وقت القراءة 13 دقيقة
585 عدد المشاهدات

تتفق الرؤية الإسلامية مع الاقتصاد المعاصر في أن السوق هو القوة الدافعة للاقتصاد، لكن الفارق الجوهري في التصور الإسلامي أنه يرى العمل أساس هذه القوة وليس المال، فالمال وإن كان ذا قيمة في الإسلام، إلا أنه لا يصح أن يكون محرِّكًا وموجِّهًا، بل هو تابع للعمل وهذه التبعية تفرض أن يكون محكومًا بالقيم الدينية والأخلاقية المفروضة عليه باعتباره نشاطًا إنسانيًّا، وأي عمران لا يكون هذا مرتكزه؛ فمصيره الفشل، ومهما بدا في المجتمع من تحضر ومدنية فإنه سيكون تحضرًا خادعًا ومدنية زائفة، ففي باطن هذه المدنية المزيفة سيكون الفقر المدقع، وتحت هذا التحضر الخادع سيكون الانحلال الاجتماعي.

والإسلام لا يُهدر قيمة المال، إنما يضعها موضعها الذي تستحقه، بحيث لا تجور على حق ولا تؤدي إلى استبداد الناس وإفسادهم، ولذلك قُيِّد المال بالعديد من الحقوق؛ لنعلم عند كل حق أن المال وسيلة وليس غاية، وتتأكد في النفوس وظيفته الحقيقية، وأنه سبيل للاستخلاف وأداة للعمران؛ فالشريعة بذلك لا تُهدر رأس المال وأيضًا لا تقدسه.

إن التحدي الأكبر الذي يواجهنا اليوم ليس في عالم الأفكار، إنما في كيفية تفاعُل هذه الأفكار في محيطها، إنها مهمة معقدة، كم هو صعب أن تكون صاحب منظومة مُلهِمة في التصورات، مُلهِبة للمشاعر، غنية بالأفكار، ولا تستطيع تفعيلها في الواقع! يحاول هذا الكتاب أن يُبين أين تكمن المشكلة في تفاعل أفكارنا حول الاقتصاد مع الواقع.

كشاف الموضوعات:

مقدمة الكتاب

بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد..

فقال الله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ * وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة البقرة: الآيات ٢٧٥: ٢٨٠].

من أبرز الجوانب التي اعتنت بها الشريعة عنايةً بالغة وضبطتها على أتم وجه؛ المال والعمل، حيث اشتمل القرآن الكريم والسُّنة النبوية على مبادئ وقواعد بنى عليها الفقهاء المسلمون خلفًا عن سلف قوانين وأحكام هي الأكمل والأفضل من حيث الفعالية في تحقيق سعادة البشرية ونهضة الأُمم.

فمن مجموع القواعد التشريعية المتعلقة بالمال والملكية والعمل تشَكل النظام الاقتصادي الإسلامي الذي استطاع الفقهاء من خلاله: الموازنة بين رغبات جميع الأطراف في المعاملات بعدم تغليب رغبة صاحب المال أو صاحب السلعة على رغبة بعضهما أو غيرهما لميزة حيازة المال، ومنع التعسف في استعمال الحق بتقديم درء المفاسد على جلب المنافع إذا ما تعذر الجمع بين درء المفسدة وجلب المصلحة، وحماية الملكيات الخاصة ورعاية المصالح العامة للجماعة في الوقت نفسه، وإذابة الفوارق الطبقية بين الأغنياء والفقراء وبين الأصحاء وذوي الاحتياجات من خلال أدوات خاصة مُتعلقة بالتضامن والتكافل والأُخوة على وجه ملزم للأفراد أحيانًا من خلال مفهوم فرض العين، وللأُمة كلها أحيانًا من خلال مفهوم فرض الكفاية، وإعمار الأرض والحث على العمل بإتقان، وحماية القيم الأخلاقية وتهذيب السلوك ومحاربة المادية الطاغية والاستغلال والاحتكار، وحسن استغلال موارد الأمة وتثميرها، والحزم في مُحاسبة الولاة والموظفين والعمال والتشديد في رقابتهم، وغير ذلك من قواعد ومبادئ مثالية عظيمة لم تكن محض أفكار نظرية علمية، بل تُرجمت إلى واقع ملموس خاصةً في عهد النبوة والخلافة الراشدة.

