وقت القراءة 13 دقيقة
707 عدد المشاهدات

لعل أشهر وأهم صور التغير الثقافي والاجتماعي الجذري في الواقع التاريخي هي الحركات الإحيائية، والتي يُراد بها مجموعة الأنشطة المُتصلة المقصودة لإحداث أثر مُعين يقوم بها أعضاء جماعة ما بهدف بناء ثقافة تضمن لهم إشباع أفضل لرغباتهم وقيمهم، من خلال قبول نمط من التجديدات المُتعددة المُمكنة، يقوم بصياغتها فرد أو أكثر كوسيلة للتغيير الاجتماعي عبر وَصل الماضي بالحاضر وإعطاء رؤية للمُستقبل.

وتختلف هذه الصورة عن صور التغير الثقافي الكلاسيكية، كالتربية، والتطور التاريخي، في أنها عَقدية في طبعها في الغالب، قصدية مُتعمدة من قِبل الجماعة الإنسانية، لذلك تحدث في فترة قصيرة نسبيًا، في حين أن صور التغيير الكلاسيكية عملية بطيئة، متواصلة ذاتيًا، حتمية يتعذر تجنبها [2].

ويُعد الأنثروبولوجي أنتوني والاس Anthony Wallace أول من أشار إلى هذه الحركات باعتبارها إحدى إفرازات تأثير الشخصية في الثقافة [3]، من خلال مراقبته وتتبعه لبعض المراحل التاريخية للحركات الدينية المنظمة التي بذلت جهدًا واعيًا متعمدًا لبناء ثقافة أكثر إرضاءً من تلك المُستبدلة المُفككة التي لا تُلبي احتياجاتهم الأساسية، وهي ليست ظواهر شاذة غير عادية، بل هي ظواهر متكررة في تاريخ البشرية.

وتستند الحركات الإحيائية إلى مفهومين أساسيين: الأول هو الضغط Stress، والآخر هو طريق المتاهة Maze Way.

فالتغيير الاجتماعي الجذري ينطلق في الأساس من ضغط وتأثير بعض المواقف العصيبة المُؤلمة، ووفور الخلل في جميع جهات المجتمع، ابتداءً من حالات المحو الثقافي التي تحدث نتيجة الاستعمار والهزائم العسكرية أو الحروب الأهلية أو الإبادة الجماعية أو الأمراض الوبائية أو التغيرات المناخية والبيئية الشديدة كالبراكين والزلازل، ومرورًا بالتشوه الثقافي الذي يحدث من الاضطراب الثقافي والتفكك الاجتماعي نتيجة استيراد القيم والعادات الغربية أو شدة التهميش الاجتماعي والاقتصادي أو طول مدة الاستبداد السياسي وعنفه.

فالمجتمع أشبه ما يكون بالكائن الحي، إذ يعتمد في بقاءه على آلية التوازن، وهي الآلية التي يحاول النظام الاجتماعي الحفاظ بها على حد أدنى من التماسك قِبل أي تغير يُصيب جزء منه أو يُهدد بذلك، حيث تعمل على اتخاذ تدابير الطوارئ اللازمة في ظل ظروف التغيير لضمان ثبات المصفوفة الاجتماعية [4]، لأن الإنسان الذي هو الحد الأدنى من مفردات هذا المجتمع غير معتاد على التغيرات الحياتية الجذرية.

لكن المجتمع في بعض الأحيان يواجه من الضغوط ما يُربك توازنه تمامًا، ولا تستطيع تدابير آلية التوازن العادية الحد من آثار هذا الضغط العنيف ومقاومة الظروف الضاغطة التي تهدد النظام الاجتماعي وتحول دون استعادة توازن المجتمع.

ويكون لعوامل الضغط الشديدة تأثيراتها على المستوى الشخصي والمجتمعي، التي تتسع لتشمل: تمزُّق العلاقات الإنسانية، الأزمات العاطفية، التفكك الأسري، الارتباك الوظيفي، فقدان الشعور بالقيمة الذاتية، الانهيار النفسي، اللامبالاة الأخلاقية، وفور الفساد في جهات الدولة، انتشار المُغيبات العقلية والثقافية، إلى غير ذلك من التأثيرات.

