وقت القراءة 13 دقيقة
1٬120 عدد المشاهدات

فالفارق الجوهري بين الشرع والقانون، يكمن في أن الأخير لا يعدو أن يكون جزءًا من السلوك الإنساني ­ وهذا مما لا يُجادل فيه أحد ­ ومشكلة النظام الاجتماعي متعلقة بالسلوك الإنساني في الأساس وتكمن في التوفيق بين الغايات الذاتية والغايات غير الذاتية لدى تصادمها وتعارضها، فالإنسان القانوني يسعى لحل مشكلته الاجتماعية بذات السلوك الذي تمخضت عنه المشكلة، وقد يوفق في هذا وقد لا يوفق، لكن التوفيق رهن استمرار الظروف الاجتماعية بنمط واحد، فالقانون لا يُمكن أن تستمر صلاحيته عبر الزمن إلا إذا انتقلت خلفيته الاجتماعية معه عبر الزمن وهذا مما يستحيل، ولذلك فالقانون نفسه الذي قد يصلح في حل مشكلة ما في مكان ما هو ذاته قد يتسبب في إحداث ذات المشكلة في مكان آخر نتيجة تغاير الظرفي المثل الإنجليزي: “القوانين كبيت العنكبوت؛ تقع فيه الحشرات الصغيرة وتعصف به الطيور الكبيرة”!، وهذا هو الفرق الأساسي بين دولة القانون ودولة الشريعة؛ أن الفرد يعلم مسبقًا أن بشرًا مثله هو من صنع القانون؛ فهيبة القانون من هيبة من صنعه، وقيمته من قيمة من وضعه، فإذا كانت هيبته وقوته بسبب أن من يطبقه هو من يحمل السلاح ويمتلك الدبابة؛ فلا مجال للكلام عن احترامه إذا كنت تعرف أو على صلة بمن يحملون السلاح ويمتلكون الدبابة! فالقانون أبدًا لا يملك في ذاته أسباب احترامه، ولذلك تسقط كل مقومات احترامه دائمًا وأبدًا إذا تعطلت أو اختفت كاميرات المراقبة!

أما مقومات احترام الشريعة ففي ذاتها؛ لسبق العلم أنها موضوعة من قوة تعلو كل البشر ولا يصلح معها أي استثناءات أو معارف أو صلات أو وساطات، فالطاعة التي يتمتع بها القانون والتي تدعو الناس للتقيد بها سببها؛ الاحترام المفروض من سلطة لها حق استخدام القوة دائمًا وأبدًا، لكنها كما تحضر؛ تغيب، ومن يملك استخدامها؛ يملك تعطيلها! أما الطاعة التي تتمتع بها الشريعة وتدعو الناس للتقيد بها طوعًا سببها؛ الالتزام المعنوي الذي يجد أساسه في الدين دون حاجة إلى قوة تفرضها إلا في حالة جحدها أو إنكارها أو التمرد عليها، ولذلك كان من أهم آثار الشريعة: حماية الأخلاق وتهذيب النفوس وتطهير الضمائر وتكفير الذنوب...

آخر تحديث: ١٥ أغسطس ٢٠٢٢م

قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا} [سورة النساء: الآيتان 60،61].

لم يكن الله عز وجل ليرتضي لعباده دينًا خاتمًا يبلى بمرور الزمن، فلا يكون قادرًا على حل مشكلاتهم أو يوقعهم في الحرج والمشقة، فقد أنزل تعالى على خاتم رسله شريعة كاملة في العقائد والعبادات والمعاملات كلها، وأمر عباده بطاعتها ولزومها، واعتبر التسليم المطلق بها والانقياد التام لها وسلامة الصدر تجاهها من القلق والاضطراب من شرائط الإيمان، فقال: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [سورة النساء: الآية 65]، وجعل من استنكر أو جحد أو رفض شيئًا معلومًا منها خارجًا عنها، فحقيقة الشريعة كما يقول ابن تيمية: “اتِّباع الرُّسل والدخول تحت طاعتهم، كما أن الخروج عنها خروج عن طاعة الرُّسل، وطاعة الرُّسل هي دين الله الذي أمر بالقتال عليه” [1].