وهذه الأحكام، كلها، انبثقت عن “حق الإنسان” الحقيقي النابع من الدين، لا السياسي الذي أصبح عليه اليوم فبات خطابًا أيديولوجيًّا صرفًا يقوم على تمليك حقوق الإنسان ويواجه ترتيبات قانونية وأَمنية تسلبه أصالته الاجتماعية، فلا نستغرب أن يُعد الكثيرون حقوق الإنسان ثقافة ضد الدولة، أو مرهونة بالدولة، أو النظر لها بوصفها منظومة مصدرها الثقافة الغربية، وغير ذلك من توصيفات تُحيّد الجانب الديني اللصيق بها الذي لا يعرف لون ولا عرق ولا جنس ويستقي كل قوته من طبيعة الإنسان بوصفه مستخلَفًا في الأرض مُكلفًا بإقامة شرع الله فيها.

لذلك عجز الفكر الغربي عن حل معضلة تأسيس اقتصاد حكيم وعادل بسبب الخيار الأليم: إما ترك الدولة تنهار، وإما التعدي على حق الملكية – “المقدّس” بتعبير جان روسّو Jean J. Rousseau (١٧١٢: ١٧٧٨م) – إذ هو عُمدتها [1]! وهذه هي النتيجة الحتمية حين يتم تحييد الدين من المنظومة الاجتماعية.

وهذا يؤدي بنا إلى تأكيد آخر مهم، وهو أن علم الاقتصاد أحد أهم العلوم الاجتماعية التي ترتبط بالولاءات والمُعتقد، فلا يُمكن فصله عن الاتجاهات الأيديولوجية للباحث فيه أو الممارس له، شأنه شأن التعليم والفلسفة والاجتماع، خلاف العلوم الطبيعية، ولذلك ذهب جوزيف شومبيتر Joseph A. Schumpeter (١٨٨٣: ١٩٥٠م) – وهو أحد أهم من كتبوا في التاريخ الاقتصادي في كتابه (تاريخ التحليل الاقتصادي) – إلى اعتبار علم الاقتصاد من العلوم التي تُشكل رؤية العالم Weltansschauungswissenschaft [2] أي علم يدخل فيه بالضرورة المُعتقد والولاء النهائي للباحث [3]، والأمر نفسه لآرثر سميثز Arthur Smithies (١٩٠٧: ١٩٨١م) الذي ذهب إلى أن أي نظرية اقتصادية لا يمكن أن تخلو من لمسة عقائدية، فلا يمكن الفصل بين التحليل الاقتصادي وبين قيم الباحث والمعطيات السياسية [4]، بل ذهب روبرت هايلبرونر Robert Heilbroner (١٩١٩: ٢٠٠٥م) المؤرخ الاقتصادي الشهير أبعد من ذلك حين قرر أن الاعتبارات القيمية والأحكام المنهجية التي لا يخلو منها تحليل اقتصادي؛ ميزة في علم الاقتصاد وليست عيبًا، حيث تجعله أكثر واقعية، لأن “الحياد” التام في البحوث الاجتماعية موقف غير طبيعي من الناحية النفسية ونوع من النفاق الأخلاقي [5]، فلا غرابة أن يدعو جونار ميردالGunnar Myrdal (١٨٩٨: ١٩٨٧م) إلى إبراز هذه الاعتبارات والأحكام بوضوح وألا تكون مجرد افتراضات خفية أو خيالية [6]!