أما مفهوم طريق المتاهة Maze Way فينطلق من احتياج كل فرد في المجتمع وكجزء عضوي منه إلى وجود صورة ذهنية للمجتمع وثقافته، هذه الصورة الذهنية تساعده بشكل تلقائي في التغلب على التوترات على جميع المستويات، والحد من آثارها، كأشبه ما تكون بالطريق المحفوظة للخروج من المتاهة [5]، والحفاظ على النظام الذي يوجد في نهاية هذا الطريق والذي ينزع له كل الأفراد بغض النظر عن اختلافهم حول صورة هذا النظام ومكوناته ومستوياته.

لكن مع الضغط المتواصل، لا تستطيع أن تفي الصورة الذهنية للفرد لإخراجه من هذه المتاهة، وبعبارة أخرى لا تكفي ثقافته للتقليل من مستوى الإجهاد، فيُصبح مُخيرًا بين خيارين كلاهما صعب، إما الحفاظ على الطريق المُعتاد للخروج من المتاهة مع تحمل الإجهاد المُتكرر والمُستمر، أو البحث عن طريق بديل للخروج منها، وهو جوهر العملية الإحيائية أو حركة التنشيط الاجتماعي.

فالشعور بعدم الرضا عن الثقافة السائدة وحده لا يكفي للخروج من المتاهة، والنية المتعمدة للتغيير وحدها لا تكفي للخروج من المتاهة

ومعظم الحركات الإحيائية تتبع – في الغالب – برنامج تدريجي قريب الشبه بشكل ملحوظ، هذا البرنامج يشمل مجموعة من الأدوار، والمسئوليات، وآليات التحكم الضرورية لتوفير إشباع كافي للحاجات الأساسية والقيم المشتركة، ويُمكن القول أنها تتشكل من أربع مراحل أساسية:

أولًا: استقرار نسبي:

وفي هذه المرحلة يواجه المجتمع بعض أشكال الضغط لكنها تتفاعل مع المجتمع ضمن حدود مقبولة لا تتغير معها حالة الاستقرار النسبي، حيث يتبع الأفراد تقنيات وأنماط ثقافية محددة لتلبية مُتطلباتهم وحاجاتهم بشكل مُرضي.

ولا تخلو هذه الفترة من تغيرات ثقافية، لكنها بطيئة غير مُؤثرة ولا يُقاسي منها الأفراد في الغالب الأعم، وعلى الرغم من بعض الحوادث التي يُخفقون معها في تحقيق توقعاتهم وآمالهم، لكن ذلك لا يستدعي تغييرهم طريقة معالجة الأمور والتغلب على الضغوط المجتمعية، إذ يستطيعون تحمل التنازل عن بعض الحاجات أو إهمال بعض المُتطلبات للمحافظة على استمرار النظام القائم.

فغالبية الناس يُفضلون التسامح في حقوقهم وحرياتهم حتى مع المستويات العالية من القلق والتوتر الاجتماعي بدلًا من إجراء تغييرات تكيفية حقيقية في النظام السائد والثقافة السائدة، والأشخاص الأكثر مرونة يُفضلون إجراء تغييرات مختلفة في حياتهم الشخصية، لتقليل الإجهاد المجتمعي عن طريق إضافة أو استبدال عناصر أخرى في حياتهم.

ثانيًا: ضغط فردي مُتزايد:

وهي المرحلة التي تزداد فيها أسباب الضغط، وتختلف تأثيراتها الاجتماعية بحسب اختلاف الأسباب، فتبدأ بظروف اجتماعية عامة، مثل: الحروب، الكوارث الطبيعية، الاستطالة في الاستبداد، الإبادة الجماعية، ثم تتحول إلى صعوبات شخصية مثل: فقدان النفوس، ضياع الأموال والممتلكات، انتشار الأمراض، الانهيار النفسي، إلى غير ذلك.

في هذه المرحلة يتعرض أفراد المجتمع لحالة من الضغط غير المُحتمل بسبب عدم قُدرة الأنماط الثقافية السائدة في إشباع حاجاتهم والحفاظ على قيمهم، حيث لا تُجدي الحلول المُعتادة في التخفيف من حدة التوتر والقلق الشخصي ومقاومة الضغوط المجتمعية.

ثالثًا: تشوه ثقافي:

وتبدأ مع فشل الأنماط الثقافية السائدة في استعادة التوازن الاجتماعي تمامًا، واستمرار ارتفاع حدة التوتر والقلق والانهيار والتفكك المجتمعي، التي يتفاعل معها المجتمع بصورة سلبية فيما يُمكن أن يُعرف بالاستجابة الرجعية، بأشكال مُختلفة مثل: انتشار العُنف، إدمان المخدرات والكحول، البطالة، التفكك الأُسري، الفساد الوظيفي، ضعف الدين، التحرر من النظم الاجتماعية، زيادة معدلات الجريمة، اللامبالاة الأخلاقية، تفشي الاكتئاب والاضطرابات النفسية والعصبية، وغيرها من الأنماط الثقافية الانحدارية.

ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل تتصادم معظم عناصر المجتمع في هذه المرحلة، وترتبط ببعضها بشكل نفعي مُتعارض في كثير من الأحيان، متجاهلةً صلات القرابة والصداقة والمسئوليات الاجتماعية، ولا تُفلح الأعراف التقليدية في حل الأزمات الفردية والمجتمعية، بل يصبح الصراع هو الوسيلة الأمثل لتحقيق المصالح الخاصة على حساب المصلحة العامة، مما يُؤدي إلى وفور الخلل في جميع الجهات وتسريع انهيار المجتمع.

وفي الغالب ما تأخذ السلوكيات المنحرفة والشاذة صورة جماعية منظمة، بحيث يتصور البعض أن أنماط الثقافة الأصلية قد انهارت تمامًا وحلت محلها تلك الانحرافات، وهذا هو جوهر التشوه الثقافي، حيث يصعُب أو يستحيل استعادة حالة التوازن دون حركة تنشيطية جادة أو عملية إحيائية جذرية، وإلا استمر المجتمع في التفكك والانهيار حتى يَتفَتَت كليةً أو يندمج في آخر أكثر استقرارًا وقوةً وتأثيرًا، وهذه هي النهاية التي انتهت بها وعندها أكثر الأُمم التي تلاشت أو الجماعات التي اندثرت.

ولا يوجد حد مُعين للتشوه الثقافي المشار إليه، بل هو نسبي يختلف من مجتمع لآخر ومن جماعة لأخرى، وبرغم صعوبة هذه المرحلة وخطورتها التي قد تنذر في بعض الأحيان بزوال كيان الجماعة من الوجود تمامًا، إلا أنها ضرورية وأساسية في عمليات الإحياء المجتمعية، بل هي أهم مراحلها في الواقع، لأن من خلالها تتحدد النقطة المحددة التي يجب أن يبدأ عندها التحول والتغيير.

ويُقدم لنا التاريخ الإسلامي أكثر من حالة لبعض المجتمعات التي تعرضت للتشوه الثقافي لأسباب مختلفة بعد مرورها بفترات طويلة من الاستقرار، لعل من أبرزها ما شهدته قبائل (البربر) التي كانت قِوام دولة المرابطين فيما بعد في أواسط القرن الخامس الهجري / الحادي عشر الميلادي، ففي الصحراء الكبرى المُمتدة من (غدامس) شرقًا إلى المحيط الأطلسي غربًا، ومن جبال (درن) شمالًا إلى وسط الصحراء الكبرى جنوبًا، كانت تعيش قبائل البربر وكانت مكونة من أكثر من سبعين قبيلة، من أهمها: لمتونة وجدالة ومسوفة ولمطة ومسراته ومداسه.

وعلى الرغم من دخول الإسلام لقبائل (البربر) قبل قيام دولة المرابطين، إلا أن غياب العقيدة الإسلامية وتعاليم الدين الصحيحة كان هو السمة العامة لشكل التدين فيها، فلم يُغن الدين عن أن يَعم فيهم الجهل، وتنتشر بينهم الجرائم كالسرقة والنهب وشرب الخمر واستحلال الزنا حتى أن الزنا بالزوجات كان يتم بعلم أزواجهم، فضلًا عن العادات الاجتماعية الغريبة كالزواج بأكثر من أربعة نساء وغير ذلك.

ويُمكن تلخيص أهم الأسباب التي أدت إلى وصول هذه القبائل إلى هذه الحالة من التشوه:

أولًا: انقطاعهم في الصحراء وشدة تأثرهم بالعادات والأعراف القبلية القديمة، وعدم اختلاطهم بأهل العلم والديانة، لبُعدهم عن طرق الحج والمراكز العلمية المعروفة في شمال أفريقيا وقتها، فكان لا يصل لهم إلا من كان يقصدهم من التجار الذين كان سمتهم – في الغالب – الجهل، كما أشار أمير قبيلة (جدالة) يحيى بن إبراهيم في كلامه مع شيخ المالكية أبي عمران الفارسي في القيروان أثناء عودته من رحلة الحج.

