وقت القراءة 20 دقيقة
1٬068 عدد المشاهدات

ابتداءً، نتألمُ لمُصاب إخواننا في فلسطين وأوجاعهم وصبرهم على ما هم فيه وقد تخلت الحكومات عنهم وحالت دون نجدة الأُمة لهم بالنفس قبل المال، وفي الوقت نفسه نعتز بثباتهم وعِزتهم وصمودهم ومقاومتهم ومحوهم عار الأُمة، نسأل الله عز وجل أن يتقبل شهيدهم ويشفي جريحهم وينزل عليهم السكينة وينصرهم ويقيد لهم من جنده من ينصرهم ويستعملنا في نصرتهم ونجدتهم.

وبعد،

في أول يوليو ١٩٩٥م، وكنتُ وقتها في نهاية امتحانات الثانوية العامة في الكويت، وقعت للمسلمين مجزرة عُدت الأعنف في التاريخ الحديث بعد الحرب العالمية الثانية، أكثر من ثمانية آلاف قتيل من المسلمين في “سربرنيتسا” وحدها في حرب البوسنة والهرسك في أقل من أسبوع، طبعًا الأعداد على وجه الدقة اكتشفت لاحقًا بعد الكشف عن مقابر جماعية للمسلمين، مدينة كاملة اغتُصبت نساءها وقُتلن وقُتل أطفالها ورجالها، وقتها البوسنة لم تكن تحارب الصرب وحدهم، بل كانت تحارب في الحقيقة روسيا ومعسكرها الذي كان يدعم الصرب، وبقية العالم الغربي يقف موقف المتفرج على المجازر التي تحدث، بل مجزرة “سربرنيتسا” هذه نفسها وقعت على مرأى ومسمع القوات الهولندية لحفظ السلام ولم تحرك ساكنًا!

ورغم هذا، حشدت هذه الحرب لها من المسلمين ما لا يُتصور، وأحيت في عموم الناس شريعة الجهاد ومنزلة الشهادة على نحو لم يكن يخطر ببال أحد، لقد ثبت المسلمون فيها ثباتًا عجيبًا وكاد النصر يكون حليفهم لولا صلح “دايتون” الذي أجبر الغرب عليه علي عزت بيجوفيتش لما تأكدت قوة المسلمين وصلابتهم وأن الصرب مهزمون لا محالة.

المشهود والغيبي: الجهاد، الشهادة:

يتصور الإنسان أن امتلاكه البصر والسمع وسائر حواسه التي يمتلكها إلى جانب العقل؛ جعل لديه قدرة تامة على السيطرة على الحياة والتحكم في عالمه، فما يُحسه في هذا العالم المشهود هو منتهى أمله وغايته، لكن الحقيقة أن هذا العالم المشهود المحسوس هو جزء ضئيل جدًا من صورة كبرى يُسطير فيها عالم آخر هو “عالم الغيب”!

فكل ما يحدث في العالم المشهود له ما يقابله في في العالم الغيبي، ولأننا لا نُدرك هذا الترتيب المقابل إلا متأخرًا، وقد لا نُدركه في الحياة مطلقًا، رغم معرفتنا له من خلال الدين أو بعبارة أدق رغم إخبار الدين عنه؛ قد يحث الشك في هذا الترتيب والمصير.

لنوضح الفكرة من خلال بعض الأمثلة التي أخبرنا عنها القرآن فيما يخص الجهاد والشهادة باعتبارهما محور الأحداث وموضوع المحاضرة، ثم نسترسل في نتائج هذه الحقيقة:

عالم الشهادة (الحسي)عالم الغيب (الإيماني)
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ

وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}

[سورة البقرة: الآية ٢١٦]

{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا

بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}

[سورة آل عمران: الآية ١٦٩]

{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ

أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}

[سورة البقرة: الآية ٢١٤]

{فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ

فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ}

[سورة المائدة: الآية ٥٢]

بل انظر كيف يوجه القرآن الصحابة أنفسهم لهذه الحقيقة، حين يقول:

{وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ

وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ}

[سورة الأنفال: الآية ٧]

المسلمون خرجوا لقافلة أبي سفيان، فخرجت قريش لحماية القافلة، الله عز وجل وعدهم بالنصر والظفر بأيهما، فقلوب الصحابة كانت تميل للقافلة، لأن عددهم كان قليل ٣١٣ صحابيًا في مواجهة ألف من جيش قريش، لذلك وصفه الله عز وجل بـ “ذات الشوكة”، من الشوك، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم يسأل أصحابه: «أشيروا عليّ أيها الناس»، فتكلم أبو بكر وعمر والمقداد، لكن النبي صلى الله عليه وسلم أصر على سؤاله، فقال سعد بن معاذ قولته المشهورة: “لكأنك تُريدنا يا رسول الله، لقد آمنا بك وصدقناك، فامض بنا لما أردت فو الذي بعثك بالحق؛ إن استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل، إنا لصُبُرٌ عند الحرب، صُدُقٌ عند اللقاء، لعل الله أن يُريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله”.