لقد ارتكز الاقتصاديون التقليديون على جملة من الافتراضات المحملة بالقيم الليبرالية والاشتراكية وغيرها، ولم يُنظر لأفكارهم إلا باعتبارها مساهمات عظيمة غير مسبوقة في العلم، بل وعُدت قوانين للعلم، فلماذا يتردد الباحث المسلم في أن يُعلن عن اعتقاده ومرتكزات تصوره عند النظر للأشياء والوقائع والأفكار، ولماذا يتلمس حلولًا لمشكلاته الاجتماعية بعيدًا عن قيمه؟!

إن التحدي الأكبر الذي يواجه المسلمين ليس في عالم الأفكار، إنما في كيف يمكن أن تتفاعل الأفكار في محيطها؟! إنها مهمة معقدة غاية التعقيد، كم هو صعب أن تكون صاحب منظومة ملهمة في التصورات ملهبة للمشاعر غنية بالأفكار ولا تستطيع تفعيلها في الواقع!

في هذا الكتاب أحاول أن أُبين أين تكمن المشكلة في تفاعل أفكارنا حول الاقتصاد مع الواقع، لعل ذلك يُفيد في معرفة هل نحتاج إلى أسلمة علم الاقتصاد وإعادة صياغته أم إلى ابتكار علم يعكس أصولنا ومبادئنا؟ هل نبحث عن خطاب أيدلوجي أم عن تخصص جديد؟

على أنه من الجدير بالتنبيه أن تسمية “اقتصاد إسلامي” في هذا الكتاب، وما يتفرع عن ذلك من تعبيرات نحو: “صيرفة إسلامية”، و “مصارف إسلامية”، و “سوق إسلامية”، إنما هو مجاراة لما هو شائع من تمييز الأنشطة والكيانات، تبعًا لتميُز المُنطلقات التي انبنت عليها، لا من جهة مُطابقتها للمعيارية الإسلامية المُتعَينة أو النموذج المُحقق للغايات والمقاصد الإسلامية المنشودة في تنمية المال واستثماره من الوجهة الصحيحة.

وهو ما يستلزم ضرورةً التفرقة بين التصور والمُمارسة، بين القاعدة والتطبيق، بين المنظومة والمُؤسسة، لأن صلاحية التصور والقاعدة والمنظومة ثابتة بالنصوص الشرعية والتجربة التاريخية، أما المُمارسة والتطبيق والمُؤسسة فهي لا تخرج عن إطار التجربة البشرية التي تخضع للاختبار والتقييم، وإن ادعت ما ادعت مرجعيتها الدينية، والعامل المُشترك بين جميع العناصر المُتقدمة هو تميز المُنطلقات الكُلية بالقيم الدينية والأخلاقية، فأغلب المُصطلحات والكيانات الاقتصادية المُعاصرة خرجت من رحم الفِكر العلماني بصورتيه الاشتراكية والرأسمالية، وهو مطبوع كليةً بطابع الفلسفة الغربية التي بَنت كل تصوراتها منذ القرن السادس عشر الميلادي على أساس فصل الدين عن الدولة [7].

لذلك يلزم التفرقة بين القواعد الشرعية التي تحكم النظم الاقتصادية، والنظام الاقتصادي الإسلامي الذي هو تركيبة عقلية من وضع وصياغة البشر بناء على فهمهم للقواعد الشرعية، وهو بالضرورة عُرضة للتغيير والتبديل والتعديل بحسب اختلاف فهومهم وتطورها، بينما القواعد ثابتة لا تتغير ولا تتبدل، ولذلك حين نقول “اقتصاد إسلامي” إنما نقصد “إسلامي” مجازًا بحكم المنطلقات التي يفشار إليها عند الكلام عنه، والمصادر التي استمد منها أُسسه ومبادئه المفترضة؛ باعتباره نظامًا مرتبطًا بحقل معرفي – هو الاقتصاد – مُحمَّلًا بقيمه الخاصة علمانية ورأسمالية لا يمكن التحرر من فرضياته، فإن لكل منظومة مصادر تعتمد عليها في فاعليتها في الواقع وتتحدد بناء عليها مساحات الاشتباك والاحتواء والتفاعل، وتلك المحددات يتوافر لها الإلزام مهما كان نوع الإلزام ودرجته.