ثانيًا: الاستبداد والفساد السياسي الذي كان كانت تُعاني منه هذه القبائل، وما استتبعه من تحالف الطبقة الحاكمة مع أصحاب رءوس الأموال الذين كانوا يحتكرون كل مصادر الثروة من الأراضي الزراعية ومناجم الملح والماشية وغير ذلك، ثم تطور الأمر للمغالاة الشديدة في فرض الضرائب والمكوس على الأفراد، فانقسم المجتمع إلى قسمين رئيسيين:

  • أسياد: وهم الأمراء والأعيان والأثرياء الذين كانوا يحتكرون النشاط التجاري وكل مصادر الثروة من الأراضي الزراعية ومناجم الملح والماشية وغير ذلك.
  • وعبيد: وهم الفقراء وعامة الناس الذين كانوا يعملون في المناجم والزراعة ورعي الماشية، الذين ليس لهم أية حقوق اجتماعية، حيث كانوا يعيشون في قحط شديد بسبب ضعف موارهم المالية وما يفرضه عليهم الأمراء والأعيان من الضرائب، حتى أن منازلهم كانت تُبنى من أغصان الأشجار وتُغطى بالجلود.

رابعًا: إحياء الجماعة:

حيث يأخذ بعض أعضاء الجماعة زمام إحداث واستخدام مجموعة من التجديدات الثقافية بهدف القضاء على حالة الانهيار المجتمعي، وهذه التجديدات في الغالب ما ترتبط بتعديلات في النظام الاقتصادي وتحولات في النظام السياسي.

وتتوقف سرعة التحول للثقافة الجديدة على ثلاثة عناصر أساسية:

(1) طريق المتاهة البديل:

أو ما نستطيع أن نعبر عنه بالرؤية، وهي الصورة الذهنية الجديدة التي تتم إعادة صياغتها لثقافة الفرد وشكل المجتمع بطريقة تختلف عن الصورة السائدة، ولا يهم أن تكون مبتكرة أو مجددة، المهم أنها تكون مفاجئة ومثيرة بحيث تلاقي قبولًا عند عدد من الناس.

(2) المُلْهِم:

وهو الفرد المُبتَكر الذي يظهر بين مجموعة من المُهتمين بإيجاد طريق بديل للخروج من المتاهة الاجتماعية من خلال تجديدات ثقافية جذرية، وتعتمد العملية الإحيائية على نجاحه في نشر أفكاره ومد المُهتمين بالثقة وبإمكانية التخلص من حالة الانهيار الثقافي وتحقيق الحالة المثالية، لذلك يتمتع المُلْهِم بخصائص وسمات خاصة ومهارات فذة، تُساعده بشكل كبير في نشر أفكاره وجذب التابعين وإقناعهم بوجهات نظره وطاعة توجيهاته.

(3) المُهتمون:

وهم مجموعة من الأفراد، يزيدون أو يقلون، يكونون أكثر اجتماعًا وأقرب أُلفةً وأقل تنافرًا، يتبعون أفكار المُلْهِم، ويُشكلون فيما بينهم تنظيم اجتماعي يحاول الاتصال بالآخرين والترويج لتجديدات المُلْهِم وإضافاتهم، وإقناعهم بقبولها واستخدامها، فيما يُشبه الثورة على النظم التقليدية، وربط المجتمع وضمه بوجهات نظر محددة تُشكل الحدود الثقافية لمجموعة المهتمين عن غيرهم.

وكما أن المُلْهِم يتمتع بصفات مُميزة، فكذلك المُهتمين، لهم من الصفات الخاصة ما يُباينون به باقي أفراد المجتمع في اهتماماتهم وعزائمهم وعوائدهم وفي سائر مناحيهم.

والفضل الحقيقي في إحداث التحول الثقافي والتغير الاجتماعي يكون لهؤلاء المُهتمين، فالمُلْهِم في أحوال كثيرة يفنى قبل أن يُمَكن لتصوراته أو ترى صورته الذهنية النور، لكن الدور الأساسي الذي يقوم به هو تحرير إرادة المُهتمين من قيود الثقافة القديمة ونزع هيبة التغيير من صدورهم ورسم الطريق الجديدة لهم وربطهم ببعضهم برباط أفكاره الثورية ومدهم بالثقة في قُدرتهم على التغيير وتأهيل نفوسهم على خوض الغمار الصعبة، وعلى قدر ما يملك المُلْهِم من قوة وصدق على قدر ما يستطيع إحداث هذه الآثار في أتباعه، وعلى قدر ما يمتكلون من وضوح في أفكار متبوعهم على قدر ما يستطيعون تحقيق رؤيته.

