن المثنى (ت 209هـ)، وأخبار قضاة بغداد لابن الساعي البغدادي (ت 674هـ)، وقرطبة لابن بشكوال (ت ٥٧٨هـ)، ودمشق للذهبي (ت ٧٤٨هـ)، ومصر لابن الملقن (ت ٨٠٤هـ)، وغيرها كثير.
هذا فضلًا عما كتب في الترجيح بين البينات، وفي العقود، وفي أدب الشهود، وفي الخبرة، وفي علم الوثائق والتسجيلات، وغير ذلك عشرات الموضوعات والعلوم الفرعية.
فهذه كانت علوم قانونية صرفة بالمصطلح الحديث للقانون، تحدوها مناهج متعددة في الفهم والتأويل، لكنها ترتبط في النهاية بمركزية الوحي التي جعلتها متحررة من كل تعسف سلطوي وتبعية غربية، فالمذاهب الفقهية هي مناهج استنباط وتأويل لقواعد قانونية من مصادرها.
بل حوت هذه الذخائر مئات المعالجات الدقيقة للمسائل القانونية حتى غدت جزءًا متميزًا أصيلًا، استفاد منه الشرق والغرب، ولا أدل على ذلك مما ذكره علي حيدر – الأستاذ بمدرسة الحقوق في الأستانة وأمين الفُتيا في العهد العثماني – في كتابه “درر الحكام شرح مجلة الأحكام” من قوله: “وقد استُفْتِيَتْ دارُ الاستفتاء هذه في بعض الأحوال من قبل ممالك أوروبا في بعض المسائل الحقوقية الغامضة”.
لقد تخطت المساهمات العلمية التي قدّمها التراثُ العربيُّ فكرة التنظير؛ حيث تمتعت بقيمة سلطوية وفعالية واقعية، اعتبر فيها العلم مصدرًا أساسيًّا من مصادر التشريع، واكتسبت بموجبها مؤلفات العلماء قوة القانون؛ حيث كان العلم القانوني هو الضامن لاستقرار التشريع واستمراره، ففرضت سُلطة العلماء نفسها على الأفراد والدولة، ولذلك لم تعان المناهج العلمية من أزمة في الفاعلية أو من أزمة وظيفية، وأزعم أنها التجربة التاريخية الوحيدة التي ارتقى فيها العلم لهذه المنزلة، السياسية بالأساس.
وهذا الأمر خاصةً، يمكن أن نرجعه لأسباب عدة، أهمها: أن صناعة القواعد القانونية التفصيلية المتمثلة في الفقه الإسلامي، كانت نابعة من الواقع وملتصقة به، فهي نظام قانوني ذو سيولة غير محدودة بمكان ولا زمان ولا أشخاص ولا موضوعات، فنجده يتضمنُ عباداتٍ ومعاملاتٍ وأحوالًا، ولكلٍّ منها إطارٌ تجري فيه، وخصائص، وأطراف، ترتب حقوقًا والتزاماتٍ متباينة.
ولا أقصد بذلك التحول إلى عقلية ماضوية غارقة في زمن مضى، بل نعني الاستفادة من عناصر الماضي العقلانية ومنجزاته المعرفية، لتأسيس معرفة معاصرة وإنتاجها بعيدًا عن تكلسات التبعية وأدواتها المنهجية الاقتباسية والاجترارية من بيئات منبتة الصلة عن ماضي الأُمة وحاضرها (واقعها).
فالفقه الإسلامي، كان ثمرة نشاط فكري وعقائدي غني امتدّ لعدة قرون، أخفى في نفسه كل إمكانيات الفكر المزدهر للإمبراطورية الشاسعة التي شكّلها العرب، ومن خلال هذا الفكر وُضِعتْ معايير شكلت نموذجًا علميًّا وإطارًا منهجيًّا للمفكرين المسلمين.