ومن المفارقات الغريبة ما ذهب إليه الفرنسي أوليفييه روا Olivier Roy (١٩٤٩: -م) – المعروف بتحيزه ضد الإسلام والتجربة الإسلامية – في كتابه (فشل الإسلام السياسي L’Echec de l’Islam Politique) يُصادر على المسلمين، أو على حد تعبيره “الإسلاميين”؛ استخدام مصطلح “اقتصاد” وتوظيفه في علاقاتهم بالمال، باعتباره مقولة معزولة ومحددة بالحداثة الغربية، ثم هو يُقر قبلها بأسطر قليلة في الكتاب نفسه بأن “الفعل الاقتصادي ليس سوى وجه من وجوه النشاط البشري عامةً، وهو بصفته هذه يخضع للشريعة التي تُبرز عددًا من المفاهيم ذات الانعاكاسات الاقتصادية” [8]!

وخُلاصة هذا الموضوع، أنني في هذا الكتاب لن أُناقش قضية قيمة مصطلح “الاقتصاد” وإمكانية توظيفه في الدرس الإسلامي، باعتبارها قضية جدلية أعلم بُعدها جيدًا، لكني مضطر إلى تجاوزها لضرورة إمكان تكوين الوعي الكافي بموضوعات هذا الكتاب، ذلك أن هذه الجدلية المفاهيمية كانت الصخرة التي تكسرت عليها كل محاولات مناقشة الإجراءات مناقشة واعية، بإيجابياتها وسلبياتها، وما أُؤمن به أن مناقشة الإجراءات وتكوين وعي بها هو الذي يمكن أن يصحح مسار المفاهيم ومسار العلم.

على أن هذا الكتاب لا يعني بعرض الأحكام الفقهية أو مناقشتها، وإن حدث ذلك فهو من قبيل ما لا يتم الواجب إلا به، إنما يعني الكتاب بالأساس استظهار تاريخ الفكرة الاقتصادية من المنظور الإسلامي على مستوى المفاهيم وعلى مستوى الإجراءات، والبحث في فلسفتها من خلال البحث عن إجابة سؤالي: لماذا؟ وكيف؟

وفي سبيل ذلك فقد قُسم هذا الكتاب إلى جزءين، نظري وإجرائي، ففي الفصول الثلاثة الأولى منه يُركز على الجانب النظري، حيث يهتم بمصادر التنظير الإسلامي في الفكر الاقتصادي، من حيث المساهمة الحضارية الإسلامية في الفكر المالي، والمميزات العامة للتناول التراثي للأفكار الاقتصادية، وكيف تفاعل الفكر العربي الحديث مع الموروث الإسلامي وتأثير هذا التفاعل في الانحسار في الأفكار وإفقار منظومة الأفكار التراثية وتشويه المفاهيم والتعسف في تنزيل المصطلحات وفهمها، قبل أن يعرض الكتاب أهم أُسس الاقتصاد في الإسلام العقدية والأخلاقية، وتأثيرها في الفرد والجماعة وفي تحول الواقع وقابلية الاجتهاد والنظر، ذلك أن فلاسفة الاقتصاد يعتبرونه علمًا استنتاجيًّا حياديًّا، أي يُستنتج من الواقع، محايد بين الغايات حر من الأحكام القيمية، بينما في التصور الإسلامي يُعد الفكر المالي توجيهيًّا قيميًّا.