ولو كان المُسلم حُر الإرادة يأخذ منها ما شاء ويترك منها ما شاء؛ لكان إحاطتها بشئون الإنسان كلها ­ في السلم والحرب، في الوفاق والمنازعة، في العبادة والمعاملة ­ ضرب من العبث، فهل تَسُنّ الدول القوانين لحمل الناس عليها أم لتخييرهم في الأخذ بها ­ ولله المثل الأعلى؟!

إن غاية القوانين هي ضبط حياة الأفراد ومعاملاتهم داخل المجتمع في كل وقت، بحيث توازن بين مصالحهم جميعًا وتُحقق حد أدنى من السعادة لكل فرد فيهم، والشرع فضلًا عن سعيه لإضفاء هذه الفاعلية على العلاقات التي يخلفها النظام الاجتماعي من خلال الرقابة عليها أو إبطالها أو ترتيب النتائج عليها، يضمن لهم سعادة أبدية في حياتهم الأخروية.

والفارق الجوهري بين الشرع والقانون، يكمن في أن الأخير لا يعدو أن يكون جزءًا من السلوك الإنساني ­ وهذا مما لا يُجادل فيه أحد ­ ومشكلة النظام الاجتماعي متعلقة بالسلوك الإنساني في الأساس وتكمن في التوفيق بين الغايات الذاتية والغايات غير الذاتية لدى تصادمها وتعارضها، فالإنسان القانوني يسعى لحل مشكلته الاجتماعية بذات السلوك الذي تمخضت عنه المشكلة، وقد يوفق في هذا وقد لا يوفق، لكن التوفيق رهن استمرار الظروف الاجتماعية بنمط واحد، فالقانون لا يُمكن أن تستمر صلاحيته عبر الزمن إلا إذا انتقلت خلفيته الاجتماعية معه عبر الزمن [2]، وهذا مما يستحيل، ولذلك فالقانون نفسه الذي قد يصلح في حل مشكلة ما في مكان ما هو ذاته قد يتسبب في إحداث ذات المشكلة في مكان آخر نتيجة تغاير الظروف الاجتماعية.

أما الشريعة، فلا ينتج عنها مثل هذا التناقض لأنها خارجة في الأصل عن السلوك الإنساني، أو بعبارة أدق: السلوك الإنساني فيها مقيد، فلا يأتيها العجز من بين يديها ولا من خلفها، لأنها شريعة إلهية سماوية ثابتة لا تتبدل ولا تتغير، شريعة دائمة مرنة عامة تتسع لحاجات البشر في كل زمان ومكان مهما تعددت ومهما تنوعت وكيفما تطورت، لأنها من صنع خالق البشر الخبير الحكيم الذي هو صانع العباد ذاتهم وصانع سلوكهم الإنساني، فهو أدرى بهم وبأحوالهم وبما فيه صلاحهم، ولذلك نراها صلُحت لتحكم هذا السلوك وأدت فاعليتها في ضبط العلاقات الإنسانية لما يربو على ألف وثلاثمائة عام، وهو ما لم يتكرر في أي حقبة من حقب التاريخ.

وينتج عن هذا أن نصوص القانون قابلة للإلغاء بطبيعتها، أما نصوص الشرع فهي غير قابلة للإلغاء، وغير قابلة للتجزئة فلا يجوز لمسلم أن يقبل بتطبيق بعضها وأن يترك بعضها، لأن مصالح العباد لا زالت متضاربة، ورغبتهم في ضبطها والموازنة بينها لا تنقطع.