وفي المقابل، لا أقصد قطع كل الصلات بالمعرفة الغربية، فهذا مما لا يُقبل أو يُعقل في مسار العلوم وحركتها، لكن نعني الدخول في عمليات مثاقفة حضارية حقيقية، تجمع بين الفهم والتعقل (الاستيعاب) وبين النقد والنقض والتتميم والبناء (المشاركة)، مع إدراك تام للثوابت والمتغيرات ومراعاة للفروق والفوارق، فيؤدي ذلك إلى إعادة إنتاج المفاهيم وتطوير النظريات.
فحدوث التوطين المنهجي رهن ثلاثة أمور:
الأول: إبراز الخصوصية الثقافية، وذلك من خلال آليتينِ:
الأولى: التعريب الصحيح الجيد للعلوم، فلا يُمكن دعم العقلية العلمية والثقافة العلمية، بل التعليم الحقيقي، دون تعريب منهجي جيد لكل ضروب التعليم.
الثانية: تطوير النماذج المعرفية للعلوم العربية الأصيلة التي استخدمت في فهم وتفسير الحياة بأبعادها المختلفة، وأهمها بلا شك علم أصول الفقه الذي هو “نظَّم ونظَّر للتفكير البشري” على حد تعبير د. لخضر لشهب[31].
الثاني: تحديث وتطوير البحث الأساسي في التعليم، وليس فقط البحث التخصصي والتطبيقي.
فبدون تبني هذه الأمور التي يلزم تكاملها وتضافرها فيما بينها لتُمثل سياسة عامة، لن يحدث توطين للمنهجية العلمية، ومن ورائه أي تقدم حضاري، ولن يُجدي عن ذلك الاهتمام بالصناعة والتكنولوجيا؛ إذ ثبت إخفاق هذا المنطق كما أخفق منطقُ نقل العلم واستيراد التقنيات والاعتماد على فُتات المساعدة التي يقدمها الآخرون؛ حيث يجب الأخذ بمنطق التملك والتوطين للعلم كبديل حضاري – لا مناص عنه – لمنطق الاتكال.
وتملك الحاضر لا يُمكن أن يحدث دون تملك الماضي، ماضي العلم لا سيما في الحضارة العربية، وهو يشمل لا تاريخه في المقام الأول، بل لغته وفلسفته وأُسسه المنهجية، وهذا شرطٌ أساسيٌّ من شروط بناء الثقافة العلمية ونشرها، فالتراث الإسلامي على حد تعبير رشدي راشد: “لم يكن لغةً ودينًا وأدبًا فقط، بل كان أيضًا علومًا وفلسفةً ومنطقًا، وهنا وهناك كانت أصالة هذا التراث في عالميته”[32].
- خاتمة:
لا نبالغ إذا ما اعتبرنا “علم القانون” هو الميدان الأرحب للأزمات المنهجية التي اعترت العلوم الاجتماعية في العالم العربي، وكما أن علاقة المعرفة بالاستعمار أضرته وأضرت المجتمع العلمي العربي لعقود طويلة، فكذلك كانت علاقة المعرفة بالسُّلطة، إذ كانت وريث الاستعمار في التأثير والتبعية.
ولا يعني هذا أننا ننكر تأثير عوامل الخلل الوافر في الخبرة التدريسية، والتأليف المدرسي، وأساليب التدريس، ومنظومة تحصيل الشهادات والدرجات العلمية، وأبنية التعليم، وغيرها، في اتجاهات العلوم وتطوير النظريات والنماذج المعرفية وتحديد مواقعها في البناء الاجتماعي، بل كل هذا مما أثر عليها ولا بُد، ويُمثل جزءًا من مستقبل الحل.
لكن تحقيق الانفصال المنهجي بين المركزية الغربية والمجتمع العلمي العربي، والتحرر المعرفي من التبعية السلطوية، يُمثل أول رقم في رزنامة تحديات العلوم الاجتماعية، وكل التحديات التالية إنما هي فرع عن أول تحد.
وإن أولى خطوات التحرر المعرفي في العلوم الاجتماعية – ومنها علم القانون – تبدأ من حيث قويت المدرسة النقدية في المجتمع العلمي وتشعبت مساراتها واشتدت قسوتها.