وقد يكون هذا الترتيب الغيبي؛ نفسي وقلبي، لا مصير وواقع، نفسي وقلبي يهيئ الله عز وجل به الناس ويُمحص به الخلق ويصطفى به المؤمنين، مثلما في قول الله تعالى:

{وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ

إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}

[سورة التوبة: الآيتان ٥٤: ٥٥]

يُعذبهم بالحيرة والقلق وعدم السكينة، فهؤلاء المنافقون لا يُقلقهم ما يحدث للمسلمين، بل تُقلقهم أموالهم وصورتهم وشهرتهم!

{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ

وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}

[سورة التوبة: الآية ٩٣]

فهؤلاء الخوالف لما تقبلت نفوسهم الجُبن والهزيمة النفسية ورضوا بما لا يرضى به عاقل؛ أن يكونوا مع أصحاب الأعذار من النساء والعجزة، فلا اعتبار لهم في صنف الرجال! كان الجزاء من جنس العمل؛ الطبع على القلوب، واستعمل القرآن هذا التعبير في الموضعين نفسهما الذين ورد فيهما ذكر هؤلاء المنافقين؛ {وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [سورة التوبة: الآية ٩٣]، {وطُبع على قلوبهم} [سورة التوبة: الآية ٨٧]، فلا يشعرون بغيرة ولا حمية ولا معنى الإقدام والكرامة فحرموا حتى نعمة العلم والندم والتوبة، وهو غاية الخذلان.

مفهوم “الحقيقة” في الدين: مركزية الإيمان بالغيب:

فالحقيقة في الشريعة لها معنىً مختلف عن الحقيقة عند الماديين والطبيعيين، الحقيقة لها جانب منظور وجانب خفي، فالخلل الحاصل عند الماديين ومن يقيسون الأشياء في الحياة بالمقاييس الدنيوية المحضة؛ يحصل حين لا ترى عالم الغيب أو يضُعف يقينك فيه، فلا ترى الأمور على حقيقتها، كأنك مغبون مغشوش!

ولذلك القرآن حين أراد أن يُعبر عن طبيعة المؤمنين، ماذا قال؟

قال: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [سورة الأحزاب: الآية ٢٣]، فمدحهم باليقين الذي جعلهم لا يُبدلون، فضلًا طبعًا عن مدحهم بالرجولة!

فقوام فكرة “الإيمان بالغيب” ليس محض العلم والتصديق فقط، بل تصديق ماهيته التي جاء بها النص الديني بلا أي طلب حسي ونزع مادي حداثي، لذلك تُركت للإيمان.. فحين يقول الله عز وجل: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [سورة آل عمران: الآية ١٦٩]، فحياتهم في الجنة محققة يتنعمون فيها من لحظة استشهادهم يقينًا.. وحين يقول: {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة آل عمران: الآية ١٣٩] فظهور المؤمنين على أعداء الملة حاصل لا محالة!.. وحين يقول: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الروم: الآية ٤٧]، فمهما صار المؤمن مغلوبًا في بعض الأزمنة فإن دين الله غالب في النهاية ولابُد.. وحين يقول الله عز وجل: {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [سورة الصف: الآية ٨]، فقيام شرع الله واقع بلا أدنى ريب! وهكذا.

ولماذا تُركت الغيبيات للإيمان القلبي والنفسي دون أي طلب حسي؟

لأن الغيبيات محل اختبار السمع والطاعة، فهي تابعة للاستجابة للتوحيد، والإمعان في تعظيم الخالق بالإمعان في التصديق..

فكل نفس تستبطن معبود ما، هو الذي يُملي عليها حركاتها وسكناتها وأفعالها ومشاعرها، فأنت حين تقول: «رضيتُ بالله ربًّا» أي بربوبيته وأنه مالكٌ وسيدٌ وآمرٌ، لا ريب عندي في رحمته وعدله ولُطفه لأن تدبيره وما يجري في عالم الغيب أكبر وأعظم وأرحم وأرحب بكثير مما في العالم المنظور المحسوس، وإذا علمت هذا المعنى؛ علمت لمَّ كان هو ما سيُسأل عنه عند دخوله القبر؟!