ورغم أنه لا مجال للمقارنة بحال من الأحوال بين ما شرَّعَ الله العليم الحكيم، وما قنن البشر القاصرة عقولهم، المحدودة أفهامهم، المشوبة بتسلط الهوى والشهوة، لا مجال للمقارنةِ بين شرعٍ رباني سماوي محكمٍ ثابتٍ لا يتبدل ولا يتغير، وبين قانونٍ وضعي بشري دائم التبديل والتعديل، ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا.

لكن إدراك المعاني الفارقة بين القانون الوضعي والشرع الآلهي من أهم ما يُمكن أن يُفهم به لماذا وجبت الشريعة ووجب تطبيقها، لا خيار في ذلك لحاكم ولا محكوم، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [سورة الأحزاب: الآية 36]، ولا تَصالح على غير ذلك بين أفراد أي جماعة مسلمة، ومن أنكر وجوبها منهم فقد خرج عن الإسلام جملةً، وإن صلى وزكى وصام وحج وزعم أنه من المسلمين ما زعم.

ولذلك جعل الله من لم يحكم بما أنزل الله كافرًا وظالمًا وفاسقًا كل بحسب اعتقاده في الشرع، وهذا بنص القرآن القاطع الذي لا يحتمل أدنى تأويل، فإما تحاكم لله واتباع لرسوله صلى الله عليه وسلم، وإما تحاكم للهوى واتباع للأهواء، قال تبارك وتعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [سورة القصص: الآية 50]، ومن آمن بالله ليس له أن يُؤمن بغيره، ومن رضي بشرع الله ليس له أن يرضى بحكم ينقض حكمه ولو شرَّعته العوالم المتحضرة أجمع، إذ حكم القاضي وتشريع الهيئة الحاكمة لا يُحلُّ حرامًا، بل لا ولاية لمن عطل أحكام الشريعة أو شرع ما لم يأذن به الله أو استباح المُجمَع على تحريمه بغير سند شرعي، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [سورة النساء: الآية 59]، وقال عز وجل: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [سورة الشورى: الآية 9]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ» [3].

بل إن السياسة العادلة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بتطبيق الشريعة وإقامة نظم الحكم على أصولها، فكما قال شيخ الأزهر محمد الخضر حسين: “الأُمة الحرة هي التي تُساس بقوانين ونُظم تألفها، وتكون على وفق إرادتها أو إرادة جمهورها، فالشعوب الإسلامية لا تبلغ حريتها إلا أن تُساس بقوانين ونُظم يُراعى فيها أصول شريعتها، وكل قوة تَضرب عليها قوانين تخالف مقاصد دينها فهي حكومة مستبدة غير عادلة” [4].

فقانون أي أُمة هو مرآة أحوالها المادية والفكرية والاجتماعية، وإذا كان من المفترض أن يكون القانون هو مصدر سعادة كل مُجتمع ونهضته كما يقول فلاسفة القانون، فإنه لن يكون كذلك إذا لم يُحقق متطلباتهم وآمالهم الثقافية والفكرية والمادية التي تمليها طبيعة بيئتهم الدينية والاجتماعية، بل سيكون وبالًا عليهم، وسيكون مصدرًا لتعاستهم وشقاوتهم لا إسعادهم ونهضتهم، فالتشريع الصحيح وليد روح المجتمع ونتيجة أعرافه وثقافته، فالذاتية الثقافية القانونية متجذرة في السلوك الجمعي للمجتمع الذي تطور من خلال العادة والتقليد وفقًا لقيم المجتمع الأخلاقية والدينية كما يقول رواد المدرسة التاريخية القانونية، إذ كل فرد أسير قيمه ومبادئه الاجتماعية، وهي التي تحدد معايير فضائل المجتمع وأهمها العدالة، وهي أعلى عنده من أي تقنين وتشريع، وما يدفعه إلى احترام أي قانون عادل سوى موافقته لها، ولا يدفعه إلى انتهاك أي قانون ظالم جوره عليها، لذا كانت ضرورة الرجوع إلى الشريعة الإسلامية ضرورة قصوى حتى لا تكون ثمَّة فجوة بين طبيعة تاريخ / واقع الأفراد الاجتماعي وبين القوانين التي تحكمهم.