وإن كل خطوة تُتخذ على طريق إصلاح المناهج ورفع كفاءة المجتمع العلمي هي خطوة على طريق تحرير الأُمة وتوجيهها نحو النهوض والتقدم.
* ورقة بحثية قدمت في أعمال مؤتمر “إشكاليات مناهج البحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية”، الذي نظمه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، المنعقد في الدوحة، في مارس ٢٠١٩م، ونُشرت في أعقاب ذلك في دورية “سياسات عربية” المحكمة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، العدد التاسع والثلاثون، يوليو ٢٠١٩م.
[1] World Social Science Report, Knowledge Divides 2010, International Social Science Council, UNESCO Publishing, Paris, 2010, https://goo.gl/spi9aj.
[2] وهنا يجب التأكيد على أن هذه الورقة تركز على علم القانون بشكل أساسي، لا دراسة نصوص القوانين ودلالتها أو تحليل هذه النصوص في جانب معين، بحيث لا تعني بالقانون في ذاته أو سياسته التشريعية، إنما بمنهجية تدريسه ومنتجاته المدرسية سواء كانت كتبًا أو رسائل علمية أو مقالات وبحوث أو غيرها مما يعتبر إنتاجًا علميًا في الحقل القانوني.
[3] عبد الحليم مهورباشة. “أزمة العلوم الاجتماعية في العالم العربي”، (الجزائر: مجلة الدراسات والبحوث الاجتماعية، جامعة الوادي، العدد الرابع، يناير ٢٠١٤)، ص ٣٤.
[4] وعلى سبيل المثال، حين أُنشئت “مدرسة الحقوق” في مصر في عهد الخديوي إسماعيل عام ١٨٦٨م – وهي الأقدم في تدريس القانون في البلاد العربية – عُهدت نظارتها إلى فيدال باشا، فتولى تنظيمها ووضع مناهجها، وكان يعاونه نحو عشرين مُدرسًا أجنبيًّا، واستمر في نظارتها حتى عام 1892م أي لنحو أربعة وعشرين عامًا؛ حيث خَلفه تستو حتى عام 1902م، ثم جرانمولان ثم لامبيير ثم هيل ثم إيموس حتى 1915م، ثم أعقبه الإنكليزي والتون حتى عام 1923م – الذي كان رئيسًا لكلية الحقوق في جامعة ماكجيل بمونتريـال – ثم خَلفه الإنكليزي كلاي لمدة عام، واتبع الأخيرانِ سياسةَ الخلط بين النظامين الإنكليزي والفرنسي في المادة العلمية التي تُدرس، وهو النظام الذي ساد الحالة القضائية في المحاكم المصرية وقتئذ، بعد أن كان فرنسيًّا خالصًا.
وكانت إنكلترا حريصة على تكثيف حضورها في هيئة التدريس في المدرسة، وتقليص الحضور الفرنسي قدر الإمكان، وفي الجملة استحوذ العنصر الأوروبي على هيئة التدريس في المدرسة تمامًا، وحتى بعد تحول “المدرسة” إلى “كلية” بعد إنشاء الجامعة المصرية فقد اعتمدت اعتمادًا كبيرًا على الأساتذة الأجانب في عهودها الأولى مُنذ تأسست عام 1925م، وكان الفرنسي ديجي عميد كلية حقوق بوردو بفرنسا هو أول من تولى عمادتها عامي 1925/1926م.
ولم تصبح اللغة العربية هي لغة الدراسة الأساسية في الكلية إلا بقدوم أحمد أمين في منصب العمادة عام ١٩٢٦م، مع بقاء التعمق في اللغة الفرنسية شرطًا في مرحلتي الليسانس والدكتوراه.
وتاريخ مدرسة الحقوق في “بيروت” لا يقل عن مدرسة الحقوق في “القاهرة”؛ حيث كانت تُعرف بمدرسة الحقوق الفرنسية ثم كلية الحقوق الفرنسية حتى عام ١٩٥٨م.