فهذا الكلام البسيط في مبناه ومعناه؛ سهل في جريانه على اللسان، لكنه عند محكات هوى النفس وما تميل إليه، وامتحان الاعتقاد والجوارح؛ أصعب ما يكون!

فإن الناس قد تؤمن بألوهية ربهم، لكنهم يسخطون على أقداره وقضائه، إذا خالفت عاطفتهم!

لذلك أُمِرْنا بالأخذ بالأسباب ونُهنيا عن الاعتقاد فيها، وأُمرنا بالجهاد ونُهينا عن اليأس، وحُببت إلينا الشهادة ونُهينا عن استعجال النصر، وأُمِرْنا بالثبات لا أن نُولِّي الأدبار، بل عُد التولي يوم الزحف أحد الكبائر في دين الإسلام!

فهذه المأمورات والمنهيات ترتد في حقيقتها لمفهوم “الحقيقة في الدين”، الذي يتضمن عالم آخر يتعين إنزاله منزلة العالم المشهود من حيث اليقين، بل على الحقيقة عالم الغيب أصدق من عالم الشهادة.

لذلك لاحظ قول الله تعالى: {فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}، بعدها مباشرةً: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ} [سورة الروم: الآيتان ٤٧: ٤٨]، كأنه يقول: أيُعجِز الذي يُرسل الريح وينشرها ويحركها في لمح البصر كيف يشاء؛ هينةً تارة وعتيةً تارة، رحمةً تارة وعذابًا تارة؛ أن ينتقم من المجرمين وينصر المؤمنين؟!

فلستَ وحدكَ المأمور، السماء والأرض والمطر والريح وكل خلق الله تعالى مأمور، وكل ما هو مأمور جُندٌ من جُند الله عز وجل، حتى العبد الفاجر؛ إذا أراد الله أن ينصر دينه به!

إذا تذكرتَ هذا، تذكرتَ أن الله قادر على أن ينصر المؤمنين في لمح البصر، بل أقل من لمح البصر بـ “كن”، قال تعالى: وفي قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [سورة يوسف: الآية 110]، فنصرَهم عند فناء قدرتهم وانتفاء أسبابهم، حتى تُدرك العقول أن إرادة الله فوق كل قانون دنيوي، وحتى تنقطع القلوب عن كل الحبائل والوسائل، فتعلم العقول وتتيقن القلوب من أن الفاعل الحقيقي المُصير بإرادته للكون وقوانينه وأسبابه هو الله، لأن مشيئته تغلب كل المشيئات.

ولذلك حين تتأمل ظاهرة مثل “الفردانية”، والتمحور حول الذات؛ تجدها في الحقيقة ما هي إلا إفراز من إفرازات فساد معنى “الحقيقة” في دواخل النفس، فهذا المشهور والغني الذي يتمحور حول نفسه وينفصل عن الجماعة المؤمنة وهمومها وأوجاعها وانتصاراتها لماذا يفعل ذلك؟!

هذه قضية معادة مكررة، ليست جديدة، والقرآن يخبرنا الإجابة: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [سورة القصص: الآية ٧٨].. فإذا كنتُ كذلك، فهل يحق لأحد أن يحاسبني أو يستغل جهدي وكسبي؛ شهرتي ومالي ومنصبي؟! فهو لا يُبالي بالآخرين أصلًا ولا يمثلون له أي قيمة محركة سوى أن يكونوا في ترسانة أتباعه.

فالذي يقلقه ويؤرقه مصير هذا الكسب وهذه الشهرة، لذلك القرآن يحذرنا من أن ننخدع بهذه الصورة المزيفة، فيقول: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [سورة التوبة: الآية ٥٥].. فهذا الكسب ملأ حياتهم حيرة وقلق حد العذاب!

وهذا يقودنا لنقطة أخرى جوهرية، متعلقة بالسُّنن والحتميات والمصائر في الدين، سأناقشها من خلال مفهوم “الوعي التاريخي”.

الدين والوعي التاريخي: السنن والحتميات والمصير:

إذا سألت أي أحد منكم الآن، ماذا تفهم من هذه العبارة “الوعي التاريخي”، ربما تختلف إجابتنا، ربما لا يفهم البعض المصطلح، لكن بلا شك الجميع سيفهم أنه مفهوم مرتبط بالماضي أو يخص الماضي، وهذا صحيح بمقاييسنا الدنيوية، لكن تأمل القرآن الكريم حين يتكلم عن الزمن وعن تشكيل وعينا بالتاريخ، ماذا يفعل؟!

