وقت القراءة 2 دقيقة
140 عدد المشاهدات
من الأحاديث العظيمة للنبي صلى الله عليه وسلم: “من قال هَلك الناس؛ فهو أهلَكُهُم”، أو “أهلَكَهُم”.. أي هو أشدهم هلاكًا، أو هو أوقعهم في الهلاك!
ذَم النبي صلى الله عليه وسلم تقبيح الناس؛ لأن من اليأس من رحمة الله؛ صد الناس عن الرجوع إليه.. ولأنه لا يعلم أحد سر الله في خلقه، فلا يزال في الزوايا خبايا وفي الناس بقايا، وفي غمار الناس من هو على خلاف ما عليه أكثرهم!
قال الله تعالى: “ولولا دفعُ الله الناس بعضهُم ببعض لفسدت الأرض”.. وقال: “فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول”..
ليس مجرد رد أو معارضة أو إقصاء أو صرف أو حث.. إنما “تنازع” يعني في خضم شد وجذب.. وفي تعبير “دفع” إشارة لقوة هذا الشد والجذب وعنفه أو بتعبير ابن عاشور: “لتكوين الله وإيداعه قوةَ الدفع وبواعثه في الدافع”؛ وهذا لا يكون إلا في خضم حدث كبير أو ملحمي في العادة!
والنتيجة الحتمية لهذا الدفع وأمارة نجاحه؛ عدم فساد الأرض كما صرحت الآية، وهذا غير مختص بالحروب، بل ينطبق على كل دفع للشرور في الدين أو الدنيا كما قال الرازي، لذلك كان سنة من سنن الله الكونية، وقد امتن الله على عباده بهذا الدفع بقوله في نهاية الآية: “ولكن الله ذو فضل على العالمين”.
فأي حدث مهما بلغ تأثيره؛ هل يمكن أن يكون أعظم من يوم أُحد أو حادثة الإفك مثلًا؟!
بالطبع لا، ومع ذلك تنازع فيهما الصحابة واختلفوا، وكان ثمة من أخطأ في التقدير، ولم يحسم النبي صلى الله عليه وسلم فيهما أمره، وهو من هو؛ إلا حين شاور الصحابة!
هذه طبيعة التغيير.. يتنازع الناس ويختلفون ويعارضون في البداية ثم يستقيم لهم أمرهم، ولا يظهر الحق إلا بتنازع ولا يستقيم الدين إلا بتدافع.. فكل تطرف يقابله تطرف مقابل؛ هذه قاعدة اجتماعية مفروغ منها، فيلزم بيان الحق كضرورة اجتماعية / دينية، الأحداث المؤثرة حصلت من قبل وستحدث، وحصل ما هو أعظم منها وسيحدث؛ من الطبيعي أن يحدث تنازع بين الناس، بل هذا التنازع هو ما يحفظ دين الناس، فالاجتماع البشري مُفضي إلى المنازعة، والمنازعة مُفضية إلى الخصومة، قال الرازي: “فلا بد في الحكمة الإلهية من وضع شريعة بين الخلق لتكون قاطعة للخصومات والمنازعات”.
بمرور الوقت، بتكرار الصدمات، بإعادة الكلام عند المحكات، مرة بعد مرة؛ تتغير الناس وتتعلم وتستجيب.. وفي المثل الشعبي: “الزن على الودن أمر من السحر”!
دعوة الناس في خضم التجارب المتكررة هو ما يصنع اتفاقهم أو تقاربهم حول أفكارهم المهمة، لا التنظير في الأوقات العادية، لأن المشاعر ملهبة للأفكار محفزة للمُحاجَّة..
التجارب هي التي تحدد أُطر أفكارنا الحقيقية ومرتكزاتها.. مرة بعد مرة الناس ستفهم، ومن كان معاندًا أول مرة؛ سيتردد في المرة التالية، ومن كان مترددًا سيحسم أمره في القادم، ومن كان حاسمًا لأمره سيقف في صف الداعين للفكرة!
هكذا تتشكل الأفكار الكبرى في الناس، وتتحول الفكرة من فكرة بسيطة لفكرة مركزية، ويتحول السلوك الفردي لعادة، والعادة تتحول لعرف.. فنقترب لأقرب محطة نستطيع الوصول لها في “التجربة النموذجية” التي سماها المسيري “اللحظة النماذجية” التي تحقق لنا فيها التصور المنشود الذي نبحث عنه؛ وهو في ذهن الناس “عهد النبوة”.. لا ذات عهد النبوة بالطبع لكن أقرب محطة لها مهما كانت بعيدة عنه.