[5] وهو العلم الذي يُتوصل به إلى معرفة الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية، كما يعرفه أكثر الفقهاء، وفيه مدارس ثلاث: مدرسة المتكلمين المعروفة بمدرسة الشافعية، ومدرسة الفقهاء المعروفة بمدرسة الحنفية، والمدرسة المختلطة المعروفة بمدرسة المتأخرين، ولكل منها أساتذتها وعلماؤها المبرزون، وعدد هائل من الكتب المؤلفة والشروح والمختصرات.
فمن أبرز علماء مدرسة المتكلمين: الباقلاني (ت 403هـ)، وله: التقريب والإرشاد، والإنصاف، والجويني (ت 478هـ)، وله: البُرهان، والتلخيص، والورقات، والغزالي (ت 505هـ)، وله: المُستصفى، والوسيط، والوجيز، والرازي (ت 606هـ)، وله: المحصول، ومن أبرز علماء مدرسة الفقهاء: الجصاص (ت 370هـ)، وله: الفصول في الأصول، والبَزْدوي (ت 482هـ)، وله: كنز الوصول، والسَّرخسي (ت 490هـ)، وله: الأصول، ومن أبرز علماء مدرسة المتأخرين: الساعاتي (ت 694هـ)، وله: بديع النظام الجامع بين أصول البَزْدوي وأحكام الآمدي، والسُّبكي (ت 771هـ)، وله: جمع الجوامع، وابن الهُمام (ت 861هـ)، وله: التحرير، وابن عبد الشكور(ت 1119هـ)، وله: مُسلم الثبوت، والشوكاني (ت 1250هـ)، وله: إرشاد الفحول.
[6] Alfredo Morabia. La notion de Gihad dans l’Islam Médiéval. Des origines à Al Ghazali, Thèse présentée devant l’Université de Paris IV, Service de reproduction des thèses, Université de Lille III, 1975, p.281
[7] وائل حلاق. الشريعة: النظرية والممارسة والتحولات، ترجمة: كيان أحمد حازم، (بيروت: دار المدار الإسلامي، الطبعة الأولى 201٨)، ص ١٨٤: ١٨٥.
[8] فلا غرابة بعد إذ، أن تخلق هذه المرونة نزعة فردية – ربما بدت متطرفة لغير المتخصصين في الفقه الإسلامي – فنجد كثيرًا من المسائل تتضمن قولين أو ثلاثة، وربما عدة أقوال تدور مع الأحكام الخمسة، حتى عُد هذا في قول الكثيرين؛ سمة أساسية من سمات الفقه الإسلامي، وحتى هذه النتيجة ابتكر علم الأصول استراتيجيات للتعامل معها وتقويض آثارها السلبية وتوجيهها وجهة مناسبة وظيفيًا.
[9] أخرجه أبو داود في سننه (4291/كتاب الملاحم)، والحاكم في مستدركه (4/567)، والطبراني في معجمه الأوسط (6/324)، وصححه الحاكم في المستدرك، وقال العراقي: سنده صحيح، وقال ابن عبد الغني في كشف الخفاء (1/281): رجاله ثقات، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (599)، وقال: رجاله ثقات رجال مسلم.
[10] ولعل هذا كان من دواعي ذهاب بعض فلاسفة القانون – أبرزهم “هيجل” – إلى أنه لا يجب حصر مفهوم القانون في الإطار الحقوقي Juristisch فقط، بل يجب النظر إليه بوصفه الكيان Dasein المتضمن كل تعينات الحرية، ووفقًا لذلك، فلا يُمكن التفكير في القانون إلا على أساس أنه الحقل المتضمن لكل الظواهر الموضوعية للحرية أو للإرادة.
ومن أجل ذلك رفض “هيجل” تأليه القانون وتقديسه der Rechtskult؛ حيث يُحوّل إلى بُعد مقوّم للحياة الأخلاقية، فضرورة القانون من جهة رعايته للحرية والإرادة؛ حيث الإنسان هو السيد على كل ما هو داخل الطبيعة.