ولا غرابة في النتيجة المُشار إليها، ففي إطار الأخلاق ذاتها ­ والمفترض أنها مبادئ عامة مثالية مجردة للسلوك الإنساني أعم من الدين ­ يذهب فلاسفة الأخلاق الوضعيون المنطقيون إلى أن السبب في تباين المجتمعات البشرية في السعادة يُعزى إلى الاختلاف في أخلاقها ومن ثمَّ رغباتها ومن ثمَّ معتقداتها، إذ الأخلاق عندهم محاولة لتحقيق الرغبات الجماعية للجماعة وتأكيدها في نفوس الأفراد، وعلى الجانب الآخر هي محاولة الأفراد أن يجعلوا رغباتهم جزء من رغبات الجماعة، فهي عندهم في النهاية محض نزعات فردية وميول جماعية، وكلها ما هي إلا انعكاس للمعتقدات، ومن ثمَّ فالمجتمع الذي يتفق أعضاؤه على مجموعة أكبر من الرغبات من المرجح أن يكون أكثر توافقًا وسعادةً من غيره الذي تتعارض رغبات أفراده، فالمبادئ الأخلاقية في النهاية لا تنفصل عن مصلحة المجتمع وأفراده، وهذه المبادئ تعبر عن الشعور السائد إلى حد كبير في مجتمع معين حيال ما يصب عمومًا في مصلحة أكبر عدد ممكن، لذلك انتهى برتراند راسل Bertrand Russell (١٨٧٢: ١٩٧٠م) أحد أشهر الوضعيين المنطقيين إلى أنه من الحكمة أن يعمل النظام الاجتماعي في كل جماعة على توحيد رغبات أفراده، وتثبيط رغباتهم المتضاربة المتعارضة مع المصلحة الجماعية، عن طريق التعليم والنظم الاجتماعية المصممة لهذه الغاية.

إن فلاسفة القانون يقولون بأن المجتمع يعتمد ولابُد على القانون، وهذا خطأ بلا ريب، فالقانون هو الذي يعتمد على المجتمع، وعليه أن يُعبر عن المصالح والحاجات المشتركة لهذا المجتمع، وليس عن مشيئة فرد أو مجموعة أفراد يَفرضون مصالحهم الخاصة عبر قوانين يُلزمون بها باقي أفراد المجتمع بالقوة، وهذا هو الأساس الذي يستمد منه القانون شرعيته، وهنا تكمن القيمة الحقيقية للشريعة التي تعلو في مصدرها ومبادئها على جميع الأفراد.

في المثل الإنجليزي: “القوانين كبيت العنكبوت؛ تقع فيه الحشرات الصغيرة وتعصف به الطيور الكبيرة”!، وهذا هو الفرق الأساسي بين دولة القانون ودولة الشريعة؛ أن الفرد يعلم مسبقًا أن بشرًا مثله هو من صنع القانون؛ فهيبة القانون من هيبة من صنعه، وقيمته من قيمة من وضعه، فإذا كانت هيبته وقوته بسبب أن من يطبقه هو من يحمل السلاح ويمتلك الدبابة؛ فلا مجال للكلام عن احترامه إذا كنت تعرف أو على صلة بمن يحملون السلاح ويمتلكون الدبابة! فالقانون أبدًا لا يملك في ذاته أسباب احترامه، ولذلك تسقط كل مقومات احترامه دائمًا وأبدًا إذا تعطلت أو اختفت كاميرات المراقبة!