كما يحاول الكتاب الإجابة عن بعض الأسئلة المهمة حول لماذا لم يتطور الدرس الاقتصادي في الدولة الإسلامية؟ ولماذا لم تحدث ثورة صناعية في التجربة الإسلامية؟! وما أساس مشكلة الندرة: إشباع الحاجات أم الرغبات؟ وهل يوجد شح أصلًا في الموارد؟! وأيهما أقدر على إشباع الحاجات: الإسلام أم الرأسمالية؟

كما يهتم الكتاب بموضوع الحاجات وسلب الرأسمالية حق المجتمع في الأفكار، وكيف ينظر الإسلام لهذه القضية؟ ولقضية التنمية؟ وعلاقتها بالإنسان والعمران، وهل يمكن الاستفادة من بنية التزكية في الإسلام من خلال السلوك الاقتصادي؟ ويبحث مسألة التوظيف السياسي الشرعي للموارد، ومصادر الثروة والدولة الإسلامية فيما يمكن تسميته بـ “نموذج الدولة الراعية”، ومسألة الدينار الذهبي في النظام الإسلامي وفرص عودته، وفلسفتي الوقف وإعادة توزيع الثروة في التصور الإسلامي مع مقارنة بنظام الدولة الحديثة، ونقد مفهوم العدالة الاجتماعية وعلاقتها بالأفكار الاشتراكية، فبينما تذهب النظم المعاصرة لحل مشكلة التفاوت المفرط في الثروات بافتكاك الأملاك من أصحابها؛ تذهب الشريعة لتحجيم هذا التفاوت – لا تحرمه أو تمنعه، لكنها تحجمه – من خلال إضعاف الرغبة في تكديسها عبر مفاهيم العطاء والإيثار والزهد وذم الحرص على الدنيا ونحو ذلك، وهي المفاهيم التي لا يعرف الاقتصاد التقيليدي بشتى مذاهبه لها سبيلًا.

بينما يركز الكتاب في الفصلين الأخيرين منه على الجانب الإجرائي في الاقتصاد، عبر منظومتين هما الأكبر في عالم الاقتصاد اليوم: البنوك مع التركيز على المصارف الإسلامية [9]، والأسواق المالية بالتركيز على مُؤشّراتها الإسلامية [10]، ذلك أن هاتين المنظومتين جوهر قوة “التمويل” وسطوته على الاقتصاد، وقد استبطن عرضهما نقدًا من الداخل بإيضاح الموقف الإسلامي من الإجراءات وما ينبغي أن تكون عليه في حال طُبقت الشريعة من خلال الإجابة عن سؤال المشروعية، يسبق ذلك استعراض للسياق التاريخي لنشأة المصارف الإسلامية وخصائصها ومعوقاتها، وكذلك نشأة سوق المال ومُؤشّراتها، وآلية البناء والأثر لنر كيف أن التقلبات والمجازفة هي أهم خصائصها، تمهيدًا للإجابة عن سؤال كيف نظر الغرب لفكرة “الإسلامية” في المنظومتين؟ وكيف تم إفراغ هذه الفكرة من مضمونها عبر ما يمكن تسميته بـ “أسلمة الرأسمالية”.

والله أسأل أن يوفقني لإتمام هذا العمل على الوجه الذي يحبه ويرضاه.

———-

[1] جان جاك روسو: مقالات في الفنون والعلوم وفي الاقتصاد السياسي وفي أصل اللغات، ترجمة: جلال الدين سعيد ومحمد محجوب، مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث (بيروت)، الطبعة الثانية ٢٠١٧م، ص ٧١.

[2] تعبير ألماني، وغالبًا ما يُقابل في الثقافة العربية المعاصرة بـ “الأيديولوجيا” الذي يعتبر أكثر حيوية وإجرائية من الأول، مع بعض الفروق الجوهرية، حيث يعبر الأول عن مفهوم أكثر شمولية وأقل تأثيرًا من الثاني، والمقصود أن هذه الرؤية للعالم تتشكل من خلال الأفكار الفلسفية في بعض العلوم ومنها الاقتصاد.