وفي الجملة فإن هذه العناصر الثلاثة؛ الرؤية، المُلْهِم، المُهتمون، ترتبط بأربعة وظائف مهارية جوهرية هي: الصياغة، الاستقطاب، التنظيم، المواجهة.

ويُمكن تقسيم مرحلة الإحياء إلى مرحلتين رئيسيتين:

المرحلة الأولى: الصدام الاجتماعي:

حيث يستخدم المُلْهِم والمهتمون الذين استجابوا لأفكاره الإحيائية أو توافقوا معه عليها عدة أساليب لنشرها، بعضها اختياري وبعضها اضطراري وبعضها قسري، بحسب اختلاف الجماهير مع المُهتمين وأفكارهم أيدولوجيًا، وبحسب مواقفهم من هذه الأفكار وقبولهم أو رفضهم لها.

فينتج عن ذلك عدة أنواع من الصدامات الاجتماعية التي تختلف في نوعها وقوتها بحسب اختلاف الأساليب المُستخدمة في نشر الأفكار الإحيائية، ابتداءً من الممانعة نتيجة الخوف، وهي أبسط أشكال المقاومة، ورفض التغيير المحض من قِبل الأجيال المُتقدمة في العمر، والرفض العدائي لاختلاف الأيدولوجية، وأخيرًا القمع والمقاومة العنيفة من السُّلطة أو الفصائل القوية في المجتمع.

المرحلة الثانية: التكيُف المُنظم:

وهي الحالة التي يبدأ معها المجتمع بالتكيف مع وسائل المقاومة الجديدة وقبول طريق الخروج من المتاهة البديل، وفي هذه المرحلة تحدث حالة من الإنعاش الاجتماعي، نتيجة زيادة عدد الذين يَقبلون الطريق الجديدة، ويحدث التحول الثقافي، حيث تحل الثقافة الجديدة وعناصرها المُختلفة محل الثقافة القديمة أو الثقافة المُشوهة، وهنا تبدأ مرحلة ثبات جديدة على التحول الثقافي، تُعاد فيها صياغة الأعراف والولاءات والنظرة إلى العالم، ورغم تمتع المجتمع معها بالهدوء النسبي، إلا أنها لا تخلو من التغيرات الثقافية المُتتابعة والتي تستمر لفترات طويلة، لاسيما الاقتصادية والسياسية.

فالعملية الإحيائية التي شهدتها قبائل (البربر) بدأت عندما تولى يحيى بن إبراهيم زعامة قبيلة (جدالة)، وكان مُطاعًا في قومه، معروفًا برجاحة عقله وسداد رأيه، حريصًا على إصلاح قومه، إذ خرج من قريته إلى (القيروان) عازمًا على أن يبحث عن طالب علم يساعده على إحياء روح الإسلام التي غابت معالمها في قبيلته، فقابل شيخ كبير من شيوخ المالكية وهو أبا عمران الفارسي، فاشتكى له انقطاع قومه في الصحراء عن العلم والدين حيث لا يصل إليهم إلا بعض التجار الجهال ممن حرفتهم البيع والشراء، وطلب منه أن يعاونه على تعليم قومه أصول الإسلام الصحيحة بإرسال أحد طلبة العلم النابهين معه، فأرسله أبو عمران إلى تلميذه المُقرب الفقيه المالكي وجاج بن زلو اللمطي، طالبًا منه أن يُرسل معه يثق في دينه وكثرة علمه وسياسته، ليُعلمهم شرائع الإسلام، ويُفقههم في الدين [6].

فعرض الأمر على تلميذه عبدالله بن ياسين ­وكان كثير العلم كثير الترحال في طلبه ­ الذي وافق على الفور ورحل مع يحيى بن إبراهيم، تاركًا خلفه ماله وأهله وإقامته بالمدينة الساحلية إلى قلب الصحراء الموريتانية القاحلة، ليُؤدي دور المُلْهِم في العملية الإحيائية التي شهدتها قبائل (البربر)، حيث أقام في قبيلة (جدالة) أربع سنوات، حاول خلالها تصحيح عقيدة المجتمع، وتغيير عادات الفاسدة، ودعوة أفراده للتخلق بآداب الإسلام وأخلاقه.