[11] عبد الوهاب خلاف. علم أصول الفقه، (القاهرة: مكتبة الدعوة، الطبعة الثامنة)، ص١٤١.
[12] وعلى سبيل المثال، فالقانون الفرنسي الذي يُعد أحد أبرز النظم التي تأخذ بالنظام اللاتيني الحُر، يعد الآن من أهم النظم التي تُعزز المعايير التقنية وتتطلب مواصفات نظامية بالغة الأهمية لتأكيد الثقة في الدليل حتى يُعد مقبولًا.
للاستزادة حول هذا الموضوع، يُمكن الرجوع لرسالتنا في درجة الدكتوراه، حول “حجية وسائل الاتصال الحديثة والوسائط المساندة في الإثبات الجنائي، دراسة مقارنة”، كلية الحقوق، جامعة المنصورة، ٢٠١٨م، غير منشورة، ص١٤٨ وما بعدها.
[1] انظر بتوسع كتابنا: الشريعة والتحديث: مباحث وحقائق تاريخية واجتماعية في قضية تطبيق الشريعة وتقنينها، مركز أركان للدراسات والأبحاث والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى ٢٠٢١م.
[2] أذكر أنني عند التحاقي بقسم الفلسفة في كلية الآداب بجامعة القاهرة منذ سنوات قريبة، كان بعض الأساتذة ودارسي الماجستير والدكتوراه لا يرون حرجًا في الطعن في الأنبياء بوصفهم بشرًا غير معصومين، فيُصدقون أن سليمان عليه السلام تحرش بزوجة أبيه وأن لوطًا عليه السلام ضاجع ابنتيه! ولم يكن ثمة إشكال إطلاقًا عندهم في نقد الكتب السماوية وفي مقدمتها القرآن الكريم، بوصفها كتب أدبية تاريخية يجب أن تقرأ من ذوي التخصص الفلسفي قراءة نقدية في ضوء البيئة والمجتمع والتاريخ! وفي المجمل يرون أن الدين لا يُخاطب العقلاء، بل يخاطب العامة والدهماء الذين يسهل خداعهم بالجزاء الأخروي ووعد الجنة والشهادة، والمعجزات ما هي إلا خرافات وأساطير يُحتال بها على عقول البسطاء، فالفلاسفة اليونان مثلًا كانوا أكثر عبقرية من الأنبياء ومع ذلك لم يزعموا الوحي أو يدعو النبوة رغم عبقريتهم! ومن أعجب ما سمعته من أستاذ كان يُدَّرس لنا الفلسفة اليهودية أنه يصدق “تاريخ يوسيفوس” اليهودي أكثر من تصديقه القرآن، لأنه – بزعمه – أكثر عقلانية.
فضلًا عما هو أقل من ذلك، وأوسع انتشارًا بين متخصصي الفلسفة، مما يُطعن به في السُّنة النبوية وفي رموز الأُمة الإسلامية وعلمائها زورًا وبهتانًا، ويندر من يخالفهم فيها، انطلاقًا من أن الأحاديث النبوية لا يجب أن تقبل وتصحح إلا إذا وافقت قبول العقل وتصحيحه لا صحة الأسانيد وقبولها، ويرون مثلًا أن الغزالي والأشعري وغيرهما من الأئمة كانوا مشوشي العقل مضطربي الفكر!
وفي مقابل ذلك، يكاد تختفي تمامًا تخصصات الفلسفات القانونية والاقتصادية والاجتماعية، بل إن دراسة الفلسفة السياسية وفلسفة العلم محدودة للغاية، وذلك لحساب الانشغال بدراسة الفلسفات الدينية بصور؛ تفصيلية أكثر من اللازم، أو متكررة متشابهة، أو قريبة للغاية تكاد تنعدم الفروق بينها.