يتكلم عنه لا بصيغة الماضي فقط، بل أيضًا الحاضر والمستقبل؛

{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة النحل: الآية ١]، {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [سورة الأعراف: الآية ١٢٨]، {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [سورة الأحزاب: الآية ٢٧]، {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} [سورة البقرة: الآية ٨٦].

فالقرآن يطوي الزمن والأحداث ليؤكد حتميات العقيدة الإيمانية ويوضح السنن الإلهية التي لا تقبل الشك ويُبين المصائر التي يُغفل عنها.

فيجعل من هذه الحتميات والسنن والمصائر مجالات عمل وحركة، ولا تظل في الذهن حبيسة حيز الوعود في مجالات زمنية مختلفة.. فيجعل من حتميات: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [سورة الأعراف: الآية ١٢٨]، {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [سورة الصف: الآية ٨]، ويجعل من سُنن: الاستدراج والإملاء والاستبدال والتدافع والأسباب والمداولة، ويجعل من مصائر: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا} [سورة الأعراف: الآية ١٦٨]، {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة آل عمران: الآية ١٣٩]، {فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} [سورة النساء: الآية ١٠٤].

يجعل من كل ذلك وأكثر؛ محكات لاختبار إيمانِ الناس وصبرهم وشعورهم وعملهم.

لذلك كان من أغراض تكثير القصص القرآني؛ تغذية المسلم بالعمق التاريخي لقضيته الإيمانية، بوصفها قضية ضاربة في الجذور، فالمؤمنين الصابرين الصامدين الذين يقاتلون الآن في فلسطين؛ ما هم إلا امتداد للمؤمنين الذين صبروا مع طالوت وحاربوا معه وانتصروا، والمؤمنين الذين حاربوا مع نبينا صلى الله عليه وسلم في بدر وأُحد والأحزاب، والمستضعفين الذين قُصفوا يوم مجزرة مستشفى المعمداني في فلسطين والذين حرقوا في مجزرة التضامن في سوريا؛ ما هم إلا امتداد للمؤمنين الذين حرقوا في الأخدود.

فكل نصرِ المؤمنين منذ الخليقة نصرٌ واحد، وكل نكبةٍ أصابت المؤمنين منذ الخليقة نكبةٌ واحدة.

سُنن الإعداد: قدرة الله، قانون الأسباب:

قد يتصور البعض أن ثمة تعارض بين الاعتقاد في قدرة الله تعالى غير المتناهية وبين قانون الأسباب، فيُعامل الأسباب بوصفها وصفة طبية “روشتة”، وهذا في الحقيقة نوع من التطرف لا يقل عن التطرف المقابل الذي يُهمل الأسباب بالكلية، وهو ما عبر عنه العلماء بقاعدتهم المعروفة: “اتخاذ الأسباب، لا الاعتقاد فيها”.

فالذي سن الأسباب وشرع الأخذ بها عز وجل؛ قادر على خرق الأسباب عند تعارضها مع عهوده الربانية، وربما نصر الله عز وجل أولياءه بأهون الأسباب، لذلك مثلًا نرى موسى عليه السلام يفر مع قومه من فرعون، لكن الله عز وجل يُغرق فرعون وجنوده.

فالمتعين على المسلم الأخذ بالأسباب لا الاعتقاد فيها، لأن اعتقاده الراسخ الذي لا يتزعزع يكون في قدرة الله جل في علاه، لأنه مُنشئ للمسببات (النتائج التي تخلفها الأسباب) وليست الأسباب هي المنشئة لها، إنما الأسباب والمسببات معًا خلقُ الله.

والأخذ بالأسباب إنما هو استجابة لنداء الشرع ليس أكثر، فالأمر بالإعداد لا يُنافي الإقدام إذا وجب، ولا يُعارض طلب الحق ودفع الباطل إذا تعين، نعم نُعد ونكتسب أسباب القوة، لكن دون أن نرضى بالذل والمهانة، فالله عز وجل العزيز ويُحب أن يكون المؤمن عزيزًا، لأن النصر في النهاية ودائمًا وأبدًا من عند الله، وسنته الإلهية: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [سورة محمد: الآية ٧].