ولم يكن للإصلاح الذي أراده يحيى بن إبراهيم وعبدالله بن ياسين لقبائل (البربر) أن يُثمر في إحداث التحول والتغيير دون أن يكون موجه بالأساس للأعيان والأثرياء قبل الفقراء والضعفاء، وكان من لزام ذلك أن دعوة ابن ياسين انصبت في المقام الأول على قِيم المساواة والعدل والرحمة، ونبذ الطبقية والمحسوبية، وتجنب الغش والخيانة والجور والتعسف والاستغلال، وضرورة تكوين أُمة متحدة متماسكة تستمد قوانينها وعاداتها من كتاب الله وسُنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما كان عليه الصحابة والتابعين.

وكان من نتائج ذلك أن اصطدم ابن ياسين بوجهاء وأعيان القبيلة الذين تعارضت مصالحهم مع دعوته، فتعرض للأذى والاضطهاد وانتهى الأمر بتهديدهم له بالقتل، فهَمَّ بالسفر إلى بعض قبائل السودان، غير أن الأمير يحيى رفض ذلك وأشار عليه بفكرة الاعتزال في رباط مجاور يقوم فيه بتنئشة وتربية رجال قادرين على مساندته في إحداث التغير المنشود.

فخرج ابن ياسين بمشورة الأمير يحيى إلى رباط في جزيرة معزولة وانصرف يُربي أتباعه، ويُفقههم في الدين، فالتف حوله الكثيرون، فكوّن من نجباء تلاميذه مجلسًا للشورى، كما شَكّل إدارات متعددة لتقوم بأمور الرباط وشئون المرابطين بعد أن صاروا من الكثرة بمكان، فضلًا عن مدارس علمية متنوعة، وبيت مال تُجمع فيه الصدقات والعشور.

وقد تميَّز الرباط بحسن إدارته وتنظيمه، ولم يقف الأمر عند حد ضبط الرباط وتنظيمه داخليًا، بل بدأ ابن ياسين بتوجيه النابهين من تلاميذه إلى قبائلهم كدعاة، فانقاد لهم القليل من أشراف صنهاجة، ولكن عموم القبائل تمنعت، فعزم ابن ياسين على تقويم الممانعين بالقوة، وإجبارهم على الانقياد له من خلال إعلانه الجهاد، واستطاع بسهولة إجبار الممانعين في قبيلة جدالة، ثم لَمتونة، ثم مسوفة، فانقادوا له وبايعوه، ثم أجابت عموم قبائل صنهاجة، فأرسل فيهم من يعلمهم الدين، ويُفقههم في أحكامه.

وظلت دولة (المرابطين) التي تأسست على أنقاض قبائل (البربر) في اتساع، حتى ضمت عموم قبائل صحراء شمال ووسط أفريقيا، وساعد على انتشار دعوة المرابطين وانقياد الناس لهم: رفع الظُلم عن الناس، وإسقاط المغارم والمكوس والضرائب التي كانت مفروضةً عليهم، وإصلاح أحوالهم الاجتماعية والمعيشية، وتغيير المنكرات التي كانت منتشرة في عاداتهم وتقاليدهم.

على أنه يجب أن يُفهم أن العملية الإحيائية هي عملية متعددة المستويات، تبدأ بالمستوى النفسي الذي يُركز على دور الانهيار في بدء العملية الإحيائية، والمستوى السلوكي الذي يُركز على تأثير الاستجابة في تسريع حدوث التحول، ومن جانب آخر المستوى الإنساني أو الفردي الذي يُركز على تأثير التحول بمراحله المُختلفة على الذات، والمستوى الاجتماعي العام الذي ينظر لعملية التحول من كل الجوانب الاجتماعية.

ـــــــــــ

* نُشر الدراسة في مجلة “كلمة حق”، إستانبول، العدد الثالث، سبتمبر ٢٠١٧م، بعنوان “الحركات الإحيائية: نموذج عبد الله بن ياسين مع قبائل البربر”.

[2] Eiko Takamizawa; Revitalization Movements Theory and Japanese Mission, Torch Trinity Journal, 7 (2004), P. 168.

عاطف أمين وصفي: الثقافة والشخصية (الشخصية ومحدداتها الثقافية)، دار النهضة العربية (بيروت)، الطبعة الأولى 1981م، ص 70.

[3] Anthony Wallace; Religion an Anthropological View, New York, Random House, (1966).

[4] Anthony Wallace; Revitalization Movements, American Anthropologist, 58 (1956), P. 265.

[5] Anthony Wallace; Revitalization Movements, Ibid. P. 266.

[6] ابن عِذراي المراكشي: البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، تحقيق د. إحسان عباس، دار الثقافة (بيروت)، الطبعة الثالثة 1983م، ج 4 ص 7: 8.

Share via
Copy link