[3] لأنه يعكس أُسس الفرد ومنظوره، ولذلك يرى بعض المفكرين الغربيين مثل: سيرج براديف، وفالتر شوبرت، وغيرهما، وتبعهما من المسلمين مالك بن نبي (١٩٠٥: ١٩٧٣م) وغيره، أن التمسك بالمنهج الاشتراكي إنما يرجع في حقيقته للتمسك بالفكرة الماركسية كعقيدة، ودون النظر في نتائج وتوقعات الفتور التي تعتري هذه العقيدة وتجعلها غير قادرة في الميدان الاقتصادي على تعويض أو تغطية سلبيات النظرية الاقتصادية الماركسية.

[4] Smithies, Arthur.; Economics and public policy, Brookings Institution, 1954, p.2.

[5] يستدل هايلبرونر على فكرته باستدلال بديع للغاية حول فرضية التعظيم أو التكثير Maximization المعروفة حول الربح والمنفعة وغيرها من الوحدات الاقتصادية، فيقول بأن هذه الفرضية في ذاتها حكم قيمي!

Heilbroner, Robert.; Economics as A “Value-Free” Science, Social Research, Spring 1973, Vol. 40, No. 1, The Johns Hopkins University Press, p. 137: 140, 148.

[6] ويُقرر أنه لا يمكن لأي بحث اجتماعي أن يكون محايدًا، وبهذا المعنى يكون ببساطة “واقعيًا” و”موضوعيًا”، فقيمنا لا تحدد استنتاجات سياستنا فحسب، بل تحدد جميع مساعينا لإثبات الحقائق، بدءًا من أساليب البحث وحتى عرض نتائجنا، فالقيم والأحكام المسبقة هي التي وجهت البحث الاقتصادي في الغرب، وكان ذلك أحد ضمانات عقلانية العلم وثوريته، ولم يكن من قبيل التحيزات الممنوعة، لأن من سمات التحيز ألا يُدركها الباحث وألا يُسيطر عليها.

Myrdal, Gunnar.; Against the Stream: Critical Essays on Economics, Palgrave Macmillan, 1973, p. 54: 64.

[7] وما ذُكر في شأن الاقتصاد الإسلامي وما تفرع عنه من مُصطلحات وكيانات، يصدق في شأن علوم الاجتماع والنفس والسياسة والقانون، وغيرها من العلوم الإنسانية والاجتماعية، ومعلوم مدى تأثير المُصطلح في الممارسة لما له من الدلالة المفاهيمية الأولية، وباعتباره أحد مكونات المنهج الذي هو مُقدمة ضرورية لأي تطبيق ولكل تعبير عن الذات أثناء التفاعل مع الواقع، ولعل هذا مما يُساهم بشكل أو آخر في حل إشكالية المُصطلح المُثارة دومًا عند الحديث عن أسلمة العلوم.

[8] أوليفييه روا: تجربة الإسلام السياسي، ترجمة: نصير مروّة، دار الساقي (بيروت)، الطبعة الثانية ٢٠١٦م، ص ١٢٧، ١٢٨.

[9] وهو أوسع مما تناولتُه في كتابي (قانون المصارف الإسلامية: ضرورة شرعية ورؤية مستقبلية) الذي طبعته دار السلام قبل عشر سنوات، فقد طوّرتُ كثيرًا من الأفكار حول هذا الموضوع وأعدتُ تناولها في هذا الكتاب، وقد صدر الكتاب الأول في أعقاب ثورة يناير المصرية، إذ كان ثمة تفكير ومحاولات لتطوير النظام المصرفي والمصرفية الإسلامية، لكنها باءت بالفشل ولم تسر على النحو المأمول، فهذا الكتاب يُغني عن سابقه ولا يُغني سابقه عنه.

[10] وهو في أصله، رسالتي لنيل درجة الماجستير في الاقتصاد الإسلامي من المعهد العالي للدراسات الإسلامية بالقاهرة في عام ٢٠١٦م، وهي أول رسالة علمية نوقشت في شعبة “البنوك الإسلامية” بعد إنشائها في المعهد بنحو عامين.

Share via
Copy link