لذلك كان النداء الرباني للنبي صلى الله عليه وسلم: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} [سورة النساء: الآية ٨٤]، ولم يكتف بالأمر بالقتال، بل جعل التحريض عليه في ذاته عبادة يُتعبد بها الله عز وجل: {وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ}، ثم بيَّن لماذا؟!

فقال: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا}، فبيَّن أن للذين كفروا بأسًا وأذىً، لكن الله تعالى يكُفه بما يملك كل مسلم في نفسه، حتى لا يستقل أحد نفسه، فمن لم يملك النصرة بالنفس فعليه النصرة بالبيان، فمن أدى الواجب الذي يقدر عليه فقد اهتدى، وما أدق قول ابن القيم رحمه الله في تفسير الآية: “لئلا يتوهم سامع أنه وإن لم يكلف بهم – أي بحملهم على بذل أنفسهم – فإنه يهملهم ويتركهم”!

ولاحظوا هنا لفظة “المؤمنين”، ولم يقل “المسلمين”، فالعادة أن العدد يقوي النفس، لكنه تعالى أراد أن يُذكرنا بأن الإيمان قوةً للنفس تدفع عنها وهم استشعار الضعف أمام بأس عدوها.

وهنا نأتي لنقطة أخرى مهمة، هي الاستضعاف والاستخفاف كأهم عوامل الهزيمة والفشل.

لماذا لا يُمكّن لنا؟: الاستضعاف والاستخفاف:

على الرغم من أن المستضعفين يقفون على طرف نقيض من المستكبرين، لكن في الحقيقة هما – في الغالب – نتاج خلل معايري واحد لموقع الذات الإنسانية ضمن محيطها الاجتماعي، فكما أن تضخم الشعور بالقيمة عند المستكبرين هو أكثر ما يحملهم على استضعاف واحتقار الخلق؛ كذلك تضخم الشعور بالضعف عند كثير من المستضعفين هو الذي يحملهم على تقبل الهوان بتعاملهم مع من اعتقد فيهم ذلك؛ كما لو أنهم ضعفاء فعلًا لا يملكون سبيلا!

تأمل قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [سورة النساء: الآية ٩٧].. فكان الأصل في جزاء من ادعى الاستضعاف أنه من جزاء المستكبرين.. لأنه وضع نفسه في خانة المستضعفين والأجدر ألا يكون كذلك، ولأنه قبل الذل والهوان ورضي بالعجز والانكسار، والأهم أنه كان سببًا رئيسيًا في استكبار من استكبر بدلًا من مقاومته وقهره!

فكما أن الاستكبار تشبع بمشاعر وأحاسيس من الفردانية والإعجاب بالنفس والفوقية، كما قال إبليس لرب العزة: {أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} [سورة الزخرف: الآية ٥٢]؛ فكذلك الاستضعاف قد يكون تشبع بمشاعر أخرى من الدونية والاستخفاف بالنفس وعدم تقديرها، فهذه المشاعر تساهم في انحراف المعايير.. فالاستكبار والاستضعاف المتوهم كلاهما امتلاء نفسي أو شعوري بقيم خادعة.

وقرين الاستضعاف؛ الاستخفاف، حيث لا يُعبء بالناس لأنهم بلا قيمة ولا جدوى.

والاستخفاف يجد مرتكزه في أمرين: وعي وفعل، فحيث يُعاد تشكيل الوعي وتفريغه واستبداله بوعي آخر صوري ومتوهم؛ تتغير القيم وتنحرف بوصلة الفعل، فتصير التبعية والفردانية والاستهلاك والترف والفسق؛ محركات النفس وبواعثها، {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [سورة الزخرف: الآية ٥٤]، فتتعطل الطاقات وتضمر القوى، الحالة التي عبر عنها علي شريعتي بـ “الاستحمار” في كتابه (النباهة والاستحمار) وسماها مالك بن نبي “القابلية للاستعمار”!

ولذلك لا نكون مبالغين إذا قلنا أن أهم ما قدمه الجهاد الفلسطيني للأُمة، أنه أعاد تشكيل وعيها بقضاياها الأساسية وشرائع دينها؛ الجهاد، الشهادة، الثبات، الأخوة، العزة، النصر، فهم كتاب الله عز وجل وعهوده الربانية، إعادة ترتيب أولوياتها وإعادة النظر في قدواتها وقدراتها، وقبل كل ذلك؛ قيمة شرع الله عز وجل وكيف أنه الميزان الذي ينصلح به حال البشر ويحفط الله عز وجل به الأرض.