ربما يمكن أن نفهم الظاهرة الحاضرة في ضوء السيرة السابقة لكلية الآداب في بدايات القرن العشرين؛ إذ كانت إحدى منارات التغريب في مصر والعالم العربي، حيث ترأس عمادتها الدكتور هنري حرايجور منذ عام 1925م وحتى 1928م، ثم خَلفه جوستاف ميشو حتى عام 1930م، وأعقبه الدكتور طه حسين فترتين الأولى مُنذ 1930م وحتى 1933م والثانية مُنذ عام 1936م وحتى 1939م، وكان العنصر الأوروبي مستحوذًا على أكثر كراسي التدريس فيها، إذ تعاقب عليها وحدها أكثر من خمسة وستين أُستاذًا ومُحاضرًا أجنبيًا.
[13] برنارد بوتيفو. الشريعة الإسلامية والقانون في المجتمعات العربية، ترجمة: فؤاد الدهان، (القاهرة: سينا للنشر، الطبعة الأولى١٩٩٧)، ص١٨٧.
في حين يرى بوتيفو أن تعليم القانون في الجامعات العربية من حيث المضمون إلى مفاهيم كان لها أحيانًا أصل أجنبي، لكنها انصهرت داخل الثقافة القانونية للبلدان المعنية التي كانت تتمثل في قوانينها المكتوبة وتفسيراتها الفقهية وأحكام قضائها الوطني وفقهها الإسلامي.
[14] محمد جميل بيام. الانتدابانِ في العراق وسوريا .. إنجلترا وفرنسا، (صيدا: مطبعة العرفان، طبعة ١٩٣١)، ص١١١.
[15] برنارد بوتيفو. مرجع سابق، ص٢٠٧.
[1] يُفرق مالك بن نبي في هذا الصدد بين نوعين من الأفكار، الميتة والمميتة، فالميتة: التي تكون منقطعة الأصول والجذور، والمميتة: وهي التي يتم زرعها في ثقافات مختلفة عن بيئتها، فهي ميتة في محيطها مميتة في المحيط الخارجي.
[16] يُمنى طريف الخولي. نحو منهجية علمية إسلامية .. توطين العلم في ثقافتنا، (بيروت: المؤسسة العربية للفكر والإبداع، الطبعة الأولى ٢٠١٧)، ص ٢١٧.
[17] زينتارو كيتاغاوا. “تطور القانون المقارن في شرق آسيا”، ضمن: كتاب أكسفورد للقانون المقارن، تحرير: ماثياس ريمان ورينهارد زيمرمان، ترجمة: محمد سراج، (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة الأولى ٢٠١٠)، ج ١، ص ٤٠٦: ٤٠٧.
[18] عبد الحي حجازي. المدخل لدراسة العلوم القانونية، الجزء الأول (القانون)، (القاهرة: المطبعة العالمية، طبعة ١٩٦٦)، ص ٤٧.
[19] وحتى في الحالات التي حدثت فيها تعبئة سياسية للمشتغلين بالقانون ضد الدولة، كما حدث في صراعات القضاة مع السلطة السياسية في مصر أعوام ١٩٦٩ و١٩٨٦ و٢٠٠٥، لم تخرج هذه الصراعات عن شمولية الدولة، بل كانت أقرب ما تكون للصراعات النخبوية التي لم تؤثر من قريب أو بعيد على الحركة العلمية للقانون وتبعيتها السلطوية.
بل حتى في الحالات القليلة التي انخراط فيها العاملون في المجال القانوني من المحامين في الحركات الثورية، نراهم سرعان ما انخرطوا كمسئولين في دوائر الدولة مثل مصطفى كامل وسعد زغلول في مصر، والحبيب بورقيبة في تونس، وفارس الخوري في سوريا، ومحمد زكي في العراق، وغيرهم.
[20] وتُعد أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين هي الأغنى بهذا النوع من التأليف، إلا أنها كانت متأثرة بشدة بالحركة العلمية في أوروبا، ولم تخرج في جوهرها عن ترجمة وتنظيم الإنتاج الغربي والاجترار منه.
