لا أُبالغ إن قلت إن ابن تيمية كان نعمةً للناس وبركة لحياتهم وعافية.. التيسير الذي أوجده ابن تيمية في حياة الناس والتّخفيف عليهم؛ من الصعب فعلًا تصوره.. لك أن تعلم أنه هو من أفتى: باعتبار طلاق الثلاث بلفظ واحد طلقة واحدة ولو فرقت، اعتبار اليمين مُكفرة لمن حلف بالطلاق، قصر الصلاة في كل ما يُسمى سفر، عدم اشتراط الوضوء لسجود التلاوة، صحة صوم من أكل في رمضان معتقدًا أنه ليل فبان أنه نهار ولا قضاء عليه كالناسي، كفاية السعي الواحد للمتمتع في الحج، جواز طواف الحائض إذا لم يكن لها الطواف طاهرة وخشيت فوات رفقتها، جواز بيع الحلي بالفضة متفاضلًا والزائد في مقابلة صنعتها، جواز الوضوء بكل ما يسمى ماء، جواز عقد الرداء في الإحرام، عدم نجاسة المائع، وإن كان قليلًا؛ إذا خالطته النجاسة ولم يتغير، جواز تيمم من خاف فوات الجمعة أو العيد، عدم اعتبار الصفرة والكدرة من الحيض.
وكثير من هذه الفتاوى وغيرها؛ هي ما عليه جماهير الناس اليوم، فضلًا عن شيوخهم ودور الإفتاء، وقد خالف فيها ابن تيمية الأئمة الأربعة وفقهاء عصره وأُذي بسبب بعضها! هذا الذي يتهمونه بالتّشدد والغلو والتطرف؛ لم يبالِ بمخالفة جماهير العلماء في زمانه، للتّخفيف عن الناس في عشرات المسائلِ طالما تأيّد رأيه بالأدلة الشرعية!
أما حجم ترسيخ ابن تيمية لمقاومة الاستبداد في نفوس الناس، وانتصاره للأُمة على حساب السُّلطة وأعداء الأُمة، ورفض شرعنة الظلم والفساد؛ فحدث ولا حرج، والله يحار فيه كل عاقل منصف، من ذلك: صدعه بالحق في الأُمراء وولاة المسلمين الذين دانوا لغازان ملك التتار وأعلنوا الطاعة له، وتحريضه عليهم ونزعه وجوب الطاعة لهم، وجهاده بنفسه ضد التتار وغيرهم من المرتزقة، وفعله أنواع الخير في الجهاد من إنفاق الأموال، وإطعام الطعام، وفك الأسارى، ودفن الموتى.
وخروجه لمصر واستنصاره بالسلطان وعلماء المسلمين لنصرة الشام، وتحفيزه لهم وشحذ هممهم في رد التتار، وقد حلف للأمراء والناس: “إنكم في هذه الكَرة منصورون”، قالوا له: “قل إن شاء الله”، فيقول: “إن شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا”، وقد كان! فكان سببًا في خروج التتار ورفع الكرب عن المسلمين! فضلًا عن أمره أُمراء المسلمين وولاتهم بالمعروف ونهيه لهم عن المنكر مرارًا وتكرارًا، بلا أدنى مواربة، ليس في الأمور التعبدية فقط كما يُشاع، بل أيضًا فيمن قطعوا الطريق وسرقوا أموال المسلمين وأفسدوا في الأرض، من المجرمين والباطنية والنصارى وغيرهم.
هذه فقط بعض مواقفه، وغيرها وفيها؛ من التفصيل الشيء العجيب! وأكاد أجزم أنه أكثر من تكلم من السلف في عصمة دماءِ المسلمين وأموالهم وعاقبة الظالمين.
فلا عجب أن تجد مجموع فتاواه هو أشهر ما جُمع في الفتاوى لعالِمٍ وأروجها في الناس وأكثرها قبولًا واعتناءً، وأن تجد كتبه أكثرها رسائل معنونة بالأماكن والفِرق.. فإنه لم يُردها مطولات وشروح للتنظير والتدارس والتعلم، إنما كانت رسائل وفتاوى بثها طوال حياته لتوجيه الناس وإصلاحهم وأمرهم بالخير، باختصار كانت نتائج تفاعله مع الواقع.
وكل هذا خلاف شأنه في العلم؛ فقه وأُصول وعقيدة وسلوك وتفسير وسياسة شرعية، كَتب وحَرر وحقق ودرَّس وعلَّم وربى، وانتفع به ما لا يمكن عده وحصره، وأي منزلة لهذا الذي يجتمع له من التلاميذ: ابن القيم وابن كثير والذهبي وابن رجب وابن مفلح وابن عبد الهادي والبزار والبرزالي والعلائي وابن سيد الناس، وغيرهم من رءوس العلم وأئمته.
وأما من فَجر في خصومته؛ فإما من المتعصبين المخالفين له في الاعتقاد ممن غاظهم رده عليهم وطول نَفَسه في ذلك، أو مرتزقة الحكومات ممن يأرق مضاجعهم كلامه في ظلم العباد ومقاومة الظالمين ومآلهم ووعيد الله عز وجل الشديد لهم.. وإذا أراد الله نشر فضيلة طُويت أتاح لها لسان حسودِ!
والله إنه من مفاخر هذه الأُمة، ولو أننا ننصف الناس ونعرف أقدارهم ونحترم العلم كأُمة الغرب، وعندنا شرف تقدير العلماء والاحتفاء بالرموز؛ لكان عندنا الآن جامعات وكليات ومنح باسمه.. رحم الله شيخ الإسلام ورفع قدره في عليين.