مركزية المحبة والولاء والنصرة: الشعور والاعتقاد والاصطفاف:

أمس قلتُ البعض يعتقد أن الابتلاء حين ينزل ببعض المسلمين فإنه يكون محصورًا فيهم، وهذا خطأ، بل هذا ابتلاء يعم جميع المؤمنين، الذين نزل بهم المُصاب وغيرهم، وامتحان من لم ينزل بهم المصاب ربما فاق في الحقيقة امتحان من نزلت بهم المصيبة في الثبات فيه والصبر عليه.. فلا تعتقد أن إخوانك المستضعفين في فلسطين هم وحدهم المبتلون، بل أنت أيضًا مبتلى، مبتلى في عقيدتك ابتداءً ثم في شعورك نحوهم ثم في رد فعلك تجاههم.

وهو مقتضى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ إِذَا اشْتَكِي عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى»، فالتداعي: سريان، كأنهم نادوا على بعضهم وتسابقوا بينهم على شيء، والسهر متعلق بقلق النفس، والحمى متعلقة بألم الجسد، فتوافقت نفوسهم في الشعور كما توافقت أجسادهم في المصاب.

وتأمل قول الله تعالى: {أذِلَّةٍ على المؤمنين}، يعني غاية الرحمة والشفقة.. وانظر كيف أن أحد أوصاف أهل الضلال في القرآن؛ “الغافلون” ومنه أشبهوا البهائم، في قول الله تعالي: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [سورة الأعراف: الآية ١٧٩]، قال الطاهر بن عاشور: “والغفلةُ عدم الشعورِ بما يحِقُّ الشعورُ به”!

وكيف أن النداء في غالب القرآن يكون بـ “أيها الذين آمنوا”، أو ينتهي بـ “المؤمنون”، “المؤمنين”!، لماذا؟!

للتأكيد على فكرة اصطفاف المؤمنين وأهميته في تحقيق عبودية الأفراد، ويكأن تحقق العبودية والطاعة وكمال دين الفرد؛ مرتكزه الجماعة المؤمنة!

ومنه تُدرك أن مساندة أهل فلسطين وبذل النفس والمال والقلب لهم ما استطعنا؛ قضية تعبدية، اهتمامنا بها ليس مجرد مواساة أو شفقة أو تعاطف مع مظلوم، إنما بالأساس “عبادة” نؤديها لله عز وجل.. ‏قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}.. وجعل هذا الولاء موجبًا للرحمة، كما قال في نهاية الآية نفسها: {أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [سورة التوبة: الآية ٧١].. ‏وفي صحيح مسلم: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذُله».. فلا يكون هو سببًا في ظلمه ولا يتخلى عنه ويترك نصرته إذا ظُلم!

‏هذا تكليف مرتكزه الإيمان والولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، ‏واستحضار معاني التحرر والمظلومية ونحو ذلك مهما كان جدواه ومهما بلغ أهميته؛ لا يوازي حضور المعنى الديني التعبدي في هذه القضية الشريفة.

فهذه الثلاثية: الاعتقاد والشعور والاصطفاف على نهج واحد، وتُمثلها في الواقع: الولاء والمحبة والنصر، تعود الجماعة المؤمنة إلى فضائها الذي ينبغي أن تكون عليه، بعد أن أخرجها الاستضعاف والاستخفاف من موقعها الأصيل إلى مواقع مغايرة مصطنعة وهجينة.

والحقيقة أن مصطلح الاصطفاف مصطلح جامع لكل أنواع النصرة، فالاصطفاف المتوجب؛ اصطفاف في الولاء والبراء، اصطفاف في العزة والألم والشعور، اصطفاف في الأولويات والواجبات، اصطفاف في المفاصلة مع أعداء الأُمة الذين نراهم الآن يساندون هذا الكيان المجرم الغاصب، فالمقاطعة ليست مقاطعة منتجات وخدمات فحسب، بل مقاطعة قيم وشعارات وأيضًا، مفاصلة كبرى أكبر من أن تُحد في منتجات وماديات.

ولا تتصور أنك معني بهذا فقط، بل معني بالبيان والبلاغ بذلك أيضًا غاية ما تملك.

زيف القيم الغربية ووهم القانون الدولي:

كل ما تقدم، نستطيع أن نضع له عنوانًا كبيرًا هو {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [سورة آل عمران: الآية ١٣٨]، وبغير هذا الطريق الذي خطه الشرع للتحرر وإقامة دين الله تعالى في الأرض محكوم عليه بالفشل.