[21] حيث حلت محلها المدرسة الاجتماعية أو التاريخية التي نشأت في ألمانيا والمدرسة العلمية أو المختلطة التي نشأت في فرنسا، وهنا يمكن أن نلمس سبب تعاظم الدور الاجتماعي للقانون، فقد ساهمت المدرستان بشكل واضح في الكشف عن الارتباط بين البيئة والقانون.
[22] جدير بالذكر أن هذه الامتدادات لم تكن صورة مطابقة لمدرسة “التزام النصوص”، بل خلطت منهج هذه المدرسة بالمنهج المقارن نوعًا ما، لا سيما فيما يتعلق بالقانون الفرنسي تارةً والشريعة الإسلامية تارةً أخرى، وبلغ هذا الخلط أوجه في منتصف القرن العشرين، وكانت تصب أكثر اهتمامها بفروع القانون المدني.
[23] حسن كيرة. المدخل إلى القانون، (الإسكندرية: منشأة المعارف، طبعة ١٩٦٩)، ص ٣٩١.
[24] يذكر ألان سوبيو أنه حتى أواخر القرن التاسع عشر، كان أساتذة القانون في كليات الحقوق في أوروبا تتبنى وجهة نظر أكورس التي تقول: إن “كل شيء يوجد في جسم القانون” وأنه لا يحتاج إلى غيره من العلوم ولا حتى إلى علم اللاهوت، ويذكر أن الكليات كانت تطرد كل ما يمت بصلة لمعارف الاقتصاد والاجتماع والنفس والأنثروبولوجيا!
ألان سوبيو: الإنسان القانوني.. بحث في وظيفة القانون الأنثروبولوجية، ترجمة عادل بن نصر، (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى ٢٠١٢)، ص ١٤٥.
[25] إمام حسنين خليل. علم القانون في البلدان العربية .. دراسة في الموضوعات والمناهج، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى ٢٠١٤)، ص ١١٥ وما بعدها.
وتُعد من أهم الدراسات التي عالجت قضية موضوعات ومناهج علم القانون في البلاد العربية بمنهجية إحصائية تطبيقية على عدد من كليات القانون والحقوق في العالم العربي؛ حيث شملت ٩٨٣ إصدارًا قانونيًّا، و٦٠٥ رسالة دكتوراه، و٢٨٤ رسالة ماجستير، موزعة على البلدان العربية وفي فروع علوم القانون المختلفة، قام المؤلف بتحليل عينة عشوائية منها بلغت ١٠٩ كتاب و٦٢ رسالة دكتوراه وماجستير، بالإضافة لعدد ٢٧٨ دراسة علمية بدوريات قانونية محكمة، و٣٢ ورقة بحثية مقدمة في مؤتمرات قانونية.
وقد خلص المؤلف من دراسته إلى أن المنهج في الأدبيات القانونية العربية مجرد عبارات وألفاظ يحرص على ذكرها الباحثون، ولكن دون أن تجد لها حظًّا من التطبيق، وتبقى الرسائل الجامعية شاهدًا على الغياب الحقيقي للمنهج، على الرغم من أنها هي المجال الخصب لتبني المناهج العلمية الدقيقة، في ضوء وجود إشراف أكاديمي ولجنة علمية محايدة لمناقشة الرسالة والحكم عليها.
[26] المرجع السابق، ص ٨٢، ١٠٢.
[27] برنارد بوتيفو. “مراهنات القانون واستخداماته في العلوم اجتماعية”، ضمن: البحث النقدي في العلوم الاجتماعية، تحرير: روجر هيكوك، وآخرين، (الكويت: عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، طبعة 2014)، ص١٨٥.
[28] إذ ما لبث أن ظهر أن احتفاء المثقف العلماني بقيم العلم وتشبعه بقيم الحرية لم يكن إلا احتفاءً بالنتائج الاجتماعية التي كانت سببًا في خلق فجوة وصراعات مع الفكر الإسلامي عدوه اللدود، فكل أزمة عانت فيها الشعوب العربية من الأنظمة الاستبدادية كانت تصاحبها معاناة موازية مع المثقف العلماني والنخبة العلمانية.