أما مقومات احترام الشريعة ففي ذاتها؛ لسبق العلم أنها موضوعة من قوة تعلو كل البشر ولا يصلح معها أي استثناءات أو معارف أو صلات أو وساطات، فالطاعة التي يتمتع بها القانون والتي تدعو الناس للتقيد بها سببها؛ الاحترام المفروض من سلطة لها حق استخدام القوة دائمًا وأبدًا، لكنها كما تحضر؛ تغيب، ومن يملك استخدامها؛ يملك تعطيلها! أما الطاعة التي تتمتع بها الشريعة وتدعو الناس للتقيد بها طوعًا سببها؛ الالتزام المعنوي الذي يجد أساسه في الدين دون حاجة إلى قوة تفرضها إلا في حالة جحدها أو إنكارها أو التمرد عليها، ولذلك كان من أهم آثار الشريعة: حماية الأخلاق وتهذيب النفوس وتطهير الضمائر وتكفير الذنوب.

ولنفس السبب أيضًا كانت القوة الحقيقية في المجتمع؛ للعلماء الربانيين وليس أرباب السلطة، لأن قوة القوانين اكتسبتها مؤلفات العلماء؛ إذ كان منوط بها تفسير قوانين الشريعة وشرحها؛ ولم يكونوا في حاجة للدخول على السلاطين والحُكام والسعي للحصول على مناصب القضاء والسلطة، لأنها في نظرهم لم تكن لها أي قيمة بل قد تكون وبالًا عليهم لأنها مظنة العصف بقوانين الشريعة، ببساطة: القوانين باقية والسلطة ذاهبة، القوانين دائمة والسلطة مؤقتة.

فالعقول التي مُنحت للبشرية لتقودها لمعرفة ربها وللاهتداء إلى سبُل السعادة التي خطها لها، أصبحت وبالًا عليها حين حادت عن فطرتها الوظيفية، حين جحدت فضل الله تعالى عليها، وأنكرت حكمته، وبطرت حُسن تقديره، وأساءت الظن بتدبيره، فاستعاضت بقوانينه الكاملة قوانينها القاصرة، واستبدلت بشريعته المُحكمة شرائعها المُنحلة، فسبَحت بعجرفتها ضد تيار الفطرة السوية وهي تحسب أنها تُحسن صنعًا، ومضت بغرورها في دروب الانسياق لِبرَك الانحراف الآسِن، فبدلت نعمة الله كُفرًا وأحلَّت بأقوامها دور البوار، وتركها الله عز وجل لزيغها حتى تعلم مآل انقلاب العقول على بارئها، وعاقبة انتكاس فطرتها، لا من جهة العاقبة الدينية أو الأخروية فحسب، بل من جهة العاقبة المادية والمَغَبَّة الدنيوية في المقام الأول، فماذا جنت البشرية من القوانين الوضعية؟!

إن أهم إفرازات الواقع ودلالاته عدم صلاحية العقل البشري لِئن يكون مصدرًا للتشريع، فالتاريخ يُثبت لنا يومًا بعد يوم أن بِنْيَة العقل ضعيفة وَهْنَة يسهُل غشها وخِداعها والاحتيال عليها، إذ يُمكن تزويد جمع من العقول بمعلومات خاطئة معيبة، أو إغوائها بضلالات فاسدة مُنحرفة، فتقع في الخطأ الفاحش بكل سهولة، وتنقاد للضلال البين بلا أدنى مُبالاة !

بل أثبت الواقع أن العقول مع اجتماعها قد تكون غير قادرة على البحث في الأدوات والأساليب والصفات وظواهر الحوادث وهيئات الناس ومظاهرهم، وعلى مقدار ما أَبْدته هذه العقول من براعة في التعامل مع كم الأحداث، فقد أَبْدت في المقابل عجزًا غير محدود في التعامل مع كيفها، وعلى قدر ما كان يُفترض أن تقوم به إذا تعاضدت مع بعضها من تفكير منطقي رشيد، فقد انزلقت في مهاو وحفر التفكير العاطفي الانفعالي والخيالي الوهمي بلا أدنى حكمة أو بصيرة.