فأي استجداء للغرب بتطبيق قانون دولي أو قانون دولي إنساني، أو محاكمة مجرمي هذا الكيان المحتل كمجرمي حرب أو نحو ذلك؛ عبث!

لو أن هذا عالم عادل ويحترم القانون حقًا لحوكم بوش عن مجازر أفغانستان والعراق، أو بشار عن مجازر سوريا!

أي جهد لا يصب في توحيد صف المؤمنين وتقويته وتثبيته وتحريضه على المقاومة بكل أشكالها؛ تثبيط لعزيمة المسلمين.

يقول د. عبد الرزاق السنهوري – القانوني الأشهر الذي ضُرب بأحذية أعضاء الحزب الاشتراكي في قلب مجلس الدولة قبل أن يعتزل الناس والحياة – في مذكراته الشخصية؛ “أُفكر في القوة وتأثيرها في هذا العالم الذي لا يفوز فيه إلا القوي، القوة هي كل شيء، عبثًا نقول “قوة القانون” “احترام العهود” “ارتباط الأمم”، هذه أسماء ابتدعها أقوياء العقول والأجسام ليسخروا بها من الضعفاء والمظلومين، ليس للضعيف إلا دواء واحد وهو أن يتقوى.. في هذا العالم المضطرب النواحي الفسيح الأرجاء لا يستطيع الإنسان أن يعيش إلا خادمًا أو مخدومًا، فاختر أي الرجلين تُريد أن تكون”!

فالقانون الدولي ما هو إلا كذبة كبيرة لا يُراد بها إلا تركيع الأُمم الضعيفة لنظام الأمم القوية، التي تضع القوانين وقتما شاءت وتنتهكها وقت شاءت! أين القانون الدولي الآن من قتل الأطفال والنساء والعجزة والعُزل؟! أين معاهدات الحرب الدولية من الحق في المياه والدواء ومنع قصف المنازل والمستشفيات أثناء الحروب؟! أين اليونسكو من قصف المساجد والكنائس؟! أين منظمات حماية المرأة ومجالس المرأة من قتل النساء والاعتداء عليهن؟!

هل تعلم كم اتفاقية دولية انتهكها هذا الكيان المجرم المحتل؟!

أكثر من ١٤ اتفاقية دولية من بينها معاهدات جنيف الأولى والثالثة والرابعة فضلًا عن بروتوكولاتها؛ التي يتغنون بها في كتب القانون الدولي، وفي أقل من أسبوعين، عشرات المواد في كل اتفاقية انتُهكت، وجرائم حرب بالجملة، وحتى الآن لم تصدر إدانة واحدة لهذه الجرائم أو اتخذت أي إجراءات ضد هذا الكيان المجرم!

كما قلت، أي جهد لا يصب في توحيد صف المؤمنين وتقويته وتثبيته وتحريضه على المقاومة بكل أشكالها؛ تثبيط لعزيمة المسلمين.

إذًا ماذا نملك وماذا علينا أن نفعل؟

النصرة: ماذا نملك؟ وماذا علينا أن نفعل؟

قال تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} [سورة التوبة: الآية 14]، فأي تمكين أو رفع للظُلم بين الناس لا يحدث عبثًا، هو مُراد الله قطعًا، يحدث بيد المُستضعف أو المظلوم أو بيد غيرهما، لكن القيمة الحقيقية والمعنى الأبلغ في حدوث التمكين بيد المُستضعف أو رفع الظُلم بيد المظلوم: تمام شفاء الصدور من الألم وإذهاب غيظ القلوب، فجعلت الآية النصر، وشفاء الصدر، وذهاب غيظ القلب، قرين ما لحق المغلوبين من الذل والهوان والخزي، إذ شاهدوا أنفسهم مقهورين بأيدي الغالب، مصائرهم بين يدي الذي كان مصيره بالأمس بين أيديهم هم.

وليس يشف صدوركم فقط، بل صدور قوم مؤمنين!

لا شك أن أحد المعاني المركزية التي أكدت عليها الشريعة؛ “الاستطاعة”، قال تعالى: {لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} [سورة البقرة: الآية ٢٣٣]، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [سورة البقرة: الآية ٢٨٦]، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [سورة الطلاق: الآية ٧]، {وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [سورة المؤمنون: الآية ٦٢]، {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [سورة البقرة: الآية ١٨٥].. فكل الأوامر والنواهي الشرعية؛ الاستطاعة إما أن تكون ركنًا فيها أو شرطًا أو سببًا أو علة، لأن الإسلام دين رحمة، جاء بما يوافق فطرة الناس، وأتى بما يناسب استعداداتهم الروحية والجسدية.