[29] رشدي راشد. “الوطن العربي وتوطين العلم”، (بيروت: مجلة المستقبل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، السنة 31، العدد 354، أغسطس 2008)، ص 6.
ويرى د. راشد أن التقاليد العلمية التي مثلّها علماء الحضارة الإسلامية لم تنقلها قوافل التجارة ولا سفن البحارة ولا جيوش المجاهدين، بل كانت ثمار تنقيب وبحث في كتب القدماء، قام بها علماء فحول نقلوا بنشاط جُل الكتب العلمية والفلسفية بدعم من السلطة السياسية التي هيّأت السبل وشجعت على المُضي فيها.
ولم يكن هدفهم هو نقل هذه الكتب للتعريف بها، ولكن لمتابعة بحث علمي نشط .. هذه الظاهرة التي لا يُعرف لها مثيلًا من قبل أنتجت لأول مرة في التاريخ مكتبة علمية لها أبعاد عالم تلك الحقبة؛ حيث احتوت على النتاج العلمي والفلسفي لتقاليد متعددة الأصول واللغات، وأصبحت هذه التقاليد العلمية وما أنتجته جزءًا من حضارة واحدة لغتها العلمية هي العربية.
رشدي راشد. “العلم العربي وتجديد تاريخ العلوم”، ندوة تاريخ العلوم في الإسلام، التي نظّمتها الرابطة المحمدية للعلماء بأكاديمية المملكة المغربية بالرباط، في الفترة من 24 حتى 26 فبراير 2010، الطبعة الأولى 2014، ج 1، ص44.
[30] رشدي راشد. دراسات في تاريخ العلوم العربية وفلسفتها، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى 2011)، ص434.
[31] أبو بكر بن لخضر لشهب. تقديم كتاب “أثر القواعد الأصولية في تفسير النصوص القانونية” لبلخير طاهري، (بيروت: دار ابن حزم، الطبعة الأولى 2008)، ص13.
يقول المستشرق الفرنسي المعروف Henri Laoust في خصوص كتاب “الرسالة” للشافعي المؤسس لعلم الأصول: “ويبدو أن هدفه الرئيسي في هذا العمل هو تحديد طريقة قادرة على حل الخلافات بين القضاة ومنفذي القانون، إن المستوى الراقي لهذا العمل يُفيد بوجود تقاليد قانونية قديمة، غير معروفة بما يكفي، وهي نقطة انطلاق لمادة علمية جديدة تسمح بتطورات ثرية”.
Henri Laoust. Les schismes dans l’Islam, introduction a une étude de la religion musulmane, Paris, Payot, 1965, p. 91.
[32] رشدي راشد. المرجع السابق، ص41.
وفي الحقيقة فإن د. راشد تأثر كثيرًا في أفكاره حول ضرورة وكيفية توطين المنهجية العلمية في الثقافة العربية تلك، بأفكار د. مصطفى مشرفة، وقد ظهر هذا من كتاباته في أكثر من موضع، حقًا استفاد راشد من فِكر مشرفة، لكن الحقيقة كذلك أنه طوّر كثيرًا من أفكاره، واستطاع أن يتجاوزها بمراحل حين أعاد دراسة تاريخ العلوم عند العرب من خلال علاقاته العضوية وربطه بمسار التاريخ العلمي، فكشف عن أن التراث العربي وتاريخ العلم العربي لا يقتصر على دراسة الرياضيات والهندسة والفلك والمناظر وغيرها من العلوم بوضعها العلمي المجرد، لكنه يقتحم ميدان فلسفة تلك العلوم ذاتها، وكما يقول راشد: “الإسهام الفلسفي لعلماء ذلك العصر جوهري لفهم ابتكارات علمية معينة، بالإضافة إلى أنه جوهري للإحاطة بنشأة مشكلات فلسفية جديدة”.
رشدي راشد. في الرياضيات وفلسفتها عند العرب، ترجمة: يُمنى طريف الخولي، (القاهرة: دار الثقافة، طبعة 1994)، ص 73.