ولعل هذا ما يُفسر أن واحدًا مثل إدموند هوسول الفيلسوف الألماني الشهير مؤسس علم الظاهريات بعد أن كتب آلاف الصفحات في فلسفات العقل والمنطق والظاھريات، انطلق يُحذر أوروبا من مخاطر منهجيتها العلمية والفكرية، ويُهاجم العقل مُتسائلًا في محاضرة له عام 1935م: ھل استقال العقل وفقد دوره في الحياة، أم إنه خلافًا لذلك كشف عن وجهه الحقيقي الانتهازي الماكر والنفعي؟!

إن مشكلة القوانين الوضعية ليست في درجة تحضُّرها ورُقيها، فمهما تفاوتت في ذلك ومهما ارتقت، فمصدرها النهائي هو العقل البشري الذي يحول قصوره دون الوصول إلى غاية الكمال التشريعي، لاستحالة خلوه من الهوى.

إن صلاحية أي تشريع تُقرر على أساس صلاحية قيمه ومبادئه وتجانسها مع الواقع، فالسياسة التشريعية الرشيدة يتعين أن تعتمد على عناصر متجانسة مع البيئة التي تضبطها، فإن قامت علي عناصر مُتنافرة معها افتقدت الصلة بين النصوص ومراميها، بحيث لا تكون مؤدية إلى تحقيق الغاية المقصودة منها، باعتبار أن أي تنظيم تشريعي ليس مقصودًا لذاته، وإنما هو مجرد وسيلة لتحقيق أهدافه المتعلقة بضبط الحياة وإسعاد الناس.

وفي هذا الإطار تبرز محاسن الشريعة التي هي من وضع خالق العقول والأهواء عز وجل، الذي هو أعلم بأحوال عباده، وأدرى بما فيه صلاحهم وما إليه عاقبة أمرهم، والتي تفردت عن التقنينات الوضعية بسمات وخصائص تجعلها أجدر بالاتباع وأولى بالتطبيق، إذ لا تتحكم في سنها الآراء، ولا تعبث في وجهتها الأهواء، فلا يوجد فيها أية مبدأ معيب، أو حكم غير مصيب، والحقُ أنه لا مجال للمقارنة بحال من الأحوال بين ما شرَّعَ الله العليم الحكيم، وما قنن البشر القاصرة عقولهم، المحدودة أفهامهم، المشوبة بتسلط الهوى والشهوة، لا مجال للمقارنة بين شرعٍ رباني سماوي مُحكمٍ ثابتٍ لا يتبدل ولا يتغير، وبين قانونٍ وضعي بشري دائم التبديل والتعديل، ومن أحسنُ من الله حُكْمًا لقوم يوقنون.

ــــــــــ

* نُشرت أصل الدراسة في مجلة “كلمة حق”، السنة الأولى، العدد الأول، أغسطس 2017م، وأُعيد تناولها في كتاب: (الشريعة المعجزة) في تتمة: بين الشريعة والقانون.

[1] أحمد بن عبد الحليم بن تيمية: مجموع الفتاوى، تحقيق: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف (المدينة النبوية)، طبعة 1416هـ / 1995م، ج 19 ص 309.

[2] يقول دياس ­ أحد فلاسفة القانون الإنجليز وأشهر أساتذتهم في جامعة كمبريدج: “فقد يكون القانون غير صالح في زمن معين، ولكنه يُعتبر صالحًا في وقت أو زمن آخر، إذا كانت خلفيته الاجتماعية قد انتقلت معه”.

دياس: فلسفة القانون، ترجمة هنري رياض، دار الجيل (بيروت)، الطبعة الأولى 1406هـ / 1886م، ص 83.

[3] صحيح: أخرجه البخاري في صحيحه (7145/الأحكام)، ومُسلم في صحيحه (1840/الإمارة) كلاهما من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

[4] محمد الخضر حسين: نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم، المكتبة السلفية (القاهرة)، 1344هـ، ص 244.

Share via
Copy link