لكن عذرك بالاستطاعة هنا – ونحن في مجال الكلام عن النصرة – يجب أن يكون حقيقيًّا، أي لا تنتقل من حال أعلى إلى حال أدنى إلا بعذر حقيقي تنتفي به الاستطاعة في التكليف الأعلى، فحين يتوجب عليك أن تنصرهم بالمال أداءً أو امتناعًا، أداءً لهم وامتناعًا عن عدوهم؛ فلا ينبغي أن تكتفي بالدعاء!

على كل مسلم أن يبذل ما استطاع لهم، من يملك أن ينصر بنفسه ويشاركهم الجهاد والرِّباط يفعل.. ‏من يملك المال أو إيصاله لهم يُنفق ويوصل.. ‏من يستطيع البيان يتكلم ويكتب؛ يرفع صوتهم ويُبين الحق ويفضح الباطل ويُثبت المؤمنين.. ‏وفي كل الأحوال، نملك جميعًا الدعاء لهم وتثبيتهم بالكلمة، نملك إضعاف عدونا وعدوهم بالمقاطعة، نملك مشاركتهم همومهم؛ نفرح لفرحهم ونحزن لحزنهم.

‏اليوم لا نستطيع مشاركتهم جهادهم ورِّباطهم؛ فلنعد ونستعد؛ نكتسب ما استطعنا من قوة بكل أشكالها، ونربي أولادنا على أن يكونوا رجالًا مثلهم، وهو واجب كل أم وكل أب.

‏وليبدأ كل منا لا ينظر لغيره، إن كان قد بدأ أم لا، يقول محب الدين الخطيب رحمه الله: “أما نحن فقد رضينا أن نكون غُثاءً كغُثاء السيل، وسنظلُّ غثاءً حتى نَرجِعَ مسلمين، فيصهرنا الإسلام بحرارته، ويجعلنا كما كان أجدادنا أُمة عمل، فنتأهلُ بذلك للخلافة على الأرض، ولكن متى نبدأ؟!

‏سنبدأ يوم يُبادر كل واحد منا فيبدأ، غير مُلتفت إلى غيره إن كان قد بدأ أم لا”.

ومن عظمة هذا الدين ورحمته أنك غير مطالب بنتائج، كل نصوص الشريعة تضافرت على كونك مُكلف مأمور بالفعل لا النتيجة، بل ولا حتى انتظار النتيجة.. فقد تتحقق وتقر بها عينك، وقد لا تراها في حياتك وينعم بها من بعدك، وربما لا تتحقق كليةً!

كان سيد قطب رحمه الله يقول: “كانوا أُجراء عند الله.. حيثما وكيفما أرادهم أن يعملوا؛ عملوا، ثم قبضوا الأجر، ليس لهم ولا عليهم أن تتجه الدعوة إلى أي مصير، فذلك شأن صاحب الأمر لا شأن الأجير”!

لماذا؟!

لأن الدنيا ليست مستقرًا للمؤمنين، المستقر الجنة، والجنة مضمونة بثمن واضح معلوم هو “فعل” المأمور والصبر عليه، وهو جوهر فكرة السمع والطاعة، {إنِّي جَزَيْتُهُمُ اليَوْمَ بِما صَبَرُوا أنَّهم هُمُ الفائِزُونَ} [سورة المؤمنون: الآية ١١١]، لذلك حين أسلم الصديق رضي الله عنه، رجع إلى أهله يقول: “وجدتُ بضاعةً بنَسيئة، ما وقعتُ على بضاعةٍ قط أنْفَس منها، قيل: ما هي؟ قال: “لا إله إلا الله”!

لن تُدرك حقيقة الدين وعظمته، إلا حين تعلم أن الدنيا على قدرها في النفوس ومحبتها وتعلق القلوب بها؛ لا تساوي شيئًا في حق الله تعالى، كل نعيم الدنيا ولذاتها لا يعدلُ غمسة واحدة في النار، وكل شقاء الدنيا وآلامها؛ لا يعدلُ غمسة واحدة في الجنة.

{لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا في البِلادِ * مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهم جَهَنَّمُ وبِئْسَ المِهادُ} [سورة آل عمران: الآيتان ١٩٦: ١٩٧].

Share